بعد سنوات طويلة من سياسات “تصفير المشاكل” و”القوة الناعمة” للتعامل مع “العمق الاستراتيجي” لها، والذي كان يشمل أول ما يشمل منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، مثلت الثورات العربية في 2011 نقطة تحول في سياسة تركيا الخارجية نحو المنطقة العربية تمثلت بالمبادرة والتفاعل في رهان واضح على موجة التغيير في المنطقة. اليوم، وبعد أكثر من خمس سنوات على هذه الانعطافة، تبدو السياسة الخارجية التركية في انعطافة معاكسة أو معدِّلة وموازنة للأولى في سياستها المتعلقة بالمنطقة لها أسبابها وتمظهراتها وانعكاساتها المختلفة.
أسباب التغيير
بعد كل هذه السنوات التي انتهجت خلالها تركيا سياسة نشطة ومبادرة في قضايا المنطقة، سيما القضية السورية، ونتج عنها توتر أو انقطاع في العلاقة مع عدد من الدول والأنظمة العربية والإقليمية، صدرت عدة تصريحات من قيادات تركية وازنة تفيد بضرورة “عودة أنقرة لسياستها الواقعية والبراغماتية” السابقة، في مقدمتهم الرئيس اردوغان ورئيس الوزراء الحالي يلدرم والناطق باسم الحكومة كورتولموش ووزير الخارجية تشاووش أوغلو.
هذه الرؤية بضرورة التغيير والتراجع للخلف خطوات لم تكن وليدة اللحظة ولا نتاج قرار متسرع، بل طبخت على مدى السنوات القليلة الماضية وما حملته من أحداث ومتغيرات في المنطقة ككل، وأهمها:
أولاً، تراجع موجة التغيير في العالم العربي ككل أمام الثورة المضادة ومنظومتها الإقليمية، وهو ما يعني ضمنياً دفع الدول التي دعمتها جزءاً من الثمن، وفي مقدمتها تركيا التي دفعت أثماناً سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية كبيرة. انكفاء حركة التغيير والأثمان التي دفعتها تركيا وضعتها أمام استحقاق مراجعة مواقفها وسياساتها الإقليمية بشكل عام.
ثانياً، الإخفاقات التي عانت منها سياسة أنقرة الإقليمية على مدى السنوات الفائتة، حيث فشلت في إحداث أي اختراق مهم في قضايا المنطقة المختلفة وأهمها القضية السورية التي تسير تطوراتها على عكس ما تشتهي أنقرة ودون استشارتها، والمشهد المصري الذي يسير باستقرار جزئي لم تؤثر فيه المواقف التركية، والقضية الفلسطينية التي فقدت فيها أنقرة القدرة على التأثير المباشر.
ثالثاً، العزلة التي تعاني منها أنقرة في محيطها، فعلاقاتها مع دول الجوار والدول الإقليمية ما بين توتر وانقطاع، من إيران إلى العراق إلى سوريا – النظام، إلى اليونان وأرمينيا وقبرص، إلى مصر والإمارات ودولة الاحتلال “إسرائيل”، فضلاً عن العلاقات غير الجيدة منذ فترة مع الاتحاد الأوروبي والمتوترة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وقد توج كل ذلك بالأزمة مع روسيا.
رابعاً، المشروع السياسي الكردي في شمال سوريا على يد فصائل تعتبرها أنقرة منظمات إرهابية وتعتبر إنشاء أي كيان سياسي لها على حدودها خطراً على أمنها القومي، وهو مشروع مدعوم وبقوة من حليفة تركيا المفترضة (واشنطن) وخصمتها اللدودة (موسكو)، الأمر الذي وضع تركيا في موقف دفاعي يحاول قدر الإمكان حماية حدودها وأمنها القومي.
خامساً، التطورات الداخلية المتلاحقة وفي مقدمتها التصعيد العسكري من قبل حزب العمال الكردستاني منذ تموز/يوليو 2015 وتفجيرات تنظيم الدولة – داعش في بعض المدن التركية وعدة استحقاقات انتخابية وتغيير المشهد القيادي في الحزب الحاكم في البلاد، مما دفعها إلى التركيز على وضعها الداخلي وأشغلها و/أو أعجزها عن التأثير في الإقليم.
