بعد أيام من تعقيبه على قرار المحكمة الدستورية التركية بإعادة فتح موقع تويتر قائلاً إن حكومته “ستنفذ القرار ولكنها لا تحترمه”، ردد رئيس الوزراء التركي تهديداته باجتثاث ما يسميه “التنظيم الموازي” من مؤسسات الدولة، معتبراً أن القضاء هو المؤسسة الأخيرة التي يحتمي بها ذلك التنظيم، وبالتالي أصبحت معركة “تطهير القضاء” وفق تعبيره معركة تركيا الأخيرة في سبيل تحقيق حريتها التامة في “معركة الاستقلال” الجديدة.
فقد قال اردوغان في كلمة له أمام كتلة حزبه البرلمانية: “لقد تمكنا من تطهير الدولة من العصابات، وسنطهر مؤسسة القضاء من تلك الشبكات”، في إشارة إلى جماعة الخدمة التي يتزعمها فتح الله كولن.
معارك سابقة
ذلك أن النظام الكمالي المتجذر في تركيا كان يعتمد دائماً في حماية علمانية الدولة من أي تهديد، حتى ولو كان أحزاباً سياسية أو حكومات منتخبة، بما في ذلك الانقلابات العسكرية، على ثلاث مؤسسات، وهي الجيش والقضاء والإعلام. ولئن كانت الحكومات التركية المتعاقبة منذ عام 2002 بزعامة اردوغان قد استطاعت فعلاً كبح جماح الإعلام والجيش وتحييدهما، إلا أن المعركة الحالية مع القضاء تبدو أصعب وأفدح ثمناً.
فقد انتصر اردوغان على أباطرة الإعلام بعد سنوات من العمل الدؤوب، من خلال متابعة ملفات الفساد ضد بعضهم، ورفع قضايا ضد المتجاوزين منهم، وشراء مقربين منه لأسهم في بعض وسائل الإعلام تغييراً لسياساتها التحريرية المناهضة للحكومة، ووضع الحكومة يدها عبلى بعض وسائل الإعلام التابعة لرجال أعمال هربوا من البلاد خوفاً من القضاء، وفتح المجال الإعلامي على مصراعيه لكل من يريد أن يعمل فيه. وكان لهذه الخطوات المتلاحقة والمنظمة – إضافة إلى النجاحات السياسية والاقتصادية وتقوية الحاضنة الشعبية للحزب – أبلغ الأثر في توازن الحالة الإعلامية في مواجهة الحزب الحاكم، بل ربما رجحت كفتها إلى جانبه في بعض الاحيان، كما ظهر أثناء أحداث حديقة “جزي” في اسطنبول.
أما المؤسسة العسكرية، حامية حمى العلمانية والمبادئ الكمالية في تركيا بنص الدستور سابقاً، فقد تدخلت أربع مرات، مرتين بانقلاب دموي ومرتين بالضغط عبر مجلس الأمن القومي لاستقالة الحكومة (انقلاب ما بعد حداثي)، وكانت تشكل دائماً بعبعاً مخيفاً لأي حكومة متناقضة مع هذه المبادئ.
وقد استطاع العدالة والتنمية في بدايات حكمه تجنب إغضاب المؤسسة العسكرية، وقدم نفسه للقوى الخارجية والداخلية كحزب خدماتي مختلف تماماً عن حزب الفضيلة الذي انشق عنه، وسعى عبر السنوات اللاحقة إلى تحجيم تدخل الجيش في الحياة السياسية عبر عدد من الخطوات كان منها:
- تعديل هيكلية مجلس الأمن القومي، بإتباعه للقيادة السياسية وجعله ذا أغلبية مدنية، لتصبح قراراته استشارية بعد أن كانت ملزمة للحكومة.
- إعداد القيادات والسيناريوهات البديلة، وقد ظهر ذلك جلياً حين استقال رئيس أركان الجيش وقادة القوات الجوية والبرية والبحرية بشكل جماعي عام 2011 في محاولة للضغط على الحكومة، ففاجأهم اردوغان بقرار تعيين نجدت أوزار رئيساً لأركان الجيش خلال أقل من ساعة.
