مؤتمر: مئة عام على سايكس بيكو – خرائط جديدة ترسم
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
مقدمة
بعد مئة عام كاملة من إبرامها، عادت اتفاقية سايكس – بيكو لتكون في صلب النقاشات والتحليلات المتعلقة بالمنطقة العربية ومستقبلها، ليس فقط لأنها صاغت الحدود الجغرافية بين دولها وأثرت بشكل مباشر وغير مباشر في العلاقات السياسية – الثنائية والجماعية – بين شعوب المنطقة ودولها ثم ساهمت أيضاً في الوصول لحالة الفشل السائدة اليوم في أكثر من دولة، ولكن لأن المنطقة على شفا سيناريوهات التقسيم مرة أخرى، وفق ما يرشح على لسان العديد من صانعي السياسة في العالم والمنطقة وما يكتبه الباحثون والمحللون الاستراتيجيون في المراكز البحثية المختلفة.
وقبل أن نلج إلى صلب موضوع الورقة، أي الرؤية التركية لمستقبل المنطقة في ظل سيناريوهات التقسيم المطروحة، نحتاج إلى التأكيد على نقطتين جوهريتين حول هذه السيناريوهات نفسها:
الأولى، تنال اتفاقية سايكس – بيكو النصيب الأكبر من اللوم الشعبي والنخبوي فيما يتعلق برسم خرائط المنطقة وتقسيم دولها على أسس استعمارية بذرت للفترات اللاحقة أسباب الخلافات والمواجهات بين الدول والدويلات التي أنتجتها. لكن الحقائق التاريخية تقول بوضوح إن خرائط المنطقة لم ترسم في شكلها النهائي وفق ما اتفق عليه الإنكليز والفرنسيون والروس في تلك الاتفاقية. لقد ساهمت عدة عوامل لاحقة أهمها نتائج الحرب العالمية الأولى ثم الثورة البلشفية في روسيا ثم “حرب الاستقلال” التركية في تعديلات جوهرية على الاتفاق الأولي، بما يؤكد أهمية دور اللاعبين المحليين تحديداً في توجيه دفة الأحداث رغم الاتفاقات الدولية والإقليمية.
الثانية، أن الجملة التي تتردد كثيراً كمصطلح في الآونة الأخيرة حول “سايكس بيكو جديدة” في المنطقة على خلفية التطورات المتسارعة في كل من سوريا والعراق تحديداً ليست دقيقة بالضرورة بمعناها الحرفي. فرغم أنه قد تكون اتفاقات شبيهة بسايكس – بيكو الأصلية قد أبرمت فعلاً بين الدول الفاعلة، سيما الولايات المتحدة وروسيا، إلا أن سيناريو التقسيم الجغرافي وإنشاء دول من العدم وإلغاء حدود دول قائمة قد يكون سيناريوهاً صعب التنفيذ. ما هو أقرب من هذا الاحتمال لحقائق الواقع وتطوراته هو الإبقاء على الحدود الحالية للدول وتفعيل سيناريوهات التجزئة “الداخلية” على أسس عرقية ومذهبية، هذا إن كان ثمة سيناريهات جاهزة للتقسيم. بينما يبقى الأكثر حظاً هو التقسيم السياسي وليس الجغرافي بين فواعل المنطقة من دول ومنظمات ما دون الدولة، أو تقسيم “النفوذ” في المنطقة بين الدول العالمية والإقليمية الفاعلة.
لماذا تركيا؟
ليس ثمة غرابة في الاهتمام بالرؤية التركية إزاء السيناريوهات المطروحة ومحاولة سبر أغوار هذه الرؤية ومحدداتها وسياقاتها وانعكاساتها على التطورات، حيث أن سيناريوهات التقسيم – بغض النظر عن شكلها وحدودها – تتطلب التطرق للدول الإقليمية باعتبارها مؤثرة في هذه السيناريوهات ومتأثرة منها على حد سواء. بيد أن لتركيا خصوصية أكبر من باقي الدول الإقليمية في إطار سيناريهات التقسيم بعد مئة سنة من سايكس – بيكو لأربعة اعتبارات رئيسة:
أولاً، أن اتفاقية سايكس – بيكو أبرمت في الأصل لتقاسم جزء من أراضي الدولة العثمانية بعد سقوطها، وهي الدولة التي تعتبر تركيا وريثتها واستمراريتها السياسية في زمننا الحالي، وهذا يعني أن سيناريوهات التقسيم لها أيضاً وقعها في المخيال التركي كما لها وقعها في المخيال العربي، باعتبارها استهدافاً لتركيا وشعبها قبل أن تكون تقسيماً لدول عربية جارة.