متغيرات متزامنة
بنتيجة كل هذه التطورات، يبدو أن قرار أنقرة قد وضع على سكة التطبيق العملي، ويبدو أن تغيرات السياسة الخارجية التركية قد سارت منذ فترة وما زالت تسير في ثلاثة مسارات متزامنة ومتوازية:
الأول، تغيير منظومة التحالفات التركية في المنطقة بشكل تدريجي وبطيء، والاتجاه نحو شراكات جديدة في الإقليم. فبعد رهان تركيا في بدايات 2011 على دول الثورات العربية وفي مقدمتها مصر لصياغة نظام إقليمي جديد يكون لها فيه دور الريادة، ثم سنوات من التنسيق الحثيث مع قطر، يبدو التعاون التركي مع المملكة العربية السعودية منذ تسلم الملك سلمان السلطة العام المنصرم قراراً استراتيجياً لأنقرة، سيما وأن المهددات والفرص والمصالح مشتركة ومتشابهة جداً بالنسبة للطرفين في المنطقة العربية.
الثاني، التخلي عن الاعتماد الكامل والحصري على القوة الناعمة في السياسة الخارجية التركية لصالح المزج التدريجي بين القوتين الناعمة والخشنة، من خلال الاهتمام برفع مستوى التصنيع الدفاعي وتصدير الأسلحة، ورفع وتيرة العمليات العسكرية خارج الحدود وخصوصاً ضد العمال الكردستاني وفي شمال العراق وشمال سوريا، إضافة إلى بناء عدد من القواعد العسكرية الخارجية في كل من قطر والصومال والتي تتضمن نشر قوات عسكرية تركية فيها.
الثالث، تبني سياسة “رفع عدد الأصدقاء وخفض عدد الخصوم والأعداء” في الإقليم والعالم والتي تتضمن مصالحات مع بعض الدول وتدوير زوايا الخلاف مع بعضها الآخر. وقد قامت تركيا في هذا الإطار بعدة خطوات ملموسة، في مقدمتها الحرص الشديد من قيادتها السياسية على طي صفحة الخلاف مع روسيا بأسرع وقت ممكن، بما في ذلك تواتر الرسائل الإيجابية التي أرسلتها أنقرة لموسكو والحديث عن بعض الوساطات السرية ودبلماسية الأبواب الخلفية التي تأمل تركيا الأولى أن تفضي إلى نتائج.
من ناحية أخرى، يبدو أن تحسن العلاقات بين أنقرة والرياض إضافة إلى كم المتغيرات في المنطقة على مستوى الثورات العربية ودور حركات “الإسلام السياسي” قد أدت إلى نوع من التقارب أو ربما تحييد الخلاف بين تركيا ودولة الإمارات العربية المتحدة التي عاد سفيرها قبل أيام إلى أنقرة بعد سنوات من الغياب، في ظل الحديث عن “صفحة جديدة” في العلاقات الثنائية بين البلدين.
وأما عملية تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال فقد وصلت إلى مراحل متقدمة ويتوقع أن يتم الإعلان عن اتفاق مبدئي للمصالحة المرتقبة بين الطرفين خلال أيام من كتابة هذه السطور حسب ما رشح من الجانبين، وفق معادلة تساهم إلى حد ما بـ”تخفيف” الحصار عن قطاع غزة وليس “رفعه” أو كسره تماماً. فيما تبقى العلاقة مع النظام في مصر في انتظار جهوزية الأخير لاستحقاقات المصالحة التي يفترض أن تتضمن توفيراً لحد أدنى من الحريات في مصر و/أو مصالحة داخلية قد تسعى لها أنقرة بين يدي التقارب مع القاهرة، وهو أمر مستبعد في ظل حالة عدم الاستقرار التي يعاني منها نظام السيسي حتى الآن.
الانعكاسات والمطلوب عربياً
لقد اكتنفت أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 وتداعياتها المتسارعة خسارتين استراتيجيتين بالنسبة لأنقرة، أولاهما عسكرية – ميدانية أمام روسيا في سوريا، والثانية سياسية – استراتيجية أمام حلف شمال الأطلسي/الناتو والولايات المتحدة على مستوى خيارات السياسة الخارجية وهامش الاستقلالية في القرار، بحيث تراجعت تركيا من مرتبة الدولة الإقليمية المؤثرة والمقررة في المسألة السورية وغيرها من قضايا المنطقة إلى مرتبة الدولة الجارة المتأثرة بها ومجرد ترس في ماكينة التحالف الغربي.
