عقبات في طريق عملية السلام مع الأكراد

0

بعد ثلاثين سنة كاملة السنين من الصراع المسلح الذي بدأه حزب العمال الكردستاني في تركيا مطالباً بدولة مستقلة ثم بحكم ذاتي للأكراد في جنوب شرقي البلاد، استطاعت الحكومة التركية أن تفتح معه طريقاً للحل السياسي بعيداً عن فوهات البنادق.

فبعد لقاءات سرية وتجهيز للأرضية التي سيتم العمل عليها، افتضح الأمر بكشف لقاء سري شارك به رئيس جهاز الاستخبارات التركية حاقان فيدان في السابع من شباط/فبراير 2010، وطلب على إثرها للتحقيق، وكان معرضاً للاعتقال بتهمة التواصل أو التخابر مع منظمة إرهابية، لولا تدخل اردوغان بسن قانون استثنائي، يقضي بعدم التحقيق مع رئيس جهاز الاستخبارات دون إذن من رئيس الوزراء، تمت الموافقة عليه من الرئيس آنذاك عبدالله غل.

تلقي هذه الحادثة الضوء على جزء أو زاوية واحدة فقط من الصعوبات التي تكتنف الملف، لكن طريق العملية السلمية لم تكن يوماً مفروشة بالورود، بل كانت دائماً سيراً على خيط رفيع فوق نيران ملتهبة، أما اليوم فإنها تمر بحالة من التعثر والجمود غير مسبوقة.

كانت العملية تقتضي السير بخطين متوازيين: رسائل واضحة من زعيم العمال الكردستاني المعتقل عبدالله أوجلان بوقف العمليات وإلقاء السلاح ومغادرة تركيا بالتزامن مع تعديلات وإصلاحات قانونية و دستورية في تركيا تحسن أوضاع الأكراد وترد إليهم حقوقهم الثقافية والاجتماعية والسياسية، ثم لاحقاً – ربما – تسوية أوضاعهم القانونية في البلاد.

مرت الفترة الأولى بشكل جيد ودون تعثرات. في “عيد النوروز” أطلق أوجلان نداءه لأفراد الحزب بمغادرة تركيا وإلقاء السلاح، وتضمنت حزمة التعديلات التي أعلنها اردوغان في حينها إصلاحات فيما خص استعمال وتعليم اللغة الكردية، وإمكانية تغيير أسماء المدن والقرى بما يتيح استعادتها أسماءها الأصلية. لكن، ورغم أن فترة من الهدوء النسبي (مقارنة بسنوات التسعينات وبدايات حكم العدالة والتنمية) وقلة عدد العمليات ما زالت مستمرة، إلا أن هذه الخطوة لم تتبعها خطوات أخرى، لا من ناحية الحزب ولا من ناحية الحكومة. فما هي العقبات الرئيسة أمام عجلة المصالحة؟

هناك أولاً ضعف كبير في الثقة بين الطرفين لم تنجح الإجراءات المتبعة من قبل كل منهما في إقناع الآخر بحسن النية والمصداقية لجسرها، رغم مرور كل هذا الوقت على بدء العملية. فمن ناحية، تلوم الحكومة حزب ديمقراطية الشعوب (الذراع السياسي لحزب العمال) على تصريحاته الاستباقية وإفشائه بعض ما يدور في الغرف المغلقة لكسب نقاط في مواجهة الحكومة وإحراجها، بينما يلوم الأخير على الأولى فشلها في صياغة دستور يضمن تغيراً مستداماً وإصلاحات جذرية في ملف الاكراد، ويتهمها بالمماطلة وتقصد تأجيل الخطوات الكبيرة لما بعد الانتخابات النيابية بعد أشهر.

وهناك ثانياً استشعار من قبل الأكراد أن التغيرات الحادثة في المنطقة وخاصة التحالف الدولي المتشكل لمواجهة “تنظيم الدولة” فرصة تاريخية قوت من موقفهم وطرحت قضيتهم بقوة. من هذا المنطلق عرض أكراد سوريا خدماتهم في مواجهة التنظيم واشتبكوا معه، وأرسل اكراد العراق قوات البيشمركة، ورأى أكراد تركيا أن موقفهم بات أقوى بكثير من ذي قبل على مائدة التفاوض مع الحكومة التركية. من هذه الزاوية يمكن قراءة المظاهرات التي شهدتها المدن الكردية في تركيا الشهر الفائت للمطالبة بتدخل تركي في عين العرب/كوباني (سقط في أعمال الشغب أكثر من 30 قتيلاً)، وفهم عمليات قطع الطرق وحرق المدارس التي عادت لتنشط من جديد، وتقييم مطالبة الاكراد بطرف “مراقب” لعملية السلام واقتراح الولايات المتحدة لذلك (وهو ما رفضته الحكومة).

ثالثاً، في جهة الحكومة التركية هناك تخوف وترقب بسبب ضعف الأرضية القانونية للعملية السلمية. فرغم التعديلات التي أقرها مجلس الأمة قبل أسابيع، إلا أن العملية ما زالت في معظمها جهداً حكومياً صرفاً، لا يحوز التأييد الشعبي ولا دعم الأحزاب المختلفة. فما زال العمال الكردستاني مصنفاً “منظمة إرهابية” بما يحد من إمكانية القيام بخطوات كبيرة ويفرض الحذر حتى في التصريحات رغم أنه طرف أو “شريك” في هذه العملية. ويزيد من تعقيد الوضع بعض التصريحات من بعض مؤسسات الدولة اعترضت على عدم إشراكها في القرار أو اطلاعها على التطورات، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية. كما لا يمكن إنكار أن طيفاً كبيراً من الشعب رافض للعملية ويطالب بالقصاص ومحاسبة “الإرهابيين” بدل التفاوض معهم. كل هذا يجعل العملية من وجهة نظر الحكومة التركية مخاطرة كبيرة تحتاج للكثير من التأني وحذر.

رابعاً، أما من جهة الأكراد فتطفو على السطح أيضاً خلافات تهدد المضي في العملية. فحزب العمال الكردستاني حتى الآن هو الممثل الوحيد للأكراد والمتحدث باسمهم مع الحكومة، لكن الجميع لا يبدون على قلب رجل واحد (يفترض أنه اوجلان). فهناك تيار “قنديل” في العراق، وهناك حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا، وهناك أكراد تركيا الذين ينقسمون إلى أكثر من تيار، وهو ما دفع الحكومة إلى زيادة التعاون مع أوجلان والطلب منه إرسال رسائل في ظروف محددة (مثل دعوته لوقف المظاهرات المذكورة آنفاً) ولكن في نفس الوقت تتحفظ على بقاء العمال الكردستاني ممثلاً وحيداً للأكراد مطالبة بتغيير هذه الصيغة وإشراك أكثر من طرف.

وبالتالي، فعلى وقع التغيرات الإقليمية والتطورات الداخلية، لا تبدوعملية السلام الداخلية في مأمن من عمليات الشد والجذب، وتعاني حالياً من ركود وتعثر لا يمكن تجاهلهما. وعليه يبقى التعويل على صدق الطرفين في المضي بهذه العملية والقيام بخطوات حقيقية وكبيرة – رغم المخاطر القائمة – وفق رؤية واضحة وخطة مفصلة الخطوات والتقويم الزمني، بدلاً من الوقوع في فخ التدهور والتراجع، بما يمكن أن يهدم عمل وجهد كل هذه السنوات التي مضت، ويهدد السلام الداخلي والنسيج المجتمعي التركي.

شارك الموضوع :

اترك رداً