ثانياً، أسست الجمهورية التركية بعد انهيار الدولة العثمانية في ظروف تاريخية جعلت الجيل المؤسس لها بقيادة مصطفى كمال أتاتورك ينظر للتنوع العرقي والمذهبي داخل حدودها على أنه عنصر تهديد سيبقى يحيط الدولة الوليدة باحتمالات التدخلات الأجنبية لتقسيم البلاد وإضعافها، وهي “عقدة النشأة” بالنسبة لتركيا كما يسميها المؤرخون. فتركيا إذن هي دولة وريثة لامبراطورية قسمت باتفاقية سايكس – بيكو وحملت في تشكلها الأول جينات الخوف من التقسيم والتجزئة بشكل مبالغ به، وهي جينات صاغت السياسة التركية داخلياً وخارجياً على أرضية من الهواجس والتوجس والحذر.
ثالثاً، إن سيناريوهات التقسيم وإن حصلت في عدة دول في المنطقة العربية بشكل عام وتهدد دولاً أخرى، إلا أنها متعلقة اليوم بسوريا والعراق أكثر من أي دول أخرى، وهما دولتان جارتان لتركيا، الدولة الإقليمية القوية والجارة وصاحبة الموقف المعروف من التطورات فيهما، وبالتالي سيكون الدور التركي محدداً إلى درجة ما في تبلورها وتحولها إلى حقيقة واقعة.
رابعاً، إن أي سيناريو للتقسيم في سوريا أو العراق قد يفرض نفسه على تركيا كاستحقاق مستقبلي مؤثر فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو ما يتحسب له صانع القرار التركي بشكل واضح، للمعطيات التالية:
1- الجوار الجغرافي بين تركيا من جهة وسوريا والعراق من جهة أخرى وما تفرضه حقائق الجيوبوليتيك من جدلية التأثر والتأثير باعتبار البلدين عمق تركيا الاستراتيجي وجوارها القريب.
2- ثمة تشابه أيضاً في الخريطة العرقية (الأكراد والعرب والأتراك/التركمان) والمذهبية (السنة والشيعة/العلويون) إلى حد كبير على طرفي الحدود التركية – السورية والتركية – العراقية.
3- الأزمة التي تعانيها القضية الكردية في تركيا وابتعادها عن مسار الحل السياسي الذي رسمته الحكومة، من خلال تصعيد حزب العمال الكردستاني العسكري منذ تموز/يوليو الفائت من جهة، والتصعيد السياسي لحزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) الذي رفع سقف برنامجه السياسي من المطالبة بالمواطنة الكاملة وفق دستور جديد إلى مستوى الإدارة الذاتية في المناطق ذات الأغلبية الكردية جنوب شرقي البلاد وفي عموم تركيا.
4- التقدم الذي يحرزه المشروع السياسي للفصائل الكردية المسلحة في شمال سوريا والذي تعتبره أنقرة خطاً أحمر من منظور أمنها القومي، باعتبار أنه سيكون حاجزاً لها عن العالم العربي، وكياناً معادياً لها في التوجه السياسي، ومنصة لتدريب مسلحي العمال الكردستاني وإطلاق عملياتهم ضدها، ورفعاً لسقف المطالب الكردية في الداخل التركي بما قد ينقل القضية من إطارها المحلي إلى فضاءات التدويل.
لكل هذه الاعتبارات وغيرها، يبدو أن السيناريوهات المفترضة لتقسيم المنطقة مرة أخرى تهم تركيا كشأن داخلي أكثر من كونها خططاً ستؤثر فقط في جوارها القريب.
نظرياً وعملياً
تحرص كل الدول المهتمة بالشأنين السوري والعراقي تحديداً والمؤثرة في سياق التطورات فيهما على التأكيد على ضرورة وحدة أراضي الدولتين ورفض سيناريوهات التقسيم، وتسعى جاهدة لإظهار أنها متضررة من هذه السيناريوهات المفترضة، رغم أن بعضها على الأقل غير دقيق في مقارباته.
في الخصوصية، وكما سبق ذكره وتفصيله، فإن أنقرة ترى في سيناريوهات التقسيم خطراً استراتيجياً عليها آجلاً إن لم يكن عاجلاً، وهي خشية تحولت إلى قناعة ثم إلى ممارسة سياسية على المستويين النظري والعملي:
فعلى المستوى النظري، بنيت التجربة التركية الحالية في ظل العدالة والتنمية على أسس مهمة ومحورية في مقدمتها الاستقرار السياسي في الداخل والعلاقات الهادئة مع الجوار لتأمين مناخ مناسب للتنمية الاقتصادية، وعليه فإن من مصلحة تركيا استقرار الأوضاع في جوارها القريب في الحد الأدنى وليس من مصلحتها تفعيل سيناريوهات التجزئة التي ستورث نزاعات لن تهدأ حتى وقت بعيد.
