هل انتهت عملية درع الفرات فعلاً؟
الجزيرة نت
أعلن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم في 30 من آذار/مارس عن انتهاء عملية درع الفرات في سوريا بعد 215 يوماً على بدئها، محتفظاً لبلاده بحق مكافحة “المنظمات الإرهابية” مستقبلاً في عمليات ستحمل اسماً مختلفاً.
أهداف وأرقام
جاء تصريح يلدرم بعد اجتماع مجلس الأمن القومي التركي الذي انعقد برئاسة اردوغان، والذي ذكر في بيانه أن “عملية درع الفرات التي أطلقت لضمان أمن حدودنا، ومنع تهديد واعتداءات داعش الإرهابي على بلدنا، وإتاحة الفرصة لأشقائنا السوريين الذين هجروا من أماكنهم للعودة إلى بلدهم والعيش في منطقة درع الفرات بأمن وطمأنينة، قد تكللت بالنجاح”.
وكانت تركيا قد أعلنت عن بدء العملية في 24 من آب/أغسطس 2016 لتحقيق جملة من الأهداف في مقدمتها حماية الحدود التركية والحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومواجهة “كافة التنظيمات الإرهابية بما فيها داعش وحزب الاتحاد الديمقراطي”، وخاضتها بالتعاون مع مجموعات من الجيش السوري الحر كقوة محلية ميدانية.
سيطرت القوات التركية والسورية سريعاً على بلدة جرابلس الحدودية، ثم استمرت بالتوسع جنوباً وغرباً مروراً بالراعي ثم دابق ذات الرمزية المهمة بالنسبة لتنظيم الدولة – داعش، وصولاً إلى مدينة الباب المعقل الثاني للتنظيم في سوريا، وهي المدينة التي أعلنت تركيا عن سيطرة درع الفرات عليها في 24 من شباط/فبراير الفائت.
وقد أعلنت القوات المسلحة التركية في بيان أصدرته قبل أيام عن السيطرة الكاملة على 243 منطقة مأهولة بالسكان ومساحة 2015 كلم2 من الأراضي و”تحييد أكثر من 3000 إرهابي” في إطار عملية درع الفرات حتى نهاية مرحلة الباب، سقط خلالها 71 جندياً تركياً دون إشارة رقمية واضحة لعدد قتلى الجيش السوري الحر.
أسباب وسياقات
الإعلان عن نهاية عملية درع الفرات بعد مرور أكثر من شهر على السيطرة على الباب يشير بوضوح إلى أسباب خارجية أكثر من عوامل ذاتية متعلقة باستكمال العملية لخطواتها وتحقيقها الأهداف المرجوة منها، سيما وأن الساسة الأتراك رددوا غيرَ مرة بأن الباب ليست المرحلة الأخيرة في العملية في إشارة واضحة إلى كل من منبج والرقة وربما عفرين.
سارت درع الفرات دون عقبات تذكر في بداياتها، بيد أن سيطرتها على الباب أعقبها تحركات سريعة من عدة أطراف حاصرتها وسدت طريق التقدم عليها وعقّدت حساباتها. فقد قطعت قوات النظام طريق الرقة ومنبج على القوات التركية والسورية المتعاونة معها، فيما سلمت وحدات حماية الشعب (الكردية) بعض القرى في ريف منبج للنظام بوساطة روسية، إضافة لنشر الولايات المتحدة قوات إضافية في محيط المدينة لمنع الاحتكاك بين الأتراك والأكراد ثم الإنزال الجوي المشترك مع قوات سوريا الديمقراطية قرب سد الطبقة.
سياسياً، تتعاون واشنطن بشكل شبه حصري مع وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية، وتصر موسكو على دعوة حزب الاتحاد الديمقراطي للمفاوضات السياسية إضافة لإشارات “الإدارة الذاتية” التي تضمنها مقترح الدستور الذي أعدته، في تجاهل واضح لتحفظات أنقرة إزاء الحزب وأذرعه العسكرية المصنفة على قوائم الإرهاب التركية.