- محاكمات العشرات من جنرالات وضباط القوات المسلحة في قضايا التخطيط لانقلابات على الحكومة ضمن قضيتي “أرغنكون” و”المطرقة”، إضافة إلى محاكمة من نفذوا انقلابي عام 1980 و1997.
- تعديل مهمة القوات المسلحة في الدستور التركي مؤخراً لتنحصر مهمتها في “حماية الحدود من العدو الخارجي” بعد أن كانت الانقلابات السابقة تعتمد على المادة 35 من الدستور التي تنيط بالجيش حماية الأسس العلمانية الأتاتوركية التي قامت عليها الجمهورية.
المحكمة الدستورية وحظر الأحزاب
بيد أن القضاء التركي شكل دوماً أقوى أسلحة النظام العلماني خلال تاريخه، حيث حظرت المحكمة الدستورية العليا منذ تأسيسها عام 1963 وحتى الآن 26 حزباً، ضمن 58 حالة حظر أحزاب في تاريخ تركيا الحديثة، تشكل معظمَها الأحزابُ الإسلامية والكردية.
كما أن العدالة والتنمية نفسه واجه خطر الحظر والإغلاق عام 2008 بتهمة تحوله إلى “مركز لأنشطة متعارضة مع العلمانية”، إلا أنه نجا بفارق صوت واحد (صوت مع القرار 5 أعضاء من المحكمة وعارضه 6)، رغم أن المحكمة أثبتت عليه تهمة معاداة العلمانية وعاقبته مالياً بخفض الدعم الذي يتلقاه من الدولة إلى النصف.
وقد شكلت التعديلات الدستورية التي تمت عبر استفتاء شعبي عام 2010 منعطفاً مهماً في تاريخ المحكمة، حيث تم تعديل بنيتها وزيادة عدد أعضائها من 11 إلى 17، وتحديد فترة عمل القضاة بها، وإعطاء دور أكبر لرئيس الجمهورية في اختيارهم، وتقليل إمكانية حظر الأحزاب السياسية (باشتراط موافقة ثلثي الأعضاء).
الانقلاب القضائي
إلا أن الأجواء الهدوء السائدة بين الحكومة والقضاء منذ أعوام توارت تحت وطأة الأزمة التي تعاني منها تركيا منذ السابع عشر من كانون أول/ديسمبر 2013، والتي تضمنت اتهامات بالفساد وجهت لوزراء ورجال أعمال مقربين من الحكومة، ووضعت الطرفين في مواجهة بعضهما البعض.
فقد اعتبرت الحكومة ترتيب تلك الحملة بشكل سري ودمج ثلاث قضايا منفصلة في حملة واحدة محاولة لزعزعة الثقة في الحكومة وتشويه صورتها بهدف دفعها للاستقالة. ولأن قرارات التصنت والمتابعة ثم الاعتقال والتحقيق تمت كلها بعيداً عن التسلسل الإجرائي الهرمي المتبع في قضايا مشابهة، فقد اتهم اردوغان وحزبه “تنظيماً موازياً” في الدولة يأخذ تعليماته من خارج مؤسساتها بترتيب “انقلاب قضائي” على الحكومة.
ذلك أن جماعة كولن/الخدمة، حليف العدالة والتنمية السابق، اعتمدت منذ عشرات السنين على سياسة التغلغل الهادئ في مؤسسات الدولة المختلفة، ووجدت في السنوات الأخيرة دعماً وحرية غير مسبوقين مكناها من تثبيت أقدامها في مختلف المؤسسات، سيما الشرطة والأمن والاستخبارات والقضاء، حيث يعتقد أن الجماعة تملك حضوراً لا يستهان به في المحكمة العليا ومجلس الدولة والمحكمة الدستورية، إضافة إلى الهيئة العامة للقضاة والمدعين العامين التي تزعمت الصراع مع الحكومة منذ بداية الأزمة.
