قراءة في التفاهمات التركية – الأمريكية بخصوص “نبع السلام”
TRT عربي
في ظل أجواء محتقنة بين الطرفين وبما شكل مفاجأة نسبية، توصل الجانبان التركي والأمريكي يوم أمس الخميس لتفاهم بخصوص عملية “نبع السلام” في شمال شرق سوريا.
جاء اللقاء بعد عدة مؤشرات على تغير محتمل في الموقف الأمريكي من العملية، وضغوط من البيت الأبيض على أنقرة لوقفها، وبعد رسالة وصفت بالفضيحة من ترمب لنظيره التركي، ما أوحى بلقاء صعب وحساس – كاد يلغى – بين اردوغان ونائب الرئيس الأمريكي مايك بنس.
المؤشرات على المحادثات الصعبة بين الجانبين كانت واضحة في تعابير الوجوه المتجهمة وفي طول المباحثات على مدى أكثر من أربع ساعات ونصف بين الجانبين – فردياً وبين الهيئتين – وصولاً لعدم عقد مؤتمر صحافي مشترك للإعلان عما تم التفاهم عليه.
جاء الاتفاق في 13 مادة تتعلق بعملية نبع السلام والأوضاع في مناطق شرق الفرات وعموم الأراضي السورية وكذلك العلاقات الأمريكية – التركية، حيث شددت عدة مواد على علاقة التحالف والشراكة بين الجانبين اللذين تجمعهما عضوية حلف الناتو. لكن المادة الأهم فيه ترتبط بتعليق تركيا العملية لمدة 120 ساعة (5 أيام) للسماح بانسحاب مسلحي وحدات الحماية من المنطقة الآمنة.
يمكن القول إن هناك أسباباً رئيسة ثلاثة وقفت خلف هذا الاتفاق الذي حرصت عليه واشنطن، أولها الحرص الأمريكي الواضح على مصير وحدات الحماية أو قوات سوريا الديمقراطية وعدم تخليها الكامل عنها. أما الثاني فهو العملية التركية التي فرضت معادلات جديدة في شرق الفرات بما أكسب أنقرة ندية أكبر في المفاوضات مع واشنطن. والثالث عدم رغبة الولايات المتحدة بمكاسب خالصة وتمدد كبير لروسيا من خلال دخول النظام السوري لعدة مناطق فضلاً عن التفاهمات التي يمكن أن تقرب وحدات الحماية أكثر فأكثر من موسكو وتبعدها عن واشنطن.
بهذا المعنى، كانت هذه هي المعركة السياسية/الدبلوماسية المكملة للمعركة العسكرية الميدانية، والتي ما كان لها أن تخرج بهذه الصورة لولا إنجازات الثانية. فما رفضته واشنطن او ماطلت به طويلاً وافقت عليه اليوم وتسوقه على أنه إنجاز بعد الأيام الأولى السريعة من “نبع السلام” وما حققته وما كانت تهدف له.
بشكل أولي، يحقق هذا التفاهم لأنقرة المكتسبات التالية:
أولاً، يضمن لها الجزء الأكبر من المرحلة الأولى من العملية التي كانت أعلنت عنها، فضلاً عن تفهم أمريكي صريح لحساسياتها الأمنية في الشمال السوري.
ثانياً، إقرار أمريكي مكتوب بالمنطقة الآمنة التي تنادي بها وتسعى لإنشائها وأنها ستكون “تحت إدارة القوات المسلحة التركية في المقام الأول” مع تعاون الطرفين في تنفيذها.
ثالثاً، تجنبها عقوبات أمريكية إضافية، فضلاً عن تعهد أمريكي بإلغاء العقوبات التي فرضتها مؤخراً بعد إيقاف العملية.
رابعاً، تخفيف الضغوط الدولية التي تعرضت لها أنقرة منذ بداية العملية.
خامساً، تراجع احتمالات استنزاف القوات التركية في العملية إلى حد كبير.
سادساً، عدم الإخلال الكامل بالتوازن بين روسيا والولايات المتحدة في الملف السوري، وهو ما كان سيتم في حالة الانسحاب الأمريكي الكامل، وبما سيفيد روسيا التي كانت ستنفرد بالملف السوري وتزيد إمكانات ضغطها على أنقرة فيه.
