في تقييم المقاومة الفلسطينية:
نقاش مع مقال حازم نهار
عربي 21
خلال المواجهة الأخيرة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال “الإسرائيلي” وتحديداً في الـ 17 من أيار/مايو الجاري، كتب الأستاذ حازم نهار مقالاً في موقع “المدن” بعنوان “أسئلة الواقع الفلسطيني الراهن”، ناقش فيه بعض الأفكار المتعلقة بالشأن الفلسطيني عموماً والمقاومة على وجه الخصوص.
ولأن بعض هذه الأفكار مطروحة في أكثر من إطار للنقاش، ولأهميتها، ولبعض الحجاج الذي أختلف معه، أحببت أن أتفاعل مع المقال نقاشاً. ولأن المقال طويل والأفكار فيه كثيرة، فقد اخترت بعضَ أهمها – من وجهة نظري – للنقاش.
وقبل البدء بذلك، من المهم أن أسجل نقطتين. الأولى أنني أتفق مع الأستاذ حازم على أهمية النقد، ليس كحق فقط وإنما أيضاً كواجب وضرورة بُغْيةَ التحسين والتطوير، وعلى أن المقاومة غير مقدسة لا بمعناها المجرد ولا بهيئاتها المحسوسة، بل لا أعتقد بأن هذا المفهوم متبنىً من قبلها لا تنظيراً ولا فعلاً.
والثانية أنني أختلف معه في توقيت المقال. فالنقد مهم وضروري ولكن ليس خلال المعركة، فذلك من شأنه التشويش وفيه ضرر محتمل على أقل تقدير، بينما لا يتبدى فيه مصلحة متحققة بشكل لا يمكن تأجيله. إذ أننا نرى أنفسنا جزءاً من المعركة وليس مجرد متابعين لها، وإن كنا لا نملك إلا الفكر والقلم، وبالتالي نحتاج أن نزن كلماتنا ونبصر مآلاتها قبل تسطيرها.
يتحدث الأستاذ حازم عن مركزية الإنسان (الإنسان أولاً) في تقييم المواجهة وحتى في قرارها ابتداءً، منتقداً تجاهل حجم الخسائر البشرية في الطرف الفلسطيني، ومستهجناً الحديث عن النصر والانتصار في ظل الخسائر الأكثر بين الفلسطينيين. ويرى أن ذلك معناه أن “مُواطننا رخيص ومُواطنهم غالي الثمن”، وأن ذلك يحول القضية إلى “شعار في الفراغ يُقتل باسمه المواطن”، مشيراً إلى أن التركيز على خسائر الخصم لا الذات هو ديدن “رجالات الإمارات والفصائل والميليشيات” وليس رجال الدولة.
والحقيقة أنه رغم الاتفاق على أولوية حياة الناس ومركزية الإنسان في فكر المقاومة وممارستها، إلا أنني أرى ذلك مدخلاً خطراً. ذلك أن ميزان القوى بين الاحتلال والقوى الشعبية التي تقاومه محسوم لصالح الأول، تاريخياً وحالياً، ما يعني أن ميزان الخسائر أيضاً محسوم بشكل مسبق. وبالتالي فإن اشتراط التوازن في الخسائر يعني التخلي عن فكرة المقاومة ابتداءً، بينما فلسفة المقاومة في الأصل تُبنى لا على إيقاع خسائر أكثر فيه، وإنما على إيقاع خسائر لا يمكنه تحملها وبالتالي اضطراره لإنهاء الاحتلال. ولو كانت الخسائر البشرية معياراً لما تفاخرنا دائماً بثورة المليون شهيد الجزائرية. ولذلك فإنني قد ارتأيت في مقال لي مؤخراً أن معيار تقييم المواجهة الأخيرة ليس الخسائر البشرية، وإنما المعادلات الجديدة التي فرضتها وتأثيراتها بعيدة المدى على مسار الصراع.
كما أن ذلك لا يعني التقليل من أهمية الإنسان ومركزيته، بل على العكس تماماً، فإن فلسفة المقاومة قائمة على رفض الاحتلال وظلمه لما يسببه للإنسان من ضرر في حياته وأهله وأرضه وممتلكاته، بالقتل والاحتلال والطرد والسرقة وغير ذلك. وهذا لا ينفي بالتأكيد ضرورة أن تعمل المقاومة باستمرار على التقليل من الخسائر في صفوف حاضنتها وشعبها، ولعل فكرة الملاجئ التي طرحها الأستاذ نهار من الأمور المفيدة والمطروحة للنقاش في الحالة الفلسطينية.