أكد اردوغان مراراً أن منبج هي الخطوة التالية بعد الباب، وكرر المسؤولون الأتراك رغبتهم بالمشاركة في معركة الرقة بشرط استثناء وحدات الحماية وقوات سوريا الديمقراطية، إلا أن رغبات أنقرة اصطدمت بقرار أمريكي حاسم. احتضنت أنطاليا التركية في السابع من آذار/مارس اجتماعاً لرؤساء أركان كل من تركيا وروسيا والولايات المتحدة لتنسيق الجهود في سوريا والعراق و”منع الصدامات غير المرغوبة”، إلا أنه لم يسفر وفق المعلن عن تفاهم يرضي أنقرة.
وضعت هذه التطورات تركيا أمام خيارات صعبة تتراوح بين التهدئة والانكفاء أو المواصلة والمواجهة، ليس فقط مع النظام والفصائل الكردية ولكن مع الدول الداعمة لهما أي روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وهو أمر خارج عن رغبة أنقرة وقدراتها بطبيعة الحال. دخول تركيا شمال سوريا بهدف “مكافحة الإرهاب” وليس مواجهة الأسد لا يضطرها فقط إلى التوقف، ولكن يطرح أيضاً أسئلة المشروعية على درع الفرات بعد الباب وبقاء القوات التركية على الأراضي السورية، سيما وأن دخولها في الأساس أتى بتفاهم مع الروس وضوء أخضر من الأمريكان.
أعلنت تركيا عن درع الفرات عشية زيارة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن ثم أعلنت عن انتهائها عشية زيارة وزير الخارجية ريكس تيلرسون لها، وهي إشارة ذات دلالة لا تخفى. لم تكتف واشنطن بالإصرار على التعاون مع قوات سوريا الديمقراطية (التي تشكل وحدات الحماية معظمها) في معركة الرقة، بل رفضت مشاركة البدائل المحلية التي طرحتها تركيا مثل الجيش السوري الحر الذي اختبر وتمرس في درع الفرات و”بيشمركا روج آفا” الكردية التي تدربت في العراق على عين البارزاني، إضافة إلى تأجيلها البت في مشاركة تركيا في المعركة.
من جهة أخرى، يأتي الإعلان قبل 18 يوماً فقط من الاستفتاء الشعبي على التعديل الدستوري الذي يحول نظام الحكم في البلاد إلى رئاسي، وهي محطة توليها القيادة السياسية أهمية وأولوية بالغتين، الأمر الذي يحمل معاني المسارعة إلى الإعلان عن “إنجاز” عسكري مهم وتجنب أي خسائر غير محسوبة قد تؤثر في النتيجة.
هل انتهت العملية فعلاً؟
جاء الإعلان التركي عن نهاية درع الفرات وتحقيق أهدافها في بيان مجلس الأمن القومي وعلى لسان رئيس الوزراء واضحاً وحاسماً، لكن هل انتهت العملية فعلاً؟ وهل يتوقع مغادرة القوات التركية الأراضي السورية قريباً؟ ليس من السهل الجزم بذلك في ظل المعطيات القليلة المتوفرة بين أيدينا، بيد أن بعض التفاصيل والإشارات والسياقات ستكون مفيدة في الاستشراف.
مبدئياً، فالإعلان عن نهاية العملية مرتبط بالحرص على تسجيل الإنجاز ومتأثر بالظروف المحيطة أكثر من تحقيق كامل الأهداف المعلنة مسبقاً، وبالتالي فهو يحيل إلى الانتقال من مرحلة لأخرى أكثر من إسدال الستار على العملية برمتها. وهو خيار تلجأ له الدول عادة وأمثلته كثيرة، في مقدمتها الإعلان عن نهاية “عاصفة الحزم” وبدء “إعادة الأمل” في اليمن، أو تغليف روسيا إعادة انتشارها في سوريا بعنوان “الانسحاب” وتقليل عدد القوات.
