سيدات بيكار: ثأر شخصي أم شمشون التركي؟
عربي 21
“سأهدم العالم من أجل دمعة ابنتي”. شعار جعل اسم “سيدات بيكار” ظاهرة في تركيا وأحد أهم أركان الأجندة الإعلامية والسياسية في البلاد في الأسابيع القليلة الماضية. إذ زاد عدد متابعيه على تويتر والمشتركين على قناته في يوتيوب على المليون لكل منهما كما شوهدت فيديوهاته ما يقرب من 90 مليون مرة، بعد أن وجه اتهامات مباشرة لعدد من المسؤولين الحكوميين والحزبيين الحاليين والسابقين وعلى رأسهم وزير الداخلية الحالي سليمان صويلو.
شخصيان وصورتان
في الواقع وفي فيديوهاته، يمكن أن نرى شخصيتين مختلفتين لبيكار. في الواقع، هو رجل المافيا والجريمة المنظمة وعدد من الجرائم التي حوكم وسجن بسببها، وما زال ملاحقاً اليوم بنفس التهم. وهو كذلك – لاحقاً – رجل الأعمال محب الخير الذي حصل على عدة جوائز لهذا السبب والذي اعتلى المنابر محاضراً في الجماهير ملهباً لحماستهم. وقد انتقد الكثيرون حزبَ العدالة والتنمية لأنه أتاح له بعض منابره وتعاون معه، ما فُهم على أنه غطاء سياسي، لا سيما وأن الرجل عُرف ببعض التصريحات الخارجة عن السياق بما في ذلك تهديدات لبعض المعارضين.
وفي فيديوهاته، ثمة صورة نموذجية ونمطية لرجل المافيا، من خلال الشكل ولغة الجسد وطريقة الكلام وبعض المفردات المستخدمة و”الاكسسوارات” التي يرتديها وبعض التوتر الذي يظهر على شخصيته. فمثلاً، يدلل بيكار على صدق ما يدعيه من اتهامات بالاستعداد لـ”قطع إصبعه” (ولاحقاً ذراعه) على الهواء مباشرة إذا ما ثبت خطؤها وكذبه.
في المقابل، يقدم الرجل صورة مختلفة تماماً في مضمون كلامه، وهي شخصية المثقف القارئ المطلّع، إذ تكثر استشهاداته بفرويد وميكيافيللي وصن تزو، إضافة للتاريخ الإسلامي وتاريخ تركيا الحديث وشيء من السيرة النبوية والأشعار وغير ذلك.
في فيديوهاته التسعة التي أذاعها حتى لحظة كتابة هذه السطور، وجه بيكار عدداً كبيراً جداً من الادعاءات والاتهامات لشخصيات من مختلف المستويات، لكن أهم الاتهامات ارتبطت بوزيرَيْ الداخلية الحالي سليمان صويلو والأسبق محمد أغار، وكذلك ابن رئيس الوزراء الأسبق ونائب رئيس العدالة والتنمية حالياً بن علي يلدرم.
ومن أهم الادعاءات التي طرحها أن صويلو سهل هروب رجل أعمال متهم بتبييض الأموال، وأنه كان “تذكرة عودته” هو شخصياً لتركيا، فضلاً عن اتهامات بخصوص تهريب المخدرات. واتهم أغار بالتغطية على جريمة قتل ارتكبها ابنه. وقال إنه رتّب الاعتداء على برلماني سابق داخل مخفر الشرطة بناء على طلب من شخصية قيادية في العدالة والتنمية، وأنه يرسل له مبلغاً مالياً كبيراً بشكل شهري. كما اتهم ابن يلدرم بالتورط في تهريب المخدرات. لكن الإدعاء الأخطر الذي صدّره بيكار كان إرسال أسلحة تركية إلى جبهة النصرة في سوريا.
سردية الحكومة
منذ البداية، بدا تعامل الحكومة مع ملف سيدات بيكار مرتبكاً، حيث أنه أصبح سكيناً ذو حدّين بالنسبة لها. فالصمت ازدياد مصداقيته وسط شرائح جديدة، خصوصاً وأنه أحرج أكثر من شخص – وخصوصاً من الصحافيين – أنكروا بعضَ ما ادّعاه، بحيث يُفهم من الصمت الرضا أو الضعف أو التردد. في المقابل، فإن قراراً بالرد على كل ادعاء يصدر عنه سيعني أنه هو من سيحدد الأجندة السياسية والإعلامية في البلاد لأجل غير محدود، وكذلك فإن صمت الحكومة إزاء أي تفصيل مستقبلي سيضفي عليه مصداقية في مخيال المتابعين.