حين نضيف إلى هذا التطور الاستراتيجي مجمل ما ذكر آنفاً من أسباب وسياقات وتمظهرات لما يمكن تسميته بإعادة ضبط بوصلة السياسة الخارجية التركية في المنطقة، يمكن القول بأريحيةإأن تركيا 2016 ليست أبداً تركيا 2010 وما قبلها لا من حيث الإمكانات ولا من حيث الإرادة السياسية.
بيد أن هذه المتغيرات لا تعني بأن تركيا ستبدل مواقفها من قضايا العالم العربي 180 درجة، لكن سقوف الدعم والخطاب والمقاربة ستختلف بشكل واضح على المديين القريب والمتوسط في أغلب القضايا المطروحة، سيما السورية والمصرية، بحيث تعود تركيا مجدداً لبناء جسور التواصل مع جميع الأطراف سعياً لتخفيف الضغط عنها وفتح آفاق للعب أدوار مؤثرة لم تكن ممكنة خلال فترة قطع العلاقات أو توترها مع بعض الأطراف الفاعلة.
من ناحية أخرى، يجب التفريق بشكل واضح بين ما هو سياسات “الدولة” التركية التي لن يطرأ عليها كثير تغير في المدى القريب مثل استضافة اللاجئين واستقبال بعض المعارضين السياسيين من دول العالم العربي المختلفة، وبين ما هو سياسات “الحكومة” والحزب الحاكم التي يمكن أن تتبدل ولو جزئياً مثل سقف الخطاب المتاح لوسائل الإعلام العربية التي تبث من الأراضي التركية أو إمكانات العمل السياسي للشخصيات المعارضة المقيمة هناك.
في الخلاصة، يبدو أن تركيا متجهة للعودة إلى سياسة أكثر براغماتية وواقعية و”عقلانية” فيما يتعلق تحديداً بقضايا المنطقة والعالم العربي بما يخفض من سقفي خطابها ومواقفها، الأمر الذي يفرض على دول المنطقة وشعوبها وقواها مسؤوليات يجب أن تضطلع بها للتخفيف من حدة الاستدارة التركية ومحاولة عكس هذا الاتجاه لديها، باعتبار أن بعض الأسباب التي أدت لهذا القرار يمكن عكسها او على الأقل التخفيف من حدتها.
من أولى الأولويات على مستوى الدول بلورة شراكات سياسية حقيقية مع تركيا وتطويرها بحيث تخفف الضغوط على أنقرة وتفتح لها هامش المناورة في السياسة الخارجية مرة أخرى، فضلاً عن ملف أمن الطاقة الذي يعتبر أساسياً لدى تركيا – المتعمدة فيه على خصميها روسيا وإيران بشكل كبير – والذي يمكن لدول الخليج خاصة لعب دور مؤثر فيه، فضلاً عن الملف الاقتصادي – السياحي بشكل عام.
ومن مسؤوليات القوى الفاعلة في العالم العربي من تيارات وشخصيات تعميق العلاقة مع تركيا من مستوى الأشخاص إلى مستوى المؤسسات، ومن التواصل مع الحزب الحاكم حصراً إلى التعارف والتواصل بل والتعاون مع مختلف الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والعمل الأهلي والجامعات ومختلف المؤسسات التركية، بما يمكن أن يشكل على المدى البعيد جماعات ضغط وشبكة أمان للقضايا العربية والتفافاً جماهيرياً ونخبوياً أوسع سيساعد العدالة والتنمية على البقاء ضمن الخطوط العامة التي رسمها في السياسة الخارجية على مدى سنوات طويلة من خلال حرصه على التناغم في سياساته ومواقفه مع نبض الشارع التركي.
إن تركيا اليوم أمام مرحلة فارقة في مقاربتها لملف السياسة الخارجية سيما ما يتعلق بالعالم العربي منه، وهو ما يضعها أمام مسؤوليات ضخمة، لكنها لا تقل أهمية ومحورية وخطورة عن مسؤولية العالم العربي بمختلف مستوياته إزاء هذه التطورات، إذ أن مستقبل كل دول وشعوب المنطقة بات مرتبطاً ببعضه البعض أكثر من أي زمن مضى.