رسائل طالبان إلى تركيا
عربي 21
بعد لقائه مع نظيره الأمريكي جو بايدن على هامش قمة الناتو في بروكسل الشهر الفائت، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن بلاده مستعدة للاستمرار في مهمة حماية وإدارة مطار كابول الدولي بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، مشيراً إلى مطالب/ضمانات طلبتها بلاده من واشنطن للقبول بهذه المهمة، ومؤكداً أنه لا يمكن “تجاهل حقيقة طالبان في أفغانستان”.
فُهِمَ من ذلك في حينه أن أنقرة أبدت موافقة مبدئية على المهمة، بشرط تقديم الولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي الدعم السياسي واللوجستي والمالي المطلوب لإنجاحها، ولكن أيضاً بشرط ضمني غير معلن وهو عدم معارضة طالبان.
وقد زار وفد عسكري أمريكي أنقرة للحوار مع وزارة الدفاع التركية حول الموضوع، قبل أن تصرح مصادر أمريكية نهاية الشهر الفائت بأن البلدين قد توصلا لاتفاق حول الأمر، إثر موافقة واشنطن على تقديم الدعم لتركيا. إلا أن المصادر التركية تجنبت حتى اللحظة الجزم رسمياً ونهائياً بقبولها مهمة التأمين والإدارة، ما يشير لتخوفات تتعلق بطالبان.
ذلك أن القوات التركية لم تنخرط على مدى سنوات وجودها في أفغانستان في أعمال قتالية ولم تتعرض للاستهداف، لكن ذلك بدا قابلاً للتغيير مع المهمة الجديدة في حال لم تصل لأنقرة لاتفاق علني أو تفاهم ضمني مع طالبان. ويزيد من أهمية الأمر أن الداخل التركي ليس على قلب رجل واحد بخصوص المهمة في كابول، على خلاف سوريا والعراق وليبيا مثلاً، ولا تنظر المعارضة للأمر من زاوية الأمن القومي التركي كما تقول الحكومة.
خلال الشهور الماضية وتحديداً في الأيام القليلة الفائتة صدر عن طالبان عدة إشارات سلبية تجاه الدور التركي المفترض في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي.
أولى هذه الإشارات كانت في تأجيل مؤتمر الحوار الأفغاني في إسطنبول والذي كان يفترض عقده في نيسان/أبريل الفائت. لم تحمّل الروايةُ الرسمية طالبانَ مسؤولية فشل المؤتمر، لكنها تحدثت عن مشاكل تتعلق بتشكيل الوفود، وهو ما فهم ضمناً بأنه موقف من الحركة، التي كانت قد أعلنت عن عدم رغبتها المشاركة في تاريخ بعينه.
اتضح الأمر أكثر بمشاركة طالبان لاحقاً في محادثات مع الحكومة الأفغانية في طهران في الأسبوع الأول من تموز/يوليو الجاري. ثم عودة مسار المفاوضات في جولة جديدة بين الجانبين في الدوحة قبل أيام.
كما أن تصريحات الناطقين باسم طالبان تؤكد نفس المعنى. فقد قال الناطق باسمها في الدوحة محمد نعيم قبل أسابيع إن “الشعب الأفغاني لا يقبل بوجود قوات أجنبية في البلد بأي اسم أو تحت أي عنوان”، في إشارة لتركيا. وقد أعاد نعيم، في حوار مع موقع عربي 21، قبل أيام تكرار نفس المعنى مؤكداً عزم حركته “على القتال ضد القوات التركية في حال بقيت” في أفغانستان وبأن هذا قرار نهائي لا نقاش حوله بالنسبة لحركته، وفق ما أورده الموقع.
وفي الـ 14 من تموز/يوليو الجاري، نشرت القدس العربي لقاءً أجراه الإعلامي التركي توران كيشلاكجي مع المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد حول الأمر، وهو لقاء أكد فيه مجاهد رفض بقاء القوات التركية بناء على اتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية، مؤكداً أن الاتفاق على الانسحاب يشملها هي أيضاً. (على حسابه في تويتر، نفى مجاهد “تصريحات نسبت لي حول تركيا وسوريا وليبيا”، لكنه لم ينف المقابلة بالمطلق، ما يرجّح لدينا أن اللقاء حصل وأن المضمون المتعلق بأفغانستان صحيح)
وقد رفعت طالبان السقف ببيان أصدرته قبل ذلك بيوم (13/7) بعنوان “بيان إمارة أفغانستان الإسلامية حول استمرار احتلال أفغانستان من قبل القوات التركية” حمل لهجة حادة وسقفاً مرتفعاً، بما في ذلك التهديد بالـ “التعامل مع المحتلين وفق الفتوى” التي أصدرها علماء أفغان، أي الجهاد ضد القوات التركية.