ولذلك فقد طال صمت الحكومة والرئيس أردوغان على وجه التحديد، قبل أن يكسر صمته في الـ26 من الشهر الفائت، أي بعد الفيديو السابع فقط، قائلاً إن “الهدف ليس وزير داخليتنا، الهدف هو تركيا القوية”، مؤكداً أنه “وقف ويقف وسيقف” مع صويلو “في مكافحته للمنظمات الإجرامية”.
أما صويلو نفسه فقد شارك في برنامجين تلفزيونيين بهذا الخصوص، وقد بنى سرديته وردوده على عدة ركائز، أهمها أن شخصاً كبيكار غير موثوق وبالتالي لا ينبغي التعامل بجدية مع ادعاءاته، ورفض التعقيب بالتفصيل عليها، وإعلان استعداده لقول كل ما لديه أمام المدعي العام.
التفسيرات المحتملة
ثمة ثلاثة تفسيرات رئيسة محتملة لما قام ويقوم به بيكار:
الأول، الثأر الشخصي: يفترض بشخصية مثل بيكار، كزعيم مافيا، أن يسعى للتفاوض للعودة لتركيا، أي أن الثأر الشخصي لا يفترض أن يكون دافعاً وحيداً لما فعله. لكن شخصيته نفسها قد تصلح إطاراً تفسيرياً لما حدث في ظل أن جميع سفن عودته لبلاده قد أحرِقت.
الثاني، التدافع السياسي: حالة التنافس بين الأحزاب السياسية المختلفة، وبين التيارات المتنوعة داخل العدالة والتنمية، وأسماء الشخصيات التي اتهمها الرجل من المسؤولين الحاليين والسابقين، فضلاً عن “المعلومات” والوثائق بالأسماء والتواريخ التي يستخدمها، كل ذلك يوحي باحتمالية أن يكون الأمر تصفية حسابات بين بعض الأطراف في المشهد السياسي الداخلي التركي.
كما أن هناك بُعداً آخر محتملاً للتنافس الداخلي يكون فيه بيكار هدفاً لا أداة فقط، حيث يُطرح اسم آخر من عالم الجريمة المنظمة وهو علاء الدين تشاكيجي الذي خرج من السجن في نيسان/أبريل 2020، وهناك من يرى بأنه حل محل بيكار وكان خروجه للنور بداية لاستبعاد الأخير من المشهد، والذي فهم بعض تصريحاته بأنها رسالة لبيكار بضرورة وقف فيديوهاته بخصوص صويلو.
ومما يدعم فكرةً مثل هذه التقاريرُ الكثيرة التي تحدثت عن استخدام أجهزة الأمن ما سمي بـ”المافيا القومية” ضد حزب العمال الكردستاني في تسعينات القرن الماضي حين كان محمد أغار نفسه مديراً للأمن، وورد اسم بيكار في عدد من التقارير الاستخباراتية المتعلقة بالأمر.
الثالث، العامل الخارجي: ثمة من يرى بأن الحكومة التركية تستخدم سردية المؤامرة الخارجية كشماعة وأداة للتغطية على الادعاءات. لكن الصحيح أيضاً أن بعض المحطات المهمة والخطيرة في تركيا في السنوات القليلة الأخيرة شهدت تداخلاً بين الداخلي والخارجي. وفي كل الأحوال، فإن أطرافاً خارجية سيكون بإمكانها استثمار الملف حتى ولو لم تكن من خططت له، ما يعني صعوبة استبعاد هذا الاحتمال بالكلية.
الظرف الذي أتت فيه هذه الفيديوهات، وبعض الاتهامات التي طالت الحكومة بل والدولة وليس فقط بعض المسؤولين كادعاء إرسال سلاح للنصرة، وبث بيكار فيديوهاته من دولة الإمارات العربية المتحدة، كلها سياقات تعطي بعض الوجاهة لهذا الطرح، دون أن تجزم به بالتأكيد.
في المقابل، ينفي بيكار صلته بأي طرف خارجي، ويدلل على ذلك بأنه لا يقول كل ما لديه، ولا يكشف ما يمكن أن يورط البلاد، وقد أجل الفيديو الموجّه لأردوغان إلى ما بعد لقاء الأخير ببايدن الأسبوع المقبل، فضلاً عن أن وجوده في دبي اضطراري لعدم وجود مكان آمن آخر، وفق ما قال.
