تشهد تركيا منذ شهر تموز/يوليو الفائت موجة ساخنة من التصعيد العسكري والأمني بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني الذي استأنف عملياته العسكرية في الداخل التركي بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من الهدنة في ظل عملية السلام التي يديرها مع الحكومة.
موجة التصعيد
بعد الاجتماع الشهير بين الحكومة التركية وممثلي حزب الشعوب الديمقراطي في قصر “دولما بهتشة” في إسطنبول وإعلان “النقاط العشر” كمنطلق لعملية تفاوضية مباشرة بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني، والذي تبعته الدعوة الثانية لزعيم الحزب المعتقل في جزيرة إيمرالي عبدالله أوجلان لأنصاره بإلقاء السلاح نهائياً وانتهاج العمل السياسي طريقاً وحيدة لإقرار الحقوق السياسية والاجتماعية والقانونية لأكراد تركيا، دخلت تلك العملية بشكل غير متوقع في مرحلة جمود، تبعها نقض العمال الكردستاني للهدنة من طرف واحد واستئناف عملياته بقتل رجليْ شرطة تركيين في العشرين من تموز/يوليو الماضي.
وقد سبق هذا التصعيد الأخير خطوات ذات دلالة من قبل الحركة السياسية الكردية في تركيا أهمها الحملة الانتخابية لحزب الشعوب الديمقراطي (الذراع السايسية للكردستاني) والتي بنيت على شعار “لن نجعل منك رئيساً يا اردوغان”، فضلاً عن إعلان حزب العمال في الثاني عشر من تموز/يوليو عن تحلله من وقف إطلاق النار وتجميد عملية التسوية، داعياً الأكراد لحمل السلاح وخوض ما أسماها “حرب الشعب الثوري” نفذ على إثرها عدة عمليات عسكرية صغيرة الحجم.
وقد حولت هذه المواجهة بعض مناطق الجنوب الشرقي في البلاد ذات أغلبية السكان الكردية إلى ساحات حرب حقيقية في الأزقة والشوارع، بخنادق وسواتر ترابية وحظر تجول وضحايا يسقطون بشكل شبه يومي، وهو ما عنى أن العملية السياسية قد وضعت – وفق تعبير الرئيس التركي – “في الثلاجة”.
لماذا الآن
ثمة أسباب كثيرة وعوامل متعددة لعبت دوراً في عودة الحزب لنشاطه المسلح في هذا التوقيت بالذات، وبعد كل ما تم إنجازه تحت سقف عملية التسوية السياسية، أهمها:
1- وصول العملية السياسية بين الطرفين للحظة الأسئلة الحقيقية الصعبة و”التنازلات الأليمة” المطلوبة للاستمرار، وفي مقدمتها مصير عبد الله أوجلان ووضعه القانوني، والعفو العام عن مقاتلي العمال الكردستاني، وعودتهم إلى حياتهم الطبيعية في المدن والقرى، وربما رفع اسم الحزب من قوائم الإرهاب والتعامل معه كحزب سياسي عادي في المستقبل، فيما يفتقر الطرفان لحالة يمكن البناء عليها من الثقة المتبادلة بينهما.
2- الانتخابات البرلمانية في حزيران/يونيو التي عجزت الأحزاب في إثرها عن تشكيل حكومة مستقرة مما أدى إلى حالة عدم استقرار سياسي، والفترة الانتقالية حتى انتخابات الإعادة التي مثلت لحظة مثالية لاستئناف العمال الكردستاني نشاطه العسكري، استغلالاً لضبابية المشهد السياسي التركي الداخلي.
3- غياب التوافق التام في كلا المعسكرين على مستقبل عملية التسوية. فرغم أن أوجلان قد أثبت أكثر من مرة أنه صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في الحزب، إلا أن قيادات “جبال قنديل” العسكرية ما فتئت تبحث لنفسها عن دور يضعف من سيطرته على الحزب وآلية اتخاذ القرار فيه، مثل عدة تصريحات رافضة لإلقاء السلاح صدرت من بعضهم.
أما على الطرف الآخر، فإضافة إلى اعتراض بعض أحزاب المعارضة وطيف مهم من الشعب التركي على العملية السياسية، فقد اعترضت المؤسسة العسكرية سابقاً على عدم إطلاعها على خريطة طريق العملية السياسية مع حزب العمال الكردستاني، ثم ردت بلهجة قاسية على رسالة أوجلان الأخيرة، فضلاً عن تحفظ اردوغان العلني على بعض تفاصيل العملية مثل النقاط العشر أو لجنة المراقبة.
4- العامل الخارجي. وليس الحديث هنا عن الأطراف الإقليمية والدولية المعروفة تاريخياً بدعم الحزب واختراقه، مثل ألمانيا وإيران ودولة الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل عن أطراف تسعى لشغل تركيا في ملفها الداخلي الشائك في فترة يراد فيها إعادة تشكيل المنطقة.
من ناحية أخرى، فقد أدت تطورات الأزمة السورية إلى مضاعفة الثقل النوعي للفصائل الكردية المسلحة في سوريا من خلال طرحهم أنفسهم على الولايات المتحدة كقوى محلية قادرة على مواجهة تنظيم الدولة، الأمر الذي أغرى أكراد تركيا بالتعنت وزيادة الضغط لتحصيل المزيد من أنقرة على طاولة التفاوض أو من دونها.
