تركيا: خيارات الطاولة السداسية بعد انسحاب الحزب الجيد
الجزيرة نت، 6 آذار/مارس 2023
بعد يوم واحد فقط من اجتماع الطاولة السداسية المعارضة في تركيا واستباقاً لاجتماع آخر مقرر بعدها بأيام قليلة فقط، خرجت رئيسة الحزب الجيد ميرال أشكنار في مؤتمر صحافي بعد اجتماع مع قيادات حزبها لتعلن عدم الموافقة على ترشيح رئيس حزب الشعب الجمهوري وزعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو للانتخابات الرئاسية كمرشح توافقي للطاولة.
أبعد من الانتخابات
بالنسبة للأحزاب السياسية وتحديداً رؤسائها، ليست نتيجة الانتخابات المرجوة أو المتوقعة هي المعيار الوحيد الذي يصوغون على أساسه موافقهم وقراراتهم. فمآلات ما بعد الانتخابات تكون أحياناً أثقل في ميزان صانع القرار من نتائجها، سواء ما يتعلق بموقع الحزب من الحياة السياسية أو موقع رئيس الحزب فيه، أي حسابات الموازنات والمآلات داخل الأحزاب وفيما بينها.
ولذلك مثلاً، قدم زعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو في انتخابات 2018 منافسه التقليدي في الحزب محرم إينجة مرشحاً للانتخابات الرئاسية “ليخسر هو كذلك أمام أردوغان” ويفقد بالتالي ورقته الأقوى ضده داخل الحزب، فيما قبل الأخير الترشح بهدف إضعاف الأول في رئاسة الحزب وخلافته فيها.
في نفس الانتخابات، أفشلت ميرال أكشنار نفسها فكرة المرشح التوافقي حين أصرت على ترشيح نفسها لتعظيم فرص حزبها في الانتخابات البرلمانية، وهو ما حصل.
ولأسباب مشابهة، يرفض كليتشدار أوغلو بإصرار ترشيح رئيس بلدية من داخل حزبه لرئاسة الدولة إذ قد يعني ذلك خسارة منصبه، ويرفض رؤساء البلدية الترشح دون إرادة حزبهم ورئيسه حتى لا يغامروا بمناصبهم في البلدية والحزب.
وبنفس المنطق يمكن فهم مدى ارتباط الأحزاب الصغيرة المستجدة على الساحة السياسية، لا سيما تلك التي انشقت عن العدالة والتنمية، بحزب الشعب الجمهوري وقراره إذ أن دخولهم البرلمان وبقاءهم في الحياة السياسية ما بعد الانتخابات مرهون به إلى حد كبير.
وبالعودة لأكشنار، فرغم أهمية الانتخابات بالنسبة لها إلا أن هدفها الأبرز يتمثل في جعل حزبها أكبر أحزاب المعارضة وربما مجمل الأحزاب السياسية تحت قبة البرلمان المقبل من جهة، ووراثة حزب الحركة القومية بعد رحيل رئيسه دولت بهجلي المتقدم في السن من جهة ثانية، وتمثيل تيار يمين الوسط من جهة ثالثة. وفيما يتعلق بالانتخابات نفسها، تريد أكشنار أن تبقى في موقع “صانعة الملوك”، بأن تحدد هي اسم المرشح التوافقي للطاولة السداسية فيكون لها هذا الفضل في انتخاب الرئيس كما كان دعمها ليافاش وإمام أوغلو من أهم أسباب فوزهما في الانتخابات البلدية في 2019.
خيارات
رسمياً، لم تعلن أكشنار انسحاب حزبها من الطاولة السداسية، ولكن مضمون كلامها وأسلوبه وصياغاته تعني ذلك من الناحية العملية. إلا أن ذلك لا يبدو حتمياً أو قراراً نهائياً. فمنذ لحظة إعلانها عن موقف حزبها اشتعل المشهد السياسي في أنقرة وتسارعت التصريحات والبيانات واللقاءات بغية البحث عن حل للمعضلة التي وضعت فيها الإطارَ التنسيقي للمعارضة.
وهنا، تبدو الطاولة السداسية – حتى اللحظة – ومعها الحزب الجيد بقيادة أكشنار أمام عدة خيارات أو سيناريوهات محتملة أهمها:
الأول، عودة الحزب الجيد للطاولة السداسية. يبدو ذلك احتمالاً ضعيفاً جداً بعد كل ما قالته أكشنار عن رؤساء الأحزاب الخمسة الأخرى وفي مقدمتهم كليتشدار أوغلو، من تغليب المصالح الشخصية على مصلحة الوطن إلى محاولة فرض خيارات بعينها بعيداً عن العقل الجمعي والتشاور.
لكنه بالتأكيد ما زال خياراً قائماً لا سيما بعد الموقف الأولي الذي صدر عن يافاش وإمام أوغلو والذي تضمن رفضهما فكرة الترشح للرئاسة “خارج إرادة رئيس حزبنا” كليتشدار أوغلو. ولذلك يمكن للرجلين أن يضطلعا بدور الوساطة بين أكشنار والطاولة السداسية بما يملكان من علاقات جيدة مع كليهما فضلاً عن موقعهما الرمزي كمرشحين محتملين، ويمكن لأطراف أخرى أن تقوم بنفس الدور، وهو أمر متوقع جداً. من جهة ثانية، من المستبعد أن يكون هناك إجماع داخل الحزب الجيد على قرار الخروج من الطاولة السداسية، فإن واجهت أكشنار معارضة قوية داخل حزبها سيكون ذلك من دوافع العودة.
