سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

“أدب سجون” عربي قليل الأدب

0

 

“أدب سجون” عربي قليل الأدب

 

مدونات الجزيرة

لأن الأدب ابن بيئته التي تترك بصماتها في جوهره وصياغته وشكله ومضمونه، اشتهرت بعض أنواعه على مر العصور في بيئات خاصة جداً صبغت ما ينتج في ظلها بصبغتها الخاصة، فكان هناك “أدب المهجر” و”أدب الرحلة” و”أدب السجون”.

والأخير نوع خاص جداً من الأدب، يصبح معه الأسير هو الكاتب والحكاية أو الراوي والراوية، ويتحول السجن من قفص ضيق إلى عالم رحيب يعبّر به السجين عن نفسه ومعاناته وروحه وتطلعاته وآماله. “أدب السجون” دليل ثقافي وتاريخي على قسوة القبضان وظلم السجان وقهر الظلمات وهدير التوق للحرية، ولذلك فقد سماه الكثيرون “أدب الحرية”.

ولأننا نعيش عصراً معكوساً في كل شيء تقريباً، عصراً “ميكس، كل حاجة والعكس” كما يقول أصدقاؤنا المصريون، فقد نبت بين ظهرانينا نوع جديد مستحدث من أدب السجون، يتحول فيه السجين/الأسير من راوٍ إلى أداة أو تفصيل في رواية آخرين، لها أهداف أخرى غير الحرية المنشودة وكرامة الإنسان المهدورة.

في بلد عربي يسير قدماً نحو الليبرالية والديمقراطية والتقدم، يكثر سجناء الرأي الذين كانت تهمة الكثيرين منهم الصمت حين أريد منهم كلامٌ بعينه، وهو على أي حال انقلاب سافر على تقاليد الأنظمة العربية التي كانت تسجن على الكلام وليس الصمت، وتكذيب فاضح للمثل العربي الذي يؤكد بأن “الصمت من ذهب”. في تلك البلاد، يدخل كاتب صحافي إلى أحد السجون الشهيرة في بلاده، ظاهراً بدعوى الاطمئنان على أوضاع المساجين وباطناً بهدف تبييض صفحة السجن والسجانين.

في أدب السجون المستجد، ينحصر هدف الكاتب في تمجيد السجن والسجان وليس نقل تجربة الحبيس وراء القضبان، والتغزل في “خُضرة” السجن ونباتاته وبرامجه لا الحديث عن سبب تواجد العلماء وأصحاب الفكر والرأي داخله لشهور طويلة بينما يخرج منه من يستطيع فداء نفسه بمليارات الدولارات.

في أدب السجون المستحدث، يمتدح الكاتب سماح السلطات له بالدخول للسجن للاطلاع على أوضاع المساجين، لكنه لا يسأل نفسه لم يمنع أهل السجين ومحاميه من لقائه، ولا يلقي كثيرَ بالٍ لمطالب السجين المتعلقة بـ “الزيارة والاتصال والسجن الجماعي”، تلك التي يبدي لها تفهماً لحجبها باعتبارها تنتظر “نهاية التحقيق وتصديق الأقوال”، اللذين لم ينتهيا منذ أشهر طويلة.

في أدب السجون السخيف، يتبادل الكاتب النكات والطرائف و”المهاذرات” مع السجين وكأنه في نزهة على شاطئ البحر مع أصدقاء الطفولة، وليس إزاء إنسان كريم سُلب حريته وأبعِدَ عن عائلته وأهله وأحبائه وصغاره. ذلك العالِمُ الذي يُعَرِّضُ به كمستحق لعقوبة الدولة ثم تأديبها باعتباره من “الذين خطئوا أو قصّروا في مواطن كان من المفترض أن يكون لهم صوت”.

أدب السجون المعاصر متجاوز للحدود وملِمٌّ بكل العلوم، بما في ذلك الطب والتغذية، حيث يتضمن نصائح بالدخول للسجن الذي يمكن من خسارة 25 كلغ من الوزن خلال أشهر قليلة، بأكله الصحي المتوازن فقط، ودون أدنى شبهة من تعذيب أو ضغط ولو نفسي.

في أدب السجون، يتسع الكلام لكل شاردة وواردة مهمة كانت أم تافهة، اللهم إلا رأي السجين في اعتقاله وسجنه ومظلوميته، فذلك يتحول إلى “وجهة نظره” التي لا تستحق الإفصاح عنها، بل “يُتجاوز عن ذكرها” لتجد طريقها إلى المسؤولين وولاة الأمر بالحبر السري.

أديب السجون في عصرنا المسخ لا يدرك أنه يفتقر إلى الموهبة والبراعة والذكاء، حين يظن أنه يحول السجين الإنسان بذكائه إلى أداة يبيّض بها صفحة السلطات، دون أن ينتبه إلى أن السلطات تحوله هو – بغبائه – إلى أداة تستخدمها كل حين، كما استخدمت قبله “الكاتبة الكبيرة”، التي لم تتساءل يومها (أو لعلها عرفت) لم تزور هي السجن أو الإصلاحية بينما لا يُسمح لهيئة مستقلة أو باحثٍ حقوقي أو لجنة دولية بذلك. أديب السجون المتذاكي لا يعرف أننا نعرف أنه لا شهادة لأسير في قبضة السجان، تماماً مثلما لا يُعتدُّ بلقاء صحافي مع “إرهابي” رهن الاعتقال، أو أحد معتقلي غوانتانامو.

أدب السجون العربي الجديد قليل الأدب، منعدم الضمير، فقير الأخلاق. وسيبقى هذراً لا قيمة له، وحملاً خارج الرحم، وهباءً في مهب التاريخ لا جذور له ولا ساق ولا أغصان. وحدهم عشاقُ الحرية الدافعون ثمنها من يحق لهم أن يسطروا “أدب الحرية” داخل السجن بعد تكريسهم “أدب العزة” خارجه، ووحدهم من سيبقى يُنسب لهم “أدب السجون” الحقيقي.

شارك الموضوع :

اترك رداً