وأخيراً، فقد أدى التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا إلى تحديد الدور التركي فيها وتقييد يد أنقرة ضد الفصائل الكردية في الشمال السوري، بينما حملت أزمة إسقاط المقاتلة الروسية تعميقاً لهذا المعنى من جهة واستحداثاً لحالة من التنافس الأمريكي – الروسي على دعم أكراد سوريا ومحاولة موسكو لعب الورقة الكردية في وجه أنقرة من جهة أخرى.
القرار الاستراتيجي للأكراد
مرت الحركة السياسية الكردية اليسارية التي يمثل حزب العمال الكردستاني تيارها الرئيس في محطات عدة من المراجعات الفكرية والسياسية، بدءاً من تأسيس الحزب عام 1978، مروراً ببدء العمليات المسلحة عام 1984 التي كان عنوانها الاستقلال عن تركيا وإنشاء دولة “كردستان” والتي كلفت الطرفين على مدى 30 عاماً من الصراع أكثر من 40 ألف قتيل وما يربو على 500 مليار دولار من الخسائر الاقتصادية وفق بعض التقديرات.
لاحقاً، أسهم العدالة والتنمية ونزوعه المبدئي للاعتراف بمظلومية أكراد تركيا والإصلاحات التدريجية التي قام بها إضافة إلى المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية إلى تخلي الحزب عن فكرة الانفصال وتبني العمل السياسي داخل بنية الدولة التركية – ولكن بتقوية الحكم المحلي – عام 2005 تحت عناوين مثل “الكونفدرالية الديمقراطية” و”الإدارات الذاتية الديمقراطية”.
وعلى هذه الرؤية انخرط أكراد تركيا في عملية التسوية وساد الهدوء مناطقهم التي أصبحت مركزاً مهماً للمشاريع الاستثمارية والتنموية المختلفة. بيد أن الفترة الأخيرة شهدت تطورين مهمين في محاولة رصد تحولات قرارهم الاستراتيجي:
الأول، موجة التصعيد الحالية التي سبق ذكر مظاهرها، وغياب الحديث عن أي تسوية سياسية أو حتى وقف لإطلاق النار من أي من الطرفين، بل حصول الحزب على أسلحة نوعية من روسيا بعد الأزمة الأخيرة، وهو ما يعني أن الموجة الحالية مرشحة للاستمرار لبعض الوقت.
الثاني، تبني حزب الشعوب الديمقراطي لخيار “الحكم الذاتي” المحلي في المناطق ذات الأغلبية الكردية، وعدم اكتراثه بما يتهدده من احتمال رفع الحصانة عن قياداته ومحاكمتهم بتهمة انتهاك الدستور الذي ينص على وحدة الأراضي التركي وعلى شكل الحكم فيها. وهو ما يعني أن الرهان على دمج الحركة السياسية الكردية في المشهد السياسي التركي وفي البرلمان مهدد بالفشل والعودة للعمل السري.
يضع هذان التطوران المهمان علامات استفهام كثيرة ووجيهة على توجه الحركة السياسية الكردية في تركيا، ومدى توجهها على المدى البعيد للعودة مرة أخرى لمطالبات الانفصال وتأسيس دولة على أسس عرقية، في محاولة لاستغلال الظروف الإقليمية والدولية الجديدة والتي تسير في معظمها على غير رغبة ومصالح أنقرة.
الرؤية التركية
رغم كل ما سبق، لا يبدو أن العدالة والتنمية قد تخلى عن رؤيته بضرورة حل المشكلة الكردية في البلاد كمشروع استراتيجي لـ”تركيا الجديدة” التي يريدها، لصيانة النسيج المجتمعي، وحماية الاقتصاد الوطني، وصد الباب أمام التدخلات الخارجية.
ويدرك صانع القرار التركي بطبيعة الحال أن المقاربة العسكرية – الأمنية لا يمكنها حل المشكلة ولا تثبيت حالة الاستقرار في البلاد، وبالتالي فهو يريد – ولا شك – أن يعود إلى مقاربته الشاملة، أي السياسية – الاقتصادية – الحقوقية – التنموية، وإلى طاولة الحوار السياسي قريباً.
بيد أن ذلك لا يبدو سهلاً ومتاحاً في مناخ القنابل والبارود والدماء، ولا في ظل الإصرار الكردي على النهج المسلح، وبالتالي فيبدو أن رهان الحكومة التركية يقوم على ضرورة تثبيت الأمن وإنهاء حالة الطوارئ في المناطق ذات الأغلبية الكردية بأسرع وقت لإنضاج شروط العملية السياسية، قبل أن تـُغرق دماء الضحايا المتزايدة يوماً في إثر يوم طاولة المفاوضات لتصل بالبلاد إلى نقطة اللا عودة.
وهنا يكمن الاختبار الأشد صعوبة على تركيا في المستقبل القريب، الذي يراد لها فيه أن تنكفئ على نفسها في حين يرسم اللاعبون الكبار خرائط المنطقة السياسية والجغرافية من جديد. ويبدو أن قدرها أن تواجه على عدة جبهات عدداً من الخصوم، بل والحلفاء غير الراضين عنها، بشكل متزامن، في الداخل والإقليم، مما يجعل القضية الكردية بتطوراتها الحالية مسألة حياة أو موت لتركيا الجديدة أو الكبيرة التي يحاول العدالة والتنمية رسم ملامحها مع العام 2023.