في مصر، أيد بعض الإسلاميين والقوى السياسية ذات المرجعية الدينية الإنقلاب العسكري على الرئيس المنتخب، أو رضوا بنتائجه لاحقاً، بحجة أن ذلك يحقن الدماء وأنه أخف الضررين. وبغض النظر عن عدم اتساق موقفهم هذا مع موقفهم أيام مبارك ثم في عهد مرسي، لكن مقاربة حقن الدماء ودفع الضرر الأكبر لها ظهير شعبي لا يمكن الاستهانة به. إضافة إلى طيف آخر يرى عبثية مقاومة الانقلاب الذي حصل، متأثراً بمشاهد القتل الوحشية التي تعرض لها المعتصمون والمتظاهرون السلميون.
فهل فعلاً يجب الامتناع عن مقاومة الانقلاب؟ وهل حقن الدماء أولى أم إفشال الانقلاب؟ وكيف نزين الأمور هنا؟
لا شك أن للدماء حرمتها، وأن ديننا الحنيف حث على حقنها وعدم إراقتها، لكن ذلك ليس على الإطلاق. فالمحرم هو إراقتها بغير “وجه حق”، وربما تكون التضحية بها دفاعاً عن الحق أحد أهم وجوه الحق هذه. أما مصطلح “الفتنة” التي دأب على استعماله مؤيدو الانقلاب والساكتون عنه من الدعاة المشهورين، فهو أبعد ما يكون عن توصيف الوضع الحالي في مصر. فالفتنة ما “اشتبه” على الناس، بل والعلماء، فما عرفوه حقاً كان أم باطلاً، وليس هذا حال الافتئات على حق الشعب في اختيار حاكمه بانقلاب عسكري واضح المعالم مكتمل الأركان.
إن التسليم للانقلاب يعني وأد الربيع العربي، ودفن مسيرة النهضة والتنمية في الأمة، وقتل إيمان البعض بالديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة. الرضا بالانقلاب يعني أن أي رئيس سيأتي لاحقاً لن يكون مُمَّكناً من الحكم ما لم يرض عنه العسكر. القبول بالانقلاب يعني أن رأي “الشارع” سيكون مقدماً على رأي “الشعب”، وهذا سيمنع أي فرصة للاستقرار في البلد.
التسليم للانقلاب يعني أن “العسكر” سيكونون الوصايا على البلاد وشعبها وحكامها، يعيّنون من يريدون، ويعزلون من لا يحبون. ويعني أن الحكم سيكون عسكرياً أبداً، حتى ولو “غـُلـِّف” بحكم مدني بغرض التسويق. القبول بالانقلاب العسكري يعني أن الحرية، التي هي أحد مقاصد الشرع ومقومات الحياة وشروط التنمية، قد ولـَّت إلى غير رجعة. الرضا بالانقلاب يعني أن القبضة الأمنية ستزيد، وعدالة القضاء ستغيب، وجو الإرهاب والخوف سيسود.
أما الذين بدؤوا بالتوجس من فكرة الثورة والعصيان على دكتاتور ظالم متجبر، لأن الدماء التي سالت أو ستسيل كثيرة والثمن الذي دفع كبير، فحسبي أن أقول لهم إن سبب سيل الدماء هو النظم الظالمة وليس ثورة الشعب. وما دام النظام الظالم في سدة الحكم فالقتل سيزيد بهذا الشكل أو ذاك، بينما نجاح الثورة عليه هو الضمان لحقنها مستقبلاً. ثم إن الأهداف الكبيرة لها ثمنها الباهظ أيضاً، ولم تنهض أمة قبلنا دون تضحيات جسام دفعتها. إن فترة الفوضى، وعملية الثورة المضادة، والتردي الاقتصادي، وغياب حالة الأمن مراحل عضوية في عملية الثورة، أي ثورة، وليست دخيلة عليها، او انحرافاً عن مسارها. فليس متصوراً أن تقوم ثورة لتغيير نظام حكم، ثم لا تكون من هذا النظام المتمكن من البلاد والرقاب لعشرات السنين أي ردة فعل.
لم تكن الأثمان المدفوعة يوماً معياراً على نجاح أي ثورة أو صوابية القيام بها ابتداءً. إذ الهدف والوسيلة المتبعة هما المعياران الوحيدان للحكم على أي تحرك شعبي، صوابيته من خطئه. عدا عن أن إيغال الدولة العميقة في القتل والوحشية في التعامل يريد، في أحد أهدافه، أن يخوف الشعب من مواجهته ويرهبه من مواصلة احتجاجه، فهل نطيعه ونسير خلف ما يريد؟
علينا أن نتذكر دائماً حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”. ويجب أن نعرف أن التضحيات جزء من الطريق، وأنها طريق طويلة وصعبة ومحفوفة بالمخاطر والصعوبات والشبهات. ليس الأمر صراعاً على دنيا أو كرسي حكم حتى نبسّط الأمر بالدعوة إلى “التعايش” والتلاقي في الوسط، بل هو حق الشعب في الحرية واختيار الحاكم ورفض الوصاية، وكلها – فيما أرى – مبادئ مهمة في الشرع الإسلامي الحنيف، فضلاً عن كونها حقاً أصيلاً لكل الشعوب.
إن التضحيات الجسام التي تبذل هي التي تمنع حدوث خسائر كبيرة لا تعوض في الحرية والحقوق والعدل والمستقبل والتنمية والنهضة والعزة والكرامة، خسائر تغدو هذه التضحيات في مقابلها بالتأكيد هي “أخف الضررين”، وليس العكس.