القاعدة العسكرية التركية بقطر: السياق والدلالات
الجزيرة نت
بعد تصريحات أولية دبلماسية ومتوازنة، قدمت تركيا موقفاً متقدماً بخصوص أزمة قطع العلاقات مع دولة قطر بموافقة برلمانها على نشر مزيد من القوات التركية على الأراضي القطرية.
فقد صوت مجلس الشعب التركي الكبير (البرلمان) يوم 7 حزيران/يونيو الفائت على مشروعي قرار، يتعلق الأول بتدريب وتأهيل قوات الدرك القطرية والثاني بتطوير اتفاقية التعاون العسكري المبرمة مسبقاً بين البلدين.
سياق التأسيس
وقعت قطر مع تركيا اتفاقية التعاون العسكري والصناعات الدفاعية التي تتضمن إنشاء قاعدة عسكرية تركية على أراضيها في نهايات العام 2014 فيما بدا من استخلاصات أزمة سحب السفراء الخليجيين في آذار/مارس من العام نفسه، ونصت الاتفاقية على إمكانية نشر قوات تركية على الأراضي القطرية وقطرية على الأراضي التركية. وقد عدل الطرفان في نيسان/أبريل من العام الفائت الاتفاقية لتتناغم مع رؤيتها وأهدافها مثل ” تحديث المؤسسات العسكرية القطرية، وتطوير إمكانات وقدرات القوات المسلحة القطرية” عبر المناورات المشتركة والتدريب والتأهيل، وبما يشمل زيادة عدد القوات التركية التي يمكن نشرها على الأراضي القطرية.
تركياً، تعني هذه الاتفاقية الكثير على صعيد توسع الدور وتمدد النفوذ في المنطقة، حيث ستمنحها هذه القاعدة العسكرية (الريان) إطلالة على الخليج العربي وتواجداً عسكرياً مباشراً فيه بكل ما يحويه من مصادر طاقة وتشابك علاقات وتأثير في الاقتصاد العالمي. يضاف ذلك للقاعدة التركية الأخرى في الصومال، والمطلة على خليج عدن، ليعطي صورة أوضح عن القوة التركية المتصاعدة في المنطقة.
تؤكد هذه الخطوة نزوع السياسة الخارجية التركية مؤخراً نحو دمج القوة الناعمة التي اعتمدتها حصراً لسنوات طويلة مع شيء من القوة الخشنة. ويتبدى ذلك، إضافة إلى القاعدتين في كل من قطر والصومال، في عملية درع الفرات وأزمة معسكر بعشيقة وتطوير الصناعات العسكرية المحلية على سبيل المثال لا الحصر.
وتتبدى أهمية القاعدتين من أنهما تركيتان خالصتان خارج إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو) في العالم العربي، وهو ما يفيد تركيا على المدى الاستراتيجي لجهة الحضور والتنافس مع القوى الإقليمية الأخرى سيما إيران، فضلاً عن ملء الفراغ النسبي الذي تركته – أو قد تتركه – الولايات المتحدة في المنطقة.
قطرياً، تندرج الخطوة ضمن مساعي الدوحة لتطوير مؤسستها العسكرية وتحديثها وتأهيل كوادرها وتدريبهم، بهدف تطوير إمكانات وقدرات قواتها المسلحة بشكل عام. من جهة أخرى يدفع إنشاء قاعدة الريان عجلة التعاون الاستراتيجي بينها وبين أنقرة وينقله إلى فضاءات جديدة، ويخرجها من تفرد “الحماية” الضمنية الأمريكية عبر قاعدة عيديد، ويمنحها شيئاً من الأمان مستقبلاً في ظل تعقيدات السياسة في الخليج وأزماتها المتكررة.
ولئن كان الهدف الرئيس من القاعدة تقديم خدمات التدريب والتطوير والتحديث للقوات المسلحة القطرية، إلا أنها ستكون قادرة على تقديم المساعدة للبلد المضيف في أي أزمات مستقبلية، سيما وأن القوات البرية المدرعة المتواجدة فيها ستدعم جوياً وبحرياً، فضلاً عن إمكانية تطوير اتفاقية التعاون العسكري مستقبلاً لزيادة القوة التركية عدداً وعدة ونوعاً، وهو ما يبدو أن الطرفين مهتمان به.