ورغم ذلك، ومع النصر الدبلوماسي الذي حققته تركيا مكملاً لتقدمها الميداني، إلا أن التفاهم المبرم لا يخلو من محاذير عديدة. يأتي في مقدمتها عدم الثقة بالمنطلقات الأمريكية وبالتالي التزامها تماماً بما تم الاتفاق عليه، حيث لأنقرة تجربة مريرة ومتكررة مع المماطلات الأمريكية فيما يتعلق بدعمها للمنظمات الانفصالية ومصير منبج والمنطقة الآمنة وغيرها.
ذلك أن تركيا تضع جهد الولايات المتحدة والضغوط التي مارستها عليها ومسارعتها للتفاوض معها في إطار محاولة حماية مصير وحدات الحماية، ما يثبت أن الاستثمار الأمريكي فيها لم ينته تماماً بعد، بدليل أن القوات الأمريكية لن تنسحب من كامل الأرض السورية بعد. كما أن المادة رقم 9 المتعلقة بـ”سحب الأسلحة الثقيلة من أيدي وحدات الحماية، وجعل تحصيناتها ومواقعها العسكرية غير صالحة للاستخدام” ألقيت على كاهل الطرفين معاً ولم تتضمن تعهداً أو التزاماً أمريكياً صريحاً بذلك.
أكثر من ذلك، فقد نشرت وسائل الإعلام التركية تصريحات للمبعوث الأمريكي لسوريا جيمس جيفري مفادها أن القوات التركية قد سيطرت على مناطق واسعة “بسرعة كبيرة” وأنهلولا تدخل الولايات المتحدة “لسيطرت على كامل المنطقة بلا شك”، ما يشير بوضوح لدوافع التدخل الأمريكي وإبرام التفاهم.
ولعل من المؤشرات التي تدفع أنقرة لتكون أكثر حذراً تسويق واشنطن تعليق العملية لعدة أيام على أنه “وقف لإطلاق النار” في محاولة للمساواة أو الندية بين أنقرة والوحدات وهو ما ترفضه أنقرة تماماً. كما أن النص المكتوب لم يشتمل على تحديد واضح لمساحة المنطقة الآمنة امتداداً وعمقاً ما قد يتركها عرضة لتفاسير متضاربة.
المحذور الرئيس وما ستحتاج أنقرة لأن تتابعه عن كثب هو مدى التزام وحدات الحماية بالتفاهمات وانسحابها من المنطقة، لا سيما في ظل تصريحات متضاربة لها بخصوص الاتفاق والمناطق التي يفترض أن تنسحب منها. كما أن تسلم النظام لبعض المناطق أو رفع علمه عليها رمزياً يجعل إمكانية إنشاء المنطقة الآمنة وفق تصور أنقرة وبما يشمل إعادة عدد كبير من اللاجئين السوريين رهناً بالتفاهم مع روسيا، وإلا بقيت ثغرات في الشريط الحدودي، لا سيما في منبج وعين العرب، بين الشرق والغرب.
في الخلاصة، حققت التفاهمات المبرمة مصلحة تركية واضحة في الشمال السوري وأعطت مشروعية لعملية نبع السلام وما أنجزته حتى اللحظة، بضغط التطورات الميدانية وبدافع حرص واشنطن على وحدات الحماية. لكنها تشير كذلك بوضوح إلى عدم رغبة الولايات المتحدة الانسحاب الكامل من سوريا حالياً وعدم تخليها تماماً عن أداتها في المشهد السوري، ما يعني أن التفاهمات الحالية مجرد محطة وليست نهاية المطاف.
ورغم ما حققته أنقرة سياسياً ودبلوماسياً في الاتفاق، ومن ذلك زيادة نفوذها وأوراق قوتها في الملف السوري إزاء روسيا وإيران نسبياً، إلا أن الغموض في بعض المواد قد يفتح الباب على تفسيرات مختلفة للاتفاق. فعدم النص على مساحة المنطقة الآمنة بوضوح وبالتالي ما يجب على الوحدات الانسحاب منه، مثلاً، هو أحد العوامل قد تعقّد تطبيق الاتفاق في حال رغبت واشنطن مرة أخرى بالمراوغة.
ولذا، يمكن القول إن أنقرة سعيدة بالتفاهمات المبرمة، لكنها غير واثقة تماماً بالطرف الأمريكي، ما يبقي عينيها مفتوحة على متابعة عملية الانسحاب وأيديها على الزناد في حال لم يتم كما يجب، ما يعني أن موعد انتهاء الأيام الخمسة سيكون مهماً جداً لتحديد خيارات المستقبل بالنسبة لتركيا.