قبل أن يبدأ، توقعنا لعام 2015 أن يكون حافلاً بالأحداث والتطورات السياسية بالنسبة لتركيا، ففيه ستجرى الانتخابات البرلمانية المهمة لصياغة رؤية تركيا المستقبلية، وفيه ستخطو عملية السلام مع الأكراد خطواتها العملية الحساسة، لكن لا يقل أهمية عن هذين الحدثين أنه عام الذكرى المئوية لأحداث الأرمن وادعاءات “الإبادة الجماعية” التي تلاحق تركيا منذ عشرات السنين.
يعود الأمر لنهايات عهد الدولة العثماية فترة سيطرة جمعية الاتحاد والترقي وخاصة خلال الحرب العالمية الأولى التي شهدت عدة ثورات مناطقية وعرقية، مثل مناطق البلقان والدول العربية، وثورات الأكراد والأرمن، وهي عوامل لم تخل من التدخلات الأجنبية لإضعاف الدولة العثمانية. ومن نافلة القول أن الدولة العثمانية جابهت هذه الثورات والتمردات بعنف شديد، باعتبارها عناصر قلقلة داخلية بينما هي مشغولة بالحرب على عدة جبهات.
تكاد المصادر الأرمنية والكثير من المصادر العالمية تجمع على مقتل مليون إلى مليون ونصف أرمني خلال تلك السنوات وتهجير مئات الآلاف منهم. ومنذ سنوات عديدة يحيي أرمن المهجر ومن خلفهم دولة أرمينيا هذه الذكرى في الرابع والعشرين من نيسان/إبريل من كل عام، وهو ذكرى اعتقال الآلاف من قيادات ووجهاء الأرمن عام 1915 قبل إعدامهم، كرمز لما يعتبرونه إبادة جماعية أو تطهيراً عرقياً للأرمن على يد الدولة العثمانية.
تاريخياً، بقي هذا الملف عنصر ضغط على تركيا يثار بين الحين والآخر، وخصوصاً حين تقترب الذكرى، أو تحدث تطورات سياسية معينة في تركيا والإقليم، وتهتم بالموضوع بشكل خاص فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية حيث ينشط اللوبي الأرمني، كما اعترفت بالإدانة دول عدة من بينها روسيا وإيطاليا.
أما الرواية التركية الرسمية فهي اعتبار ما حصل “أحداثاً مؤسفة” تحمل صفة الحرب الأهلية سقط ضحيتها مئات الآلاف من “كل شعوب” المنطقة، أتراكاً وأكراداً وأرمن وعرباً ..الخ، وتدعو إلى دراسة الأحداث التاريخية من قبل العلماء والمؤرخين بعيداً عن أجندات التوظيف السياسي.
حاولت تركيا في عهد العدالة والتنمية، ضمن رؤيتها لتصفير المشاكل مع دول الجوار، فتح صفحة جديدة في العلاقات – المقطوعة سابقاً – مع جارتها أرمينيا، فتبادلا الزيارات ووقعا بعض الاتفاقات الاقتصادية، وصولاً إلى اعتراف الدولة التركية على لسان رئيس وزرائها آنذاك اردوغان “بالأحداث الأليمة التي شملت جميع شعوب المنطقة في الحرب العالمية الأولى” معزياً أحفاد “الأرمن الذين قتلوا عام 1915”. إلا أن ورقة الإبادة ما فتئت مشهرة في وجهها، وما زال الأرمن يطالبونها باعتراف صريح بالإبادة واعتذار علني عنها، وهو ما تخشى تركيا أن يتحول لباب ضغط سياسي وابتزاز اقتصادي تحت عنوان التعويضات، فضلاً عن القيمة المعنوية له.
سنوياً، يقدم اللوبي الأرمني مسودة قرار للجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأمريكي لاعتبار ما حصل للأرمن “إبادة جماعية”، وفي بعض الأحيان كان القرار يمرر بالأغلبية، لكن البيت الأبيض – ولحسابات سياسية – يوقف تطبيقه أو البناء عليه. بينما سنت فرنسا قانوناً يجرم إنكار الإبادة الجماعية، في مماثلة لقوانين تجريم إنكار المحرقة اليهودية في أوروبا.
ويحمل هذا العام أهمية أكبر من أي عام نظراً لرمزية الذكرى المئوية للأحداث، ولذلك فقد نشطت الدبلماسية التركية في خطة استباقية منذ بداياته لتوقعها بزخم الأنشطة والفعاليات المتعلقة به، ومع بداية شهر نيسان/إبريل بدأت بعض المواقف والتصريحات الدولية تتبلور.
افتتح بابا الفاتيكان فرانسيس الأول سلسلة التصريحات هذا العام، حيث اعتبر في خطابه أثناء أحد القداسات في روما ما حصل للأرمن “إبادة”، مما استدعى ردود فعل حادة من الساسة الأتراك، فاعتبر اردوغان أنه ابتعد عن صفة رجل الدين وبات يتحدث بلغة أهل السياسة، بينما اتهمه داود أوغلو بالتحيز وعدم الإنصاف، وصولاً لاستدعاء سفير الفاتيكان في أنقرة لإبلاغه احتجاج أنقرة ورفضها للتصريح.
البرلمان الأوروبي أيضاً دخل بقوة على خط الجدل الدائر، من خلال تصويته بالأغلبية على قرار يعتبر ما حصل إبادة للأرمن ويطالب تركيا بمواجهة تاريخها والاعتراف بما حدث. ورغم أن القرار غير ملزم وأقرب إلى الموقف منه إلى القرار، إلا أنه جوبه أيضاً بردود فعل تركية غاضبة اعتبرت القرار “منحازاً وغير عادل”، وغمزت من قناة البرلمان الأوروبي ومدى تمثيله للتقاليد الدريمقراطية الأوروبية، بينما وقعت ثلاث أحزاب تركية ممثلة في البرلمان (العدالة والتنمية، الشعب الجمهوري والحركة القومية) على بيان مشترك يدين القرار.
في المحصلة، ما زال في عام 2015 من الشهور الكثير، وهو ما يعني أنه مفتوح على عدة قرارات مماثلة من مختلف الدول التي ينشط فيها اللوبي الأرمني أو لها علاقات متوترة مع أنقرة، ويبقى اليوم الأهم والأكثر رمزية بالتأكيد الرابع والعشرين من الشهر الجاري.