وقد كان هذا أحد البواعث الرئيسة في ظني لمختلف النظريات التي قدمها الرجل، وخصوصاً “العمق الاستراتيجي” و”القوة الناعمة” و”تصفير المشاكل”، وهي نظريات ما زالت من أسس السياسة الخارجية التركية رغم غياب الرجل عن منصبه ورغم التعديلات التي طرأت على السياسة الخارجية التركية مؤخراً.
ومن ضمن ما نظــَّر له الرجل أسس التوازن والاستقرار في المنطقة، وفي مقدمتها مثلث تركيا – إيران – مصر الأكبر والذي يتفاعل مع المثلث الأصغر السعودية – العراق – سوريا ويوجهه لضبط العلاقات الثنائية بين هذه الدول والنظام الإقليمي ككل. ووفق هذه النظريات وحقائق الجيوبوليتيك التي تفرض نفسها بقوة على تركيا والدول الجارة لها، فقد كان استقرار العراق ووحدة أراضيه وما زالا أساساً راسخاً ومهماً من أسس السياسة التركية تجاهه، كما إن الموقف التركي ما زال مصراً على وحدة أراضي سوريا وعدم تقسيمها.
على المستوى النظري أيضاً، ما زال صانع القرار التركي يرى أي تدخل عسكري له في سوريا “توريطاً” له من قبل القوى المنافسة له في الإقليم والعالم، وهي تصريحات وردت على ألسنة عدد كبير من المسؤولين الأتراك، في مقدمتهم الرئيس التركي اردوغان ورئيس الوزراء السابق داود أوغلو والناطق باسم الحكومة التركية كورتولموش. لقد تطورت الأحداث في أكثر من اتجاه في سوريا وتبدلت الأحوال كثيراً، وما زالت أنقرة تصر على مظلة دولية لأي تدخل عسكري في سوريا (على مستوى الأمم المتحدة أو حلف شمال الاطلسي أو التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة) ومشاركة دولية و/أو إقليمية في العمليات الميدانية (على مستوى الناتو أو التحالف الدولي أو التحالف الإسلامي)، وأما ما دون ذلك فما زالت تعتبره تورطاً وتوريطاً لا تريدهما.
على مدى الأشهر الماضية، نادت القيادات التركية في كل من الحكومة والحزب الحاكم بضرورة إعادة أنقرة ضبط بوصلة سياستها الخارجية و”تصويب” مسارها لعدة أسباب، في مقدمتها الإخفاق في إنفاذ رؤيتها في سوريا، والتوتر في العلاقات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والأجندة الداخلية المزدحمة بالتحديات وعلى رأسها تصعيد العمال الكردستاني المسلح، والأزمة مع روسيا، والعزلة التي عانتها أنقرة مؤخراً في سياستها الخارجية. وقد رأينا مخرجات هذه التغييرات في ثلاثة سياقات مهمة:
أولها محاولة تدوير الزوايا مع بعض الأنظة الإقليمية على شكل زيارة من وزير الخارجية التركي لدولة الإمارات العربية المتحدة ومحادثات حثيثة و”بناءة” مع دولة الاحتلال الصهيوني وإشارات إيجابية – وإن بوتيرة منضبطة وحذرة – تجاه مصر. وثانيها البحث عن شراكات جديدة مثل قطر والسعودية على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية. وثالث هذه السياقات هو تحويل القوة التركية الناعمة جزئياً وببطء إلى شيء من “الخشونة” حيث تبني تركيا قواعد عسكرية لها في كل من قطر والصومال، وتوقع اتفاقيات دفاع مشترك مع عدد من الدول، وتزيد من تصنيعها وتوريدها للأسلحة، وتقوم بعمليات بسيطة خاصة في سوريا، وتحاول زيادة قواتها في معسكر بعشيقة في العراق من حيث العدد والعدة.