ورغم الإجراءات الكثيرة التي قام بها اردوغان خلال الأشهر الفائتة لحماية الحكومة من الجهاز القضائي، إلا أن التطورات المختلفة تشي بصراع صعب وطويل. ذلك أن إقالة وتغيير أماكن عمل العشرات من العاملين في السلك القضائي، إضافة إلى قانون القضاء الذي أتبع الهيئة العامة لوزير العدل مباشرة، وحدد من صلاحياتها، كل ذلك لم يحسم الصراع لصالح الحكومة. فقد بدا أن نفوذ جماعة كولن في السلك القضائي لم يتأثر كثيراً، بعد صدور قرار الإفراج عن رجال شرطة اتهموا بعضوية التنظيم الموازي والتنصت وترتيب عملية ضد جهاز المخابرات التركية، إضافة إلى دخول المحكمة الدستورية على الخط مؤخراً، في سلسلة من القرارات التي ألغت قرارات أصدرتها الحكومة، بما فيها قانون تنظيم القضاء وحظر تويتر وقانون مؤسسة الاتصالات وتقنية المعلومات.
المقارنة مع الجيش
صعوبة هذه المعركة بين الحكومة والقضاء، إضافة لطول أمدها وتطوراتها المتسارعة، تضعنا أمام سؤال يفرض نفسه حول أسباب نجاح العدالة والتنمية في صراعه مع المؤسسة العسكرية المتحكمة في البلاد لعشرات السنين، في حين أنه لم ينجح حتى الآن في حسم صراعه مع المؤسسة القضائية، أو المتنفذين فيها من جماعة كولن. وفي محاولة للإجابة على هذا التساؤل المنطقي، نجد أمامنا العوامل والفروقات التالية:
أولاً، استثمار العدالة والتنمية ملف الانضمام للاتحاد الأوربي ودعم الولايات المتحدة له لإنجاز إصلاحات ديمقراطية صبت كلها في اتجاه تحجيم دور الجيش في العملية السياسية، بينما يقف الاتحاد الأوروبي اليوم في مواجهة الحكومة التركية بسبب ما اعتبره تدخلاً منها في عمل القضاء.
ثانياً، امتلاك العدالة والتنمية قوة قانونية في مواجهة الجيش باعتبار تدخله في الحياة السياسية جرماً سيما بعد تعديل مهمته في مواد الدستور، بينما تملك المحكمة الدستورية (والقضاء عموماً) يداً عليا على الحكومة والسلطة التنفيذية.
ثالثاً، إمكانية تسويق مواجهة الحكومة مع المؤسسة العسكرية كنجاحات ديمقراطية، بينما تواجه الحكومة في الداخل والخارج ادعاءات بالضغط على المؤسسة القضائية ومحاولة التستر على قضايا الفساد.
رابعاً، وهو البعد الأهم ربما، أن الحكومة قامت بتقليم أظافر الجيش بمبادرة من جماعة كولن وبمساعدة أعضائها المتنفذين في مختلف المؤسسات (يعتقد على نطاق واسع أنهم من قاموا بالتنصت وتسريب خطط الانقلابات)، بينما هم أنفسهم الذين يواجهون الحكومة اليوم، فيما تبدو الأخيرة عاجزة حتى الآن عن محاصرتهم بسبب افتقارها للأدوات الإجرائية والقانونية التي تمكنها من التغلب عليهم.
إلى أين؟
هكذا، تبدو المواجهة الحالية بين اردوغان وما يسميه التنظيم الموازي في جهاز القضاء معركة مفتوحة على كل الاحتمالات، ويملك الطرفان فيها أوراقاً قد يلجؤون إليها. ففي حين يركز اردوغان على عدم اختصاص المحكمة الدستورية في كثير من القضايا التي انبرت لها، إضافة إلى صدور تصريحات سياسية من أعضائها، قد تصعد الأخيرة الموقف بإجراءات ربما تصل وفق مراقبين إلى إلغاء بعض نتائج الانتخابات البلدية الاخيرة