ثانياً، يرى الأستاذ نهار أن القضية الفلسطينية يجري إيصالها “بوصفها قضية دينية” تحشرها في “إطار الدفاع عن المقدسات الدينية” مثل المسجد الأقصى، ويؤكد على أنها لا ينبغي أن “تختزل بالمقدسات الدينية”، وأن ذلك جعلها “رهينة الاستقطابات المذهبية والمحاور الإقليمية”.
والحقيقة أن القضية الفلسطينية لم تقدّم يوماً من قبل المقاومة بعدِّها قضية دينية، أو أنها ضد أتباع الديانة اليهودية، وإنما قضية سياسية محورها مقاومة الاحتلال من قبل الشعب المحتل. وهذه سردية متكررة في أدبيات حركات المقاومة سابقاً وحديثاً، ولعل آخرها مقابلة خالد مشعل – رئيس المكتب السياسي السابق لحماس ورئيسها الحالي في الخارج – مع قناة TRT عربي. لكن ذلك لا ينفي الحق وكذلك المصلحة في ترميز المسجد الأقصى، ذي الأهمية الدينية والتاريخية والسياسية وكونه رمزاً جامعاً لكل الفلسطينيين ومعظم الداعمين لهم، فالرموز الأجدى بجذب الدعم والتحشيد للقضية من أهم الأدوات التي ينبغي أن تحرص عليها المقاومة.
الأمر الآخر أن القضية الفلسطينية ليست – بسبب ذلك – رهينة استقطاب من أي نوع، خصوصاً الديني والمذهبي. وأما المحاور الإقليمية فمتشكلة قبل القضية الفلسطينية وفوقها، والأخيرة هي المتأثر بها لا العكس. رغم أن المقاومة ترفع شعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وعدم الاصطفاف ضمن المحاور الإقليمية، وتحرص قدر الإمكان على إبقاء علاقاتها جيدة مع مختلف الأطراف، حتى تلك التي وصلت لدرجة تصنيفها على أنها منظمة إرهابية.
النقطة الثالثة أن المقال يتهم حركة حماس بأنها هدفت من الجولة الأخيرة لـ “تعزيز شعبيتها” إذ أنها تعرف أنها “ستحصل على احتضان شعبي واسع بسببها”، وأنها كان ينبغي لها أن تضع “نفسها في مرتبة ثانية، وأن تبرز قضية القدس والمقدسيين”. ويرى أن “حماس تعمل بدلالة اليأس .. من المجتمع الدولي والعالم العربي”، لذلك تفكر فقط في “كيف يمكن أن نوجع إسرائيل”، متسائلاً “هل تقدمت القضية الفلسطينية بوجودها أعمالها أم تراجعت؟
وبعيداً عن التشكيك والدخول في النوايا اللذَيْن يوحي بهما الكلام، فإن البحث والتدقيق في الوقائع يقولان بعكس ذلك. فقد كانت حماس تُتهَمُ دائماً بأنها تخوض الحرب “لأجل نفسها”، أي لأسباب تتعلق بحماس وغزة مثل الاعتداء على القطاع أو اغتيال أحد قادتها، وأن سلاحها مُحَيَّدٌ عن القضايا الأخرى الأهم. وقد كانت هذه المواجهة القرينة الأوضح على بطلان هذا الادعاء/الاتهام، وعلى أن حماس استخدمت سلاحها لأجل القضية وأحد أهم عنوانينها (القدس والأقصى) وليس لأهداف حزبية، فضلاً عن أن يكون الهدف “انتخابياً” إذ أن الانتخابات الفلسطينية قد أجلت (في الواقع ألغيت) بقرار من محمود عباس.
أكثر من ذلك، فقد خاضت حماس هذه الجولة من التصعيد في ظل ظروف غير مواتية، محلياً وإقليمياً ودولياً. فمسار التفاهمات مع حركة فتح الذي كان سينتهي بانتخابات توقف بقرار من محمود عباس، وحصار غزة ما زال خانقاً ويفاقم الأوضاع المعيشية والاقتصادية داخله، ومسار التطبيع مع الاحتلال كان يسير على قدم وساق، وإدارة بايدن تتحدث عن إعادة إحياء مسار التسوية، وغير ذلك الكثير. ما يعني، في المحصلة، أن الدخول في مواجهةٍ عسكرية مغامرةٌ في هذه الظروف قد تأتي بخسارة سياسية وإعلامية وجماهيرية فضلاً عن عسكرية لها، لكنها خاضتها لأجل القدس – وتركت نفسها ومصلحتها الحزبية ثانياً وتالياً – رغم هذه المخاطرات.