بيد أن كل ذلك لم يغير القناعة التركية النظرية وانعاكاساتها على الواقع الميداني، فالممارسة التركية العملية أظهرت بوضوح مدى تعمق هذه النظرة في ذهن صانع القرار في أنقرة، إذ رغم تعرض مصالحها لأخطار استراتيجية، ورغم اجتياز الفصائل الكردية المسلحة في الشمال السوري لخطوطها الحمراء مراراً وتكراراً، ورغم القصف شبه اليومي من تنظيم الدولة لمدينة كيليس الحدودية وما يوقعه من خسائر بشرية ومادية ومعنوية، ورغم الاتفاق الأمريكي – الروسي الذي أخرجها من معادلة التأثير في مسار حل الأزمة السورية، ورغم التعاون المضطرد بينها وبين المملكة العربية السعودية، إلا أن ذلك لم يدفع بأنقرة – حتى الآن – إلى أي مبادرة ولو جزئية في شمال سوريا، وما زالت مصرة على منطلقاتها سالفة الذكر.
ترى تركيا أن استمرار تقدم المشروع السياسي الكردي في شمال سوريا بهدف إنشاء “ممر” كردي على حدودها الجنوبية جزء من سيناريوهات التقسيم على أسس عرقية وإثنية، ولذلك تقف ضده بشدة رغم قصر يدها، لكنها أيضاً ترى في تدخلها المباشر لمنعه تسريعاً لنفس السيناريو وإن بأسلوب مختلف ومقاربة أخرى، وقد يكون هذا – إلى جانب فقدانها لأوراق القوة والتأثير في سوريا – أحد أهم أسباب ثبات مسوغات موقف أنقرة ومحدداته حتى اليوم رغم استمرار وحدة ومستوى المتغيرات في سوريا على وجه الخصوص.
لقد وعت أنقرة درس غزو العراق عام 2003 بشكل جيد على ما يبدو، ولا تريد أن ترى إقليماً كردياً آخر في شمال سوريا يضاف لإقليم شمال (كردستان) العراق الذي كان على ما يبدو الخطوة الأولى على طريق تقسيم العراق الفعلي اليوم إلى ثلاثة كانتونات أو أقاليم بغض النظر عن إعلان ذلك رسمياً من عدمه، فضلاً عن أن قادة الإقليم يعدون العدة لاستفتاء سكانه على الانفصال الذي بات ينظر له على أن مصير شبه حتمي، بينما أصبح النظام الفيدرالي غاية أمل الكثير من العراقيين لمنع التشرذم الكامل والتقسيم الناجز.
أخيراً، ظاهرياً قد تبدو فكرة “المنطقة الآمنة” التي تدعو لها تركيا تدخلاً منها في شأن داخلي لدولة جارة لها وقراراً يساهم في تفعيل سيناريوهات التقسيم من خلال اقتطاعه جزءاً من الأرض السورية بعيداً عن قبضة الحكومة المركزية، لكن تقييماً أعمق قد يراها ضمن كوابح هذا السيناريو باعتبارها ستعيق تقدم المشروع السياسي الكردي وتواجه مشروع تنظيم الدولة، وهما أهم تمظهرات مشاريع التقسيم والساعين لها.
سيناريوهات المستقبل
إذن، إن سلمنا جدلاً بأن تركيا لا ترى مصلحة لها في مشاريع التقسيم والتجزئة بل تراها خطراً عليها قبل أن تكون خطراً على سوريا والعراق، فهل هي قادرة على منع تحقق هذه السيناريوهات؟!!
إن تقييماً سريعاً – بما تسمح به مساحة هذه الورقة – للموقف التركي من الأزمة السورية يضعنا أمام محددات واضحة لا يكاد الموقف التركي يخرج عنها ولا يستطيع، أهمها أنه أصبح موقفاً دفاعياً لا مبادراً، وأن أولويته حماية الداخل التركي والحدود مع سوريا، وأن مقاربته للأزمة السورية اليوم ومستقبلاً مرتبطة إلى حد بعيد بتطورات المشروع الكردي على الحدود الجنوبية وربما بدرجة أقل تنظيم الدولة – داعش.
هذا الإطار النظري – التفسيري يضع أنقرة أمام أحد أربعة سيناريوهات فيما يتعلق بمستقبل المنطقة ومشاريع التقسيم:
الأول، ما زال الموقف التركي المعلن هو الحرص على وحدة الأراضي السورية تحديداً وكذلك العراقية وإن بدأت تتعامل مؤخراً مع إقليم كردستان العراق كأمر واقع وكحليف أحياناً، بل تذهب إلى محاولة إقناع إيران بأن التدخل الروسي وطريقة حل الأزمة السورية دولياً وبمخرجات من بينها كيان كردي سياسي يصبان في غير مصلحة البلدين خصوصاً والمنطقة عموماً لمحاولة جرها إلى مربع التعاون والتنسيق وتخفيف حدة الاحتقان في المنطقة.