تضامن وحماية
ما زالت القاعدة العسكرية التركية على الأراضي القطرية قيد الإنشاء، ويتوقع الانتهاء منها قبل نهاية العام الحالي. ولئن تواجد حالياً فيها عشرات المستشارين الأتراك فقط، إلا أنها تستوعب 3000 جندي، وهو العدد المستهدف إرساله قريباً وفق بعض المسؤولين الأتراك ويمكن رفعه إلى 5000 جندي لدى الحاجة وبعد اتفاق الطرفين، وإن كان نشر القوات التركية ليس معتمداً تماماً على الانتهاء من القاعدة بل قد ترسل تركيا قواتها إلى قواعد قطرية قبل ذلك الموعد..
بهذا المعنى، لا تحمل القاعدة العسكرية ولا القرار المصدَّق عليه مؤخراً من البرلمان التركي تأثيراً مباشراً في الأزمة الحالية بين قطر وبعض الدول الخليجية على صعيد التوازنات العسكرية المباشرة، إلا أنهما يحملان رسالة سياسية قوية وعالية السقف، سيما أن حزب العدالة والتنمية قد سرَّع التصويت على مشروعي القرار وقدَّم الموعد على وقع الأزمة.
هكذا، تكون تركيا قد اصطفت بشكل واضح إلى جانب قطر التي تتمتع معها بالعلاقات الأكثر تميزاً من بين دول الخليج، إضافة إلى رؤية صانع القرار التركي بأن استهداف قطر جزء من منظومة أكبر تستهدف تركيا أيضاً ولهذا كان حديثه عن “لعبة” ما تدار خلف كواليس الأزمة وإشارته إلى “دول الخليج التي ابتهجت ليلة الانقلاب الفاشل” في تركيا، فضلاً عن مواقف الدوحة السياسية والإعلامية الثابتة إلى جانب أنقرة سيما ليلة الانقلاب.
تصريحات الرئيس التركي جائت حاسمة خلال لقاء مع أعضاء الحزب في إسطنبول، حيث رفض تهمة دعم “الإرهاب” الموجهة لقطر، ورفض الاعتماد على “الافتراءات” في العلاقات بين الدول، وطالب برفع الحصار عنها تماماً ونهائياً، وأعلن عن إصرار بلاده على “استمرار تطوير العلاقات” وتقديم “كافة أنواع الدعم” للدوحة، وإن أكد على ضرورة الحوار والحل الدبلماسي.
ولعل حسابات أنقرة الدقيقة هي التي دفعتها إلى المزج بين اللغة الدبلماسية الهادئة والإجراءات الداعمة المتسارعة، حيث تحرص الأخيرة على علاقاتها الجيدة مع الرياض ولا تريد لها أن تتأثر سلباً، كما تحاول أن تتجنب الإضرار بأي دور يمكن أن تلعبه للتقريب بين وجهات النظر من موقعها كرئيس دوري لمنظمة التعاون الإسلامي.
رسالة الدعم السياسي التركي لقطر انسحبت على قطاعات أخرى، منها الشعبي عبر حملات التأييد والدعم على وسائل التواصل الاجتماعي، والنخبوي عبر تنظيم مظاهرات تضامنية. لكن الدعم الأهم تبدى في القطاع الاقتصادي حيث امتلأت المتاجر القطرية بالمنتجات الغذائية التركية، كما أكد وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي متابعة الأوضاع في قطر عن كثب، وتعهد رئيس اتحاد المصدّرين الأتراك بتغطية كافية احتياجات الدوحة من ماء وغذاء وبنية تحتية.
بيد أن رسائل تركيا المتضمَّنة في القرار والتصريحات تخطت فكرة الدعم السياسي إلى منطق التضامن والحماية، وهو المعنى الأقرب للقاعدة العسكرية على المدى البعيد، حيث أكد اردوغان أن “تركيا لن تترك قطر لوحدها”، وصرح رئيس لجنة الصداقة القطرية في البرلمان التركي ياسين أقطاي بأن بلاده “لن تسمح بفرض العزلة” على الدوحة.
استراتيجياً
إقرار البرلمان التركي نشر الجنود في قطر والتصريحات الرسمية الصادرة عن أنقرة أفادتا الدوحة معنوياً وسياسياً بشكل كبير، سيما وأن الأزمة قد تخطت فيما يبدو مخاطر الانزلاق نحو تصعيد عسكري أو حلول خشنة غير مرغوبة، بعد أن كانت بعض التصريحات الأولية توحي بذلك أو تهدد به. حيث تضافر الموقف التركي مع مواقف أوروبية ودولية أخرى، أهمها موقف ألمانيا، ليضفي شيئاً من التوازن على المشهد ويدفع باتجاه الحلول الدبلماسية المبنية على الحوار وليس الضغط والابتزاز.
بيد أن التأثير المباشر لقرار تركيا وقاعدتها العسكرية على موازين القوى يبدو محدوداً ودونه عدة عقبات وتحديات، الآن وفي المستقبل. ففي المقام الأول، لن تكون القاعدة جاهزة لاستقبال القوات التركية قبل نهاية العام وهي مدة طويلة جداً لتؤثر في الأزمة الحالية بشكل مباشر، فضلاً عن أن انتقال القاعدة من مهام التدريب والتحديث إلى مهام الدعم والدفاع سيتطلب تعديل الاتفاقية وزيادة حجم الوجود التركي العسكري على الأراضي القطرية وهو ما يعني الحاجة للمزيد من الوقت.
من جهة أخرى، تفرض حقائق الجيوبوليتيك أسئلة وجيهة على واقع القاعدة العسكرية ومستقبلها ومدى نجاعتها في حماية الدوحة، من زاوية بعد المسافة بين البلدين كما لجهة الجغرافيا السياسية في الخليج العربي نفسه. ذلك أن أي تطورات سلبية اتجاه قطر من دول الجوار سيكون العامل البري أساسياً فيها بما يحد من دور القاعدة العسكرية فيها، ولعله من المفيد الإشارة إلى أن الفائدة الأكبر التي تجنيها قطر من القاعدة الأمركية سياسي ضمني وليس عسكرياُ مباشراً.
على المدى البعيد، يدرك الطرفان أن بعض الدول، سيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لن تكون سعيدة بالتواجد العسكري التركي في الخليج وخصوصاً على أراضي قطر التي ينظرون لها بعين التنافس والخصومة. ورغم محاولات تركيا طمأنة مختلف الأطراف، بما في ذلك عرض إنشاء قواعد تركية على أراضيهم، إلا أن التحفظ والتوجس سيفرضان نفسيهما وسيطرحان تحديات إضافية على الملف.
أما التحدي الأبرز استراتيجياً فيكمن في حقيقة الموقف الأمريكي الذي يرى في الخليج العربي منطقة نفوذ خالص له، حيث تستضيف قاعدة العيديد في قطر مقر القيادة المركزية الأمريكية للمنطقة الوسطى (CENTCOM)، ومركز العمليات الجوية القتالية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط، وتوصف بأنها أكبر خزان استراتيجي للأسلحة الأميركية في المنطقة. فواشنطن لا تريد شريكاً أو منافساً لها في المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية ومصادر الطاقة، ولن تكون سعيدة بزيادة النفوذ التركي الذي سيكون في الغالب منافساً لها هناك، خصوصاً في ظل تباعد الرؤى واختلاف الأولويات بينهما في مختلف القضايا والملفات.
في الخلاصة، تحمل القاعدة العسكرية التركية على الأراضي القطرية وإقرار البرلمان التركي نشر جنود عليها رسائل سياسية واضحة إلى جانب الدوحة في الأزمة الحالية وبذور تعاون عسكري واستراتيجي على المدى البعيد، لكن تحديات عدة وبعض العقبات تفترش طريق هذا المشروع الطموح الذي يوليه البلدان أهمية استثنائية.