بالنظر لكل ما سبق، قد يُظَنُّ أن حركة طالبان ضد وجود تركيا في أفغانستان وضد أي دور لها فيها بالمطلق، لكن ذلك لا يبدو دقيقاً. فكما أن لتركيا مصالح متصورة في البقاء، منها ما يتعلق بأفغانستان والتنافس مع الدول الإقليمية المجاورة وما يرتبط بجوارها مع جمهوريات آسيا الوسطى وما يلي العلاقات مع الولايات المتحدة، فإن لطالبان كذلك مصلحة جوهرية واضحة بالانفتاح على العالم الخارجي وتحصيل القبول ثم التعامل والتعاون معها، وتركيا دولة نموذجية بالنسبة للحركة في هذا الإطار.
ولذلك يمكن عدُّ البيان المذكور والتصريحات العديدة ضمن أوراق الضغط وتحسين شروط التفاوض، إذ تحمل بين سطورها دلالات سلبية وأخرى إيجابية. فإلى جانب رفض بقاء القوات التركية والنظر إليها كقوة احتلال بما يشير ضمناً لاحتمالية استهدافها أو التلويح بذلك على أقل تقدير، هناك الحديث عن “تركيا المسلمة” ورغبة الحركة في التعاون معها وتطوير العلاقات بين الشعبين الأفغاني والتركي.
بالتأكيد أن تقدم طالبان الميداني مؤخراً يقوّي موقفها ويدفعها لرفع السقف تجاه الحكومة الأفغانية ومختلف الأطراف ومن بينها تركيا، لكن ذلك لا يكفي بمفرده لتفسير موقفها. التفسير الأقرب أن طالبان تريد من أنقرة الحوار معها هي وليست مع واشنطن فقط، ويمكن أن تقبَلَ – بل ربما تريدُ – دوراً لتركيا في مستقبل أفغانستان، ولكن ممثلة عن نفسها وضمن علاقات ثنائية مباشرة مع أفغانستان و/أو طالبان وليس نيابة عن حلف الناتو.
هذا الكلام – الذي كتبناه وقلناه سابقاً – نصَّتْ عليه مقابلة ذبيح الله مجاهد بشكل مباشر، إذ قال “ما نريده هو أن تنسحب تركيا التي أتت إلى أفغانستان تحت مظلة الناتو أيضاً قبل 20 عاماً. وحين نكون بحاجة إلى تركيا سنتحدث معها مباشرة ومع الشعب التركي. إننا نريد تركيا بصفة مستقلة، ولا نريدها جزءاً من الناتو”.
وعليه، ختاماً، يمكن القول إن موقف طالبان النهائي بخصوص استمرار الوجود التركي لم يحسم بعد، وكذلك – بالتبعية – قرار أنقرة النهائي بهذا الشأن، من حيث المبدأ والتفاصيل على حد سواء. ومن الواضح أن ذلك سيخضع لحوار مباشر بين الجانبين، وهو حوار كان قد بدأ ثم تعثر لاحقاً، ويمكن العودة له إذ يبدو الجانبان حريصين عليه، حيث ورد ذلك في تصريحات الناطقين باسم طالبان وكذلك في خطاب الرئيس التركي قبل أيام في قبرص ثم في كلمة له بعد صلاة العيد، حيث أكد على أن طالبان يمكنها أن “تجري حواراً مع تركيا أسهل وأفضل” من حوارها مع الولايات المتحدة.
وعليه، فمن المتوقع عودة التواصل بين الجانبين في المستقبل القريب، إما بشكل مباشر أو من خلال وساطة (قطرية مثلاً)، ومن الممكن جداً أن يتوصل الجانبان لاتفاق ما يشكّل حلاً وسطاً بينهما وبما يراعي مصالح كليهما. أما إذا تصلبت طالبان في موقفها الرافض لوجود قوات تركية وعدِّها قوات احتلال بما يشير لإمكانية استهدافها، فمن المستبعد أن تقحم أنقرة نفسها وجنودها في هذا المسار.