تقليدياً، كانت أحزاب الإسلام السياسي في تركيا في تناقض صارخ ومعلن مع المبادئ الكمالية والعلمانية للجمهورية التركية، الأمر الذي عرضها للإغلاق والحظر عدة مرات، إما عبر الانقلابات العسكرية أو عبر المحكمة الدستورية العليا.
أما العدالة والتنمية الذي خرج من عباءة حزب الرفاه فقد قرر منذ البداية عدم المواجهة، بل التعايش مع تلك المنظومة، بأن أكد على علمانية الدولة والتزامه بها، ولم يكن واضحاً في حينها إن كان ذلك حصيلة قناعة مستجدة أم خوفاً من الحظر والإغلاق. لكن التطورات المتلاحقة وخصوصاً الأخيرة منها، أثبتت أن الحزب كان يملك رؤية واضحة ومتدرجة لبناء “تركيا الجديدة” كرؤية كلية، تندرج تحتها الكثير من العناوين الجزئية والمرحلية.
وخلال سنوات حكمه الأولى، لم يتطرق الحزب وقياداته للمبادئ العلمانية والكمالية للدولة، وتجنبوا أي احتكاك مع هذه المنظومة المحمية بالمؤسستين العسكرية والقضائية، بما في ذلك الحقوق الفردية والجماعية، للأكراد والمحجبات، وغيرها من الملفات التي حملت ظلماً بيناً للكثيرين. في ذلك الوقت، اكتفت الحكومة بإنعاش الاقتصاد وزيادة دخل المواطن، وببعض الإصلاحات القانونية البسيطة.
لكن الفترة الأخيرة تحديداً من حكم العدالة والتنمية بقيادة اردوغان (ما أسماها فترة الاحتراف) حملت الكثير على هذه الصعد، الديمقراطية والحقوقية، نقلت تركيا نقلة مهمة في مجال الحريات والسلم الأهلي الداخلي.
كانت البداية مع الحريات الفردية وحقوق الأقليات، التي تمت على فترات ومحطات متعددة، بلغت ذروتها في حزمة الإصلاحات الديمقراطية المعلنة في تشرين أول/أوكتوبر 2013، والتي أعادت حق العمل في المؤسسات للمحجبات، إضافة للحقوق الثقافية والاجتماعية للأقليات، وعلى رأسهم الأكراد، وتشديد العقوبات المتعلقة بجرائم التمييز والعنصرية والكراهية بمختلف أنواعها.
وعلى سبيل الخدمات المقدمة للمواطن، والتي برع بها الحزب عبر الحكم المحلي، فقد نقل العدالة والتنمية المدن التركية نقلة هائلة نحو التنمية والتطور والرقي، حاملاً معه في الآونة الأخيرة مشاريع عملاقة أو “مجنونة” كما تسمى هنا، تتخطى القيمة المحلية على مستوى المدينة أو المحافظة أو حتى تركيا، لتحوز الأهمية العالمية، مثل مرمراي ومطار اسطنبول الثالث ومركز اسطنبول المالي والجسر الثالث وقناة اسطنبول، حيث ينتظر أن تساهم هذه المشاريع الضخمة بتثبيت اسطنبول كمركز إقليمي ودولي في مجالات الاقتصاد والسياحة والمواصلات الدولية.
النقلة النوعية الثالثة تمثلت بالحل السياسي للقضية الكردية، التي كلفت تركيا منذ أكثر من أربعين عاماً اكثر من 30 ألف قتيل ومئات المليارات من الدولارات، وتدهور الاقتصاد والمكانة الدولية، وأخرت نهضتها لعقود. مجدداً، اختارت الحكومة التدرج في الحل، فبدأت بالتنمية الاقتصادية والتنموية عبر مئات المشاريع في جنوب شرق البلاد الذي عانى من الإهمال لعشرات السنين، فافتتحت الحكومة الجامعات والمستشفيات والمطارات، وغيرها من المؤسسات التي نهضت بالمنطقة.