حينها، إن حصل، سيكون بإمكان أكشنار أن تقول إنها استفرغت جهدها وأوضحت موقفها وحذرت من أن خيار كليتشدار أوغلو قد يتسبب بخسارة الانتخابات، وبالتالي إن خسرها الأخير ستكون أكشنار هي الرابحة الفعلية من هذه المواجهة في المدة التشريعية المقبلة، لا سيما أنها ستسوّق عودتها للطاولة السداسية على أنها تغليب للمصلحة العامة رغم عدم القناعة وأنها أعذرت ولكنها نزلت في النهاية عند رأي الأغلبية.
الخيار الثاني هو تحديد اسم مرشح مختلف. بمعنى عودة الحزب الجيد للطاولة السداسية لكن على أساس اختيار مرشح آخر غير كليتشدار أوغلو، يافاش (الأوفر حظاً) أو إمام أوغلو أو غيرهما، وربما من خارج الطاولة السداسية و/أو أحزابها.
وهذا أيضاً خيار ضعيف الحظوظ بشكل لافت، ذلك أنه سيظهر كليتشدار أوغلو وكأنه نزل عند رغبة أكشنار التي ستبدو أقوى منه، وهذا أمر سيرفضه هو وحزبه على حد سواء.
لكنه يبقى خياراً ممكناً إن تراجع أحد أحزاب الطاولة السداسية أو بعضها عن دعم ترشيحه، أو حصل ضغط داخل حزب الشعب الجمهوري عليه لسحب ترشحه، أو خلص من المشاورات التي يجريها إلى أن إيجاد بديل للحزب الجيد لن يكون سهل المتناول.
فإن كان هذا الخيار، يمكن لكليتشدار أوغلو هذه المرة أن يسوق تراجعه على أنه تغليب للمصلحة العامة المتمثلة بوحدة الطاولة السداسية وبالتالي الفوز بالانتخابات، مذكراً ببعض تصريحاته السابقة برغبته في التقاعد في الفترة المقبلة وعدم نيته الاستمرار في العمل السياسي.
وأما الخيار الثالث فهو بقاء الحزب الجيد خارج الطاولة السداسية. هذا الخيار المرجح، والذي سيحولها لـ”طاولة خماسية” بشكل مبدئي، يساهم فيه الحدة التي صاغت بها أكشنار موقفها، والاتهامات التي وجهتها للأحزاب الأخرى، وفجوة الثقة التي تعمقت، وصعوبة النزول عن الشجرة، ومواقف الأحزاب الأربعة الأخرى التي يبدو أنها باقية على موقفها من ترشيح كليتشدار أوغلو، فضلاً عن أن الأخير قد بدأ بالبحث عن بديل للحزب الجيد بالفعل.
هذه البديل قد يكون بعض الأحزاب اليسارية وفي مقدمتها حزب الشعوب الديمقراطي الذي قد لا ينضم – ومن الصعب أن ينضم – للطاولة بشكل رسمي لكن يمكنه دعم كليتشدار أوغلو بعدم تقديم مرشح خاص به أو بتحالفه معظماً فرصه بشكل ملحوظ.
في حالة كهذه، سيكون على الحزب الجيد أن يقدم مرشحاً رئاسياً خاصاً به، قد يكون هذه المرة أكشنار نفسها أو أي شخصية أخرى، وقد يدخل في تحالف جديد مع بعض الأحزاب الصغيرة الأخرى. بل إن اقتراب الحزب من حزب العدالة والتنمية وتحالف الجمهور قد يكون خياراً ممكناً لا سيما إن ظهر أن الشعوب الديمقراطي سيدعم كليتشدار أوغلو، وإن كان انضمامه للتحالف الحاكم بشكل رسمي مستبعد جداً.
أخيراً، لا شك أن الخلاف الكبير الذي دب بين أوساط المعارضة وتحديداً الطاولة السداسية قد خصم من رصيد الأخيرة بشكل لافت وأظهر التنافس وعدم القدرة على التفاهم والتنسيق فيما بينها على بعد أسابيع فقط من انتخابات مصيرية، وهذا بالتأكيد يصب في صالح الرئيس أردوغان.
لكن ذلك لا يعني بالضرورة فوزه من الجولة الأولى، ذلك أن تقديم المعارضة أكثر من مرشح (كما يبدو أنه سيحصل) يرفع من فرص عدم الحسم في الجولة الأولى والاحتكام لجولة إعادة في الانتخابات الرئاسية. ومن المنطقي والمتوقع أن جولة الإعادة ستخضع لمنطق التفاوض والمساومات وعقد الصفقات بين مختلف الأطراف، وهو أمر لا يمكن الجزم بمآلاته وتأثيره على نتيجة الانتخابات من الآن، حيث تبقى كافة الاحتمالات مفتوحة ومن بينها احتمال تحالف بعض خصوم اليوم.