من جهة أخرى، فقرب موعد الاستفتاء الشعبي في تركيا لا يتيح إمكانية الانسحاب السريع من سوريا لما تحتمله العملية من مخاطر كثيرة وحاجتها للتنسيق والتخطيط المحكم، فضلاً عن وضع الرأي العام قبيل الاقتراع الهام في الحسبان.
ما زال منع المشروع الكردي في شمال سوريا أولوية بالنسبة لأنقرة وما زال تهديد داعش وغيرها لها قائماً، وبالتالي فلا يتوقع منها أن تنكفئ تماماً عن الساحة السورية وتفتح الباب مرة أخرى لانعكاساتها السلبية عليها، الأمر الذي ينسجم مع تصريحات يلدرم وبيان مجلس الامن القومي اللذيْن أشارا إلى استمرار خطر “المنظمات الإرهابية” وحق تركيا في مواجهتها. الأهم من ذلك أن تركيا ستبقى حذرة ومحذرة من أي تطورات ميدانية تستهدف وصل الكانتونات الجغرافية التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي بما قد يعيد تفعيل مشروع الممر الكردي أو الدويلة الكردية على حدودها الجنوبية.
من جهة أخرى، يتضمن الإعلان التركي الحديث عن نهاية العملية معنى الامتناع عن أي خطوات ميدانية إضافية، دون الإشارة إلى فكرة الانسحاب من سوريا. فالأهداف التي رسمت للعملية أي حماية الحدود ومواجهة الإرهاب وإعادة السوريين إلى أراضيهم تتطلب ضمنياً وجود قوات حامية لها. ومن غير المنطقي أن تترك تركيا الأراضي التي حررتها من داعش رفقة الجيش السوري الحر دون ضمانات وقبل بلورة حل سياسي شامل للأزمة السورية. صحيح أن الجيش الحر قد يستطيع القيام بدور ما هناك، لكن التواجد التركي في المنطقة أو قريباً منها سيكون الضمانة الأولى لعدم حصول تطورات دراماتيكية تؤثر على العملية وأهدافها.
إضافة إلى كل ما سبق، فليس معلوما ولا معلناً حتى الآن علام اتفقت تركيا مع كل من الولايات المتحدة وروسيا بخصوص سوريا. فرغم كل ما سبق ذكره من عوامل ضاغطة على أنقرة، إلا أنه من المستبعد تراجعها وانسحابها دون ضمانات أمريكية – روسية بخصوص خطوطها الحمراء إزاء الملف الكردي، ودون أفكار واضحة فيما يتعلق بالمنطقة الآمنة التي تطالب بها تركيا منذ سنوات وأشار ترمب إلى إمكانية تحقيقها مؤخراً دون إعطاء تفاصيل.
أكثر من ذلك، ثمة سيناريوهات تركية تتعلق بمنطقة “سنجار” التي يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني في العراق، والتي هددت تركيا خلال أزمتها مع بغداد بين يدي بدايات معركة الموصل بأنها قد تكون إحدى مسوغات تدخل تركيا عسكرياً باعتبار أن سيطرة المنظمة المصنفة على قوائم الإرهاب التركية على المنطقة خط تركي أحمر، ومن هنا تسرِّبُ كواليسُ أنقرة خططاً عن عملية “درع دجلة” قد تنطلق قريباً بعد الاستفتاء على التعديل الدستوري.
في المحصلة، يمكن اعتبار الإعلان التركي نهاية مرحلة وبداية أخرى في مقاربة أنقرة للأزمة السورية (والمنطقة) أكثر من كونه محطة نهائية لها، سيما في ظل حالة السيولة الشديدة في المشهد السوري وعدم اتضاح فرص نجاح المسار السياسي واستمرار تهديد مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي لتركيا.