الثاني، قد ترضى أنقرة بحل فيدرالي في سوريا إذا ما كان بديله هو التقسيم الكامل والتشظي التام، كخطوة استباقية تبقي الوحدة السياسية ولو اسمياً وتمنع تدحرج الأوضاع إلى حالة دويلات متجاورة ومتحاربة قد لا يكون من المتاح إصلاح ما بينها وجمعها مرة أخرى. ولعل المثال العراقي مفيد لفهم الدوافع التركية في حال تحقق هذا الخيار.
الثالث، وفق أي سيناريو قد ينتج كياناً للحركة السياسية (اليسارية) الكردية بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية قوات حماية الشعب، سيكون العامل المحدد بشكل كبير للموقف التركي إزاء التطورات هو المدى الجغرافي الذي سيمتد عليه هذا الكيان. ذلك ان ممراً على طول الحدود التركية – السورية وصولاً للبحر المتوسط سيمنح الدويلة الوليدة إمكانية البقاء والاستمرار بدون العلاقات مع تركيا باعتبار أن وصولها للبحر سيضمن لها تصدير النفط، وهو خيار سيضطر تركيا للتدخل لمنعه. بينما سيكون اقتصار الأراضي التي تسيطر عليها الفصائل الكردية على كانتونات منفصلة أو حتى متصلة لكن بدون الوصول لشاطئ المتوسط عاملاً كابحاً للنوازع التركية بالتدخل، باعتبار أن الكيان الوليد سيكون محتاجاً لها لتصدير نفطه، وهو ما سيدفعه لأن يكون أقل عدائية وأكثر تعاوناً معها، مثلما حصل مع إقليم شمال العراق الذي بدأ خصماً لأنقرة وانتهى اليوم حليفاً استراتيجياً لها في مواجهة حزب العمال الكردستاني (الذراع المسلح داخل تركيا وفي جبال قنديل في العراق).
الرابع، إذا ما وصلت الأمور إلى مستوى الفوضى العارمة التي قد تقود إلى التقسيم الكامل والتشظي التام، قد تتخلى أنقرة عن كل ما سبق من ضوابط في سبيل حماية حدودها وأراضيها من ارتدادات هذا السيناريو الكارثي. هنا، تتحدث بعض الكواليس في أنقرة عن أن الموصل – حلب يجب أن يكون خط الدفاع الأول عن الأراضي التركية، وهو طرح يتناسب مع وجود قوات تركية في شمال العراق تحاول أنقرة تعزيزها والأولية القصوى التي توليها الأخيرة لجبهة حلب في المعادلة السورية الداخلية.
أخيراً، منذ الأزمة مع روسيا إثر إسقاط أنقرة لمقاتلتها في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 ثم اتفاق فيينا بين كيري ولافروف تحولت تركيا من دولة إقليمية نافذة وصانعة سياسات في سوريا إلى مجرد جزء من منظومة حلف شمال الأطلسي/الناتو، وهو تطور استراتيجي مهم يضعف فرصها في التدخل والتأثير على سيناريوهات التقسيم إيجاباً و/أو سلباً. بيد أن ذلك لا يعني أن أنقرة فاقدة تماماً وعلى المدى البعيد لإمكانية التأثير، فضلاً عن أن سيناريو تأثرها بالتطورات في كل من سوريا والعراق موضوع دوماً على أجندة صانع القرار التركي، وهي التطورات التي يبدو أنها تصوغ وستصوغ الموقف التركي من هذه السيناريوهات المفترضة قبل أي محدد آخر.
تنظر تركيا إلى هذه المشاريع بعين الريبة والحذر، وترى أن جزءاً غير بسيط من مسوغات التدخل الغربية في سوريا هو لمحاصرتها والإحاطة بها جغرافياً وسياسياً واستراتيجياً، فيما تسعى بعض الجهات – وفق الساسة الأتراك – إلى توريطها بهدف إغراقها في المستنقع السوري بعد ان أشغِلت في تعقيدات الملف الكردي داخلياً. ولذلك، ورغم أن أنقرة ترفض التدخل العسكري المباشر في سوريا بخاصة لأنها تراه توريطاً يساهم في تحقيق سيناريو التقسيم، فإن تفعيل هذا الخيار بمعزل عنها قد يدفعها للتخلي عن الحذر والترقب ويقودها للانخراط في الأزمة بغية تقليل خسائرها فيها وتعظيم مكاسبها منها، ولعل ذلك ما يفسر تصريح اردوغان مؤخراً حين قال ما معناه إن عدم مشاركة تركيا في حرب 2003 في العراق أبقاها خارج دائرة التأثير لدى رسم خرائط وسياسة العراق، وهو “الخطأ” الذي لا يريد الرئيس التركي تكراره اليوم في سوريا.