أما وقد فاز محمد عساف بلقب “عرب آيدول” أو محبوب العرب، فيحق لنا – بل وجب علينا- أن نهنئه بهذا الفوز بعد أن حقق هدفه الذي سعى إليه، وحُقَّ لنا أيضاً أن نسجل على هامش هذه المشاركة وهذا الفوز بعض الملحوظات.
لا يختلف اثنان على أهمية الثقافة والأدب والفن في بناء الوعي المجتمعي وصياغة هوية الأمم، حتى في البلاد المحتلة مثل فلسطين. بل لعلنا أحوج من غيرنا لحالة ثقافية وأدبية وفنية تدعم وترفع حالة المقاومة للاحتلال، وتسهم في بناء الإنسان. ولطالما كان القلم صنو الرصاصة ورفيق دربها في مسيرة الشعب الفلسطيني، لكل منهما دوره ومجاله، لا يقصر فيه ولا يتخطى حدوده.
ملأت مشاركة الفنان محمد عساف في برنامج “عرب آيدول” الدنيا وشغلت الناس، متابعة ونقاشاً وحتى خصاماً وانتقاداً. رآه البعض خير ممثل لقدرة الشعب الفلسطيني على الاستمرار في الحياة رغم الصعاب، بينما اعتبره آخرون لاهياً في وقت الجد وملهياً عما هو أهم. لكن الحق يقال أن أكثر النقد لم يوجه لشخص عساف، بل للبرنامج الذي يصنف ضمن برامج الربح السريع وصنع النجومية المزيفة. لقد ثقل على الكثيرين أن ينشغل المواطنون (والشباب تحديداً) بمتابعة البرنامج بهذه الكثافة وهذا الاهتمام، بينما يعاني الشعب الفلسطيني (والأمة العربية والإسلامية بشكل عام) من مصائب لا تعد ولا تحصى.
والآن، وبعد أن انفض السامر، نستطيع أن نقول أن مشاركة عساف في البرنامج كان لها نتيجة أخرى لا تقل أهمية عن الفوز باللقب. لقد كشفت هذه المشاركة وما دار حولها من نقاش ولغط عن عُوار – بل عورات – في حالتنا الثقافية، مثل فقرنا الثقافي، وسطحية الكثيرين، والحدة في التقييم، والمزايدة على بعضنا البعض، ونبذ الحوار، ورفض الآخر، وغيرها من آفاتنا المجتمعية.
لقد حلا للبعض أن يرى في الفنان الشاب سفيراً فوق العادة لبلده، ورافعاً لرايتها، و”صاروخاً” آخر من صنع هذا الشعب، وبطلاً ينافس أو يشارك سامر العيساوي (كان ما زال مضرباً عن الطعام حينها) في صموده وتضحيته. في حين أن عساف نفسه لم يدّع لنفسه شيئاً من هذا، فقد كان هدفه أن يشارك في مسابقة فنية ويفوز بلقبها.
وفي حين كان محمد يتخطى الجولة تلو الجولة في المسابقة، كانت صفحات الإنترنت تعج بالحوارات الساخنة والاتهامات المتبادلة وغياب لغة الحوار وقبول الرأي الآخر، في شعب يعشق تزوية الدوائر (عكس تدوير الزوايا)، ولا يرى في الكون إلا اللونين الأبيض والأسود. البعض لم ير في البرنامج إلا الأغاني “الهابطة” وتمييع الشباب، والبعض ما سمع فيه إلا الأغاني الوطنية المترنمة بحب فلسطين. لا اقتنع الفريق الأول بإمكانية تقديم فن وطني، ولا الفريق الثاني قبل حتى بانتقاد البرنامج وأهدافه وسياسته (فضلاً عن انتقاد عساف نفسه).
وكما غيره من مفردات حياتنا اليومية، كان المطرب الواعد أداة حاول البعض استغلالها لأجندته السياسية، حتى أن البعض أقحمه في تفاصيل الانقسام السياسي الممسك بتلابيب القضية الفلسطينية منذ سنوات. كانت حالة عساف فرصة ثمينة للبعض لمهاجمة خصمه السياسي، واتهامه بأنه عدو للفن والإبداع، إضافة لكونها سانحة لتحشيد الشارع خلف المتابعة والتصويت للمطرب الفلسطيني تحت دعاوى الوطنية والمصالح العليا (يراها البعض إلهاء وتغييباً).
هذا التحشيد بعد مشاركة عساف فتح ملف الحالة الثقافية لنا كشعب فلسطيني تحت الاحتلال على مصراعيه. ترى كم لدينا من المبدعين الشباب في شتى المجالات دون أن ينتبه لهم أحد؟ وهل دور القيادات السياسية والفصائل المختلفة والإدارات المحلية دعم من يبرز من الشباب، أم الأخذ بيد الشباب حتى يبرز منهم كثيرون؟ أين جهود النهوض بالواقع الثقافي كجزء لا يتجزأ من مشروع المقاومة والتحرير، والارتقاء بوعي الشعب والحفاظ على هويته؟
الآلاف المؤلفة الذين تابعوا عساف، والملايين الذين صوتوا له طرحوا أيضاً تساؤلات مشروعة عن أولويات الشباب ومدارات تفكيرهم وما يجذب اهتمامهم. ولئن رآى البعض في اهتماماتهم الكروية أو الفنية طامة كبرى، فيجب هنا أن يتساءل كل منا عن دوره ومسؤوليته في هذه الطامة؟؟ ماذا فعل كل سياسي، وداعية، ومثقف، وإعلامي، ومدرس لهؤلاء الشباب، لتوعيتهم والرقي بهم، وجذبهم من ساحات كرة القدم والغناء إلى ساحات العمل الوطني البنـّاء الفاعل، ومناصرة قضايا الأمة، من الأسرى والأقصى، إلى ميانمار وسوريا؟
أخيراً فاز عساف باللقب وحقق هدفه، ورفع الحرج عن كل من تعذر به أو هاجمه أو امتدحه. وفي حين يعود الجميع الآن كلٌّ لمجاله ونطاق عمله، نرجو أن يفكر الجميع في كيفية استثمار طاقات الشباب وجماهير الوطن في نصرة قضاياه الأكثر أهمية وخطورة وإلحاحاً.
أكرر التهنئة لمحمد عساف، وأدعو لصوته أن يكون دائماً في نصرة شعبه وقضيته ودينه، وأن يكون فعلاً صوت فلسطين إلى العالم، وحاملاً رسالتها بحق: رسالة مقاومة الاحتلال وبناء الإنسان.