كما أن المقاومة لا تعمل – فيما بدا لنا – بدلالة اليأس. بالعكس فقد تمحور خطابها الإعلامي وأداؤها الميداني حول فكرة الانتصار منذ اللحظة الأولى، وقدَّما من القرائن والنماذج على ذلك الكثير وهو مما ساهم في رفع معنويات الحاضنة الشعبية وقوّى من صمودها. ولذا ففكرة إيلام العدو ليست دَلالة يأس وإنما هي فلسفة المقاومة في وجه الاحتلال، في نماذج تاريخية سابقة مثل فيتنام والجزائر وكذلك في الحالة الفلسطينية.
أكثر من ذلك، فإن فلسفة الفلسطينيين كانت دائماً “إبقاء جذوة المقاومة في الداخل” بينما ينتظر التحريرُ الدعمَ من الخارج، بيد أن السنوات القليلة الأخيرة أنعشت – داخل غزة تحديداً – رؤية تقول إن المقاومة قادرة بمفردها على التحرير، وبغض النظر عن مدى توافقنا مع هذه الرؤية إلا أنها دلالة تفاؤل لا يأس.
وأما النتائج الاستراتيجية للمقاومة عموماً والمواجهة الأخيرة على وجه الخصوص، فهي إيجابية في مجملها وأوضحَ من أن تخفى على متابع، من الانسحاب من جنوب لبنان إلى الخروج من غزة، وصولاً للنقاشات الوجودية داخل الكيان الصهيوني والتي تعززت بعد المواجهة الأخيرة التي ثبّتت معادلات جديدة في الصراع كما سلف ذكره.
رابعاً، يقرر الأستاذ نهار أن “السلمية أكثر نفعاً (من السلاح) لكسب التأييد العالمي”، وهي إحدى المقولات الراسخة في الأطر السياسية والإعلامية في العالم العربي. ومع التأكيد على ضرورة العمل على كسب الرأي العام العالمي، والبحث في أفضل السبل للتأثير عليه، واستخدام اللغة التي يفهمها، إلا أن كل ذلك يندرج تحت إطار الوسائل والأدوات وليس الأهداف والغايات.
بمعنى أن إقناع الرأي العام العالمي بسرديتنا ليست غاية في حد ذاتها ينبغي لها أن تحدد استراتيجية المقاومة، هذا أولاً. وثانياً، فمقولة أن السلمية قادرة على التأثير ليست مسلّمة بل تحتاج لنقاش، كما أن تأثير الشعوب على الحكومات في أمور السياسة الخارجية محدود، فضلاً عن أن الوقائع أثبتت أن التعاطف العالمي لم يتأثر بالمواجهة العسكرية الأخيرة بل تعاظم.
أخيراً، ينفي المقال إمكانية تغيير قواعد الاشتباك في مواجهة كالتي حصلت، وأن ذلك يأتي بفعل “تغيرات استراتيجية نوعية .. مثل وحدة الشعب الفلسطيني ومركزية التمثيل السياسي الفلسطيني”. وعلى أهمية السعي للوحدة والمركزية، إلا أن ذلك ليس شرطاً لتحقيق الانتصارات أو تغيير قواعد الاشتباك، والأمثلة التاريخية واضحة، فضلاً عن أن الأوساط “الإسرائيلية” تكاد تجمع على أن المقاومة الفلسطينية قد خرجت من المواجهة الأخيرة أعلى يداً بعد أن أرست معادلات جديدة.
في الخلاصة، لا خلاف على أهمية النقد والنقاش المتعلق بمقاومة الاحتلال، لجهة الوسائل والأدوات الأنجع لها، لا سيما بعد الانتصار النسبي والمرحلي الذي حققته والذي وضعها ووضع القضية على مشارف مرحلة جديدة مختلفة بالكلية. هذا نقاش نحتاج جميعنا أن نخوضه على أرضية دعم المقاومة والنصح لها والرغبة في تصويبها وتسديد مسارها.