ولكل ما سبق، يمكن القول إن التفسيرات الثلاثة حاضرة في المشهد بدرجة أو بأخرى، وإنها متداخلة ومتفاعلة مع بعضها البعض، ولا يمكن الترجيح بينها في الوقت الحالي، بانتظار تطورات الأسابيع القادمة وطبيعة الملفات التي سيتحدث بها بيكار، خصوصاً وأنه ذكر أنه سيوجّه حديثاً مباشراً لأردوغان دون توضيح طبيعته.
صمت أردوغان ومصير صويلو
يدرك الجميع أن أحد أهم الأمور التي يمكن أن تحسم هذا الملف هو موقف الرئيس أردوغان، والذي صمت طويلاً ثم دعم وزيره كما سبق ذكره. فلماذا صمت ولماذا دعم متأخراً؟
يحتمل تأخر موقف أردوغان عدة تفسيرات، مثل عدم إيلاء الأمر أهمية كبيرة في البدء، أو انتظار مآلاته، أو استجلاء مواقف مختلف الأطراف، أو انتظار رد صويلو، أو حتى إتاحة الفرصة لإضعافه.
ذلك أن صويلو شخصية قوية جداً في الحزب الحاكم والحكومة، وقد زاد من قوته أسلوب استقالته من منصبه كوزير للداخلية في نيسان/أبريل 2020 ورفض أردوغان لها، ثم استقالة صهر الرئيس براءة ألبيراق من وزارة الخزانة والمالية في تشرين الثاني/نوفمبر من نفس العام. وهي عوامل صنعت لصويلو ثقلاً سياسياً مستقلاً عن أردوغان وليس فقط مدعوماً من قبله، وهو فارق مهم بالتأكيد بالنسبة للرئيس.
يضاف لما سبق من أوراق قوة صويلو الدعم المفتوح له من دولت بهجلي رئيس حزب الحركة القومية، حليف العدالة والتنمية. وفي الظروف الحالية التي يحتاج فيها الأخير لدعم حليفه في “تحالف الجمهور” في مواجهة دعوات المعارضة لانتخابات مبكرة، يبدو استغناء الرئيس عن وزير داخليته – وهو أمر أزعم أنه يريده – ذا كلفة سياسية كبيرة.
ولذا، سيكون الوقت هو العامل الحاسم في هذا الملف الساخن والحساس، حيث يمكن أن تتراجع أهميته تبعاً لما ما زال يمتلكه بيكار في جعبته واحتمالية تغطية أحداث أخرى عليه، مقابل أن يقدم شيئاً يدين صويلو بشكل مباشر.
لكن يُشار هنا إلى أن استمرار بيكار في ادعاءاته التي يقول إنها موثقة بالأدلة دون رد يفندها أو تحقيق قضائي يبتُّ بها سيزيد من الضغوط على الحكومة وعلى صويلو شخصياً، خصوصاً وأن الأخير يأتي من خلفية سياسية ارتبط اسمها في الماضي بملفات الجريمة المنظمة، وكذلك حزب الحركة القومية – اليميني المتشدد – الداعم له، فضلاً عن أن الوزير له خصوم كثر.
في الخلاصة، فقد تسببت الادعاءات التي أثارها سيدات بيكار ضجة كبيرة وجدلاً أكبر في تركيا، ومن المتعذر الجزم بمدى صحة أي منها بغير المسار القضائي، إلا أن الأمر له تداعيات سياسية كما هو واضح.
وبغض النظر عن مدى صحة هذه الاتهامات، كلها أو بعضها، فقد تكون صحيحة أو مكذوبة أو خليطاً بينهما، إلا أنها تشوّش على العدالة والتنمية (غير المتهم بها مباشرة) إذ يقارن الكثيرون بين أجندته الإصلاحية في سنوات البدايات وبين السياق الذي يُذكر أو يُتهم به حالياً، وبين بعض قياداته الحالية والسابقة التي خرجت أو أخرجت منه.
قال أردوغان بأن تحقيقاً في الموضوع قد بدأ، ما يعني أن نتائجه من جهة ومدى قدرته على إقناع المواطنين بها من جهة أخرى سيكون لهما ارتدادات على المشهد الداخلي التركي، ذلك أن ظاهرة بهذا الحجم من الاهتمام والمتابعة ستحتاج لإجابات شافية وشفافة.