ولئن أمكن اعتبار ذلك بادرة حسن نية من الحكومة تجاه المكوّن الكردي من الشعب، إلا أنه – وفق الرؤية السياسية – يتعدى ذلك بكثير. إذ يبدو أن الحكومة قد أحسنت تشخيص المشكلة، واجتراح الحلول، على اعتبار أن المشكلة الكردية وما نتج عنها من تأخر اقتصادي ونزيف بشري وانقسام مجتمعي، أحد أهم أسباب تأخر تركيا سابقاً. كانت المنطقة تعاني الفقر والإهمال والافتقار للخدمات، مما ينمي مشاعر الكره للدولة والحكومة، ويساعد على انتشار أفكار حزب العمال الكردستاني القائمة على المواجهة المسلحة مع الدولة لنيل الحقوق، وكان النزاع المسلح يذكي نفسه بنفسه عبر سيل الدماء من الطرفين. ولذلك، كان لا بد أن يسبق أيَّ تسوية سياسية الاهتمامُ بتلك المنطقة وسكانها وإشعارهم بأنهم مواطنون من الدرجة الأولى.
هنا لاحت إمكانية الوصول للحل السياسي، الذي قضى – عبر اتفاق غير مكتوب ولا معلن حتى الآن- بإلقاء حزب العمال الكردستاني للسلاح، في مقابل الاعتراف بالحقوق القومية والثقافية والسياسية للأكراد، ويبدو أن عملية “السلام” تسير وفق خطوات بطيئة لكن واثقة، حيث لم تشهد البلاد أحداثاً دموية منذ سنوات.
القفزة الرابعة العملاقة التي قامت بها الحكومة التركية كانت التعزية الشهيرة التي صرح بها اردوغان قبل أيام عن “الأحداث” التي تعرض لها الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى في نهايات حكم الدولة العثمانية. فقد كان هذا الملف، إضافة لأهميته السياسية والتاريخية والإنسانية، ورقة ضغط بيد الغرب (فرنسا والولايات المتحدة تحديداً) يتم تجديد استعمالها سنوياً عبر لافتة “تجريم نفي حدوث مجازر للأرمن”.
وبهذه التعزية الصريحة المباشرة تكون تركيا قد سحبت هذه الورقة ولو جزئياً ومرحلياً من يد الغرب، وخطت خطوة أخرى نحو المصالحة المجتمعية الداخلية، وقد عبر عن ذلك أكثر من سياسي تركي، حيث قال وزير الخارجية ومهندس هذه التعزية أحمد داود أوغلو أن القوي والواثق من نفسه فقط لا يخشى الاعتذار والقيام بمبادرات سياسية. تبع هذه المبادرة لقاء ودي بين اردوغان ونائب بطريرك الكنيسة الأرمنية، الذي اعتبرت زيارته تجاوباً إيجابياً مع مبادرة اردوغان.
هكذا، تبدو تركيا قد حققت إنجازات غير مسبوقة في مجال الاقتصاد، قوت أذرعها في السياسة الخارجية، وحققت لها شعبية داخلية اعتمدت عليها في إنجاز إصلاحات سياسية وديمقراطية داخلية تعمل على سد ثغرات البنية المجتمعية التركية، وتسير هنا تركيا بخطوات قوية وواثقة نحو المصالحة النهائية لإغلاق ملفات شائكة وباهظة الثمن مثل المشكلة الكردية والقضية الأرمنية، بما يحررها من القيود الداخلية والضغوط الخارجية، لستكمل مسيرتها نحو رؤية وأهداف “تركيا الجديدة” عام 2023، الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية الحديثة.
يكرر اردوغان في كل خطاباته شكره العميق لكل الزعماء الذين سبقوه وأضافوا إنجازات لمسيرة الشعب التركي، وعلى رأسهم – من المعاصرين – مصطفى كمال أتاتورك، عدنان مندريس، تورغوت أوزال، ونجم الدين أربكان، ويبدو أنه يسعى بكل قوته وجهده ليضيف اسمه إلى هذه القائمة كصاحب مشروع “تركيا الكبيرة” الذي خطى بها كل هذه المسافة، سيما وأنه – في حال انتخب رئيساً – سيكون الرئيس الأول المنتخب من الشعب مباشرة، وهو شرف لم ينله أي ممن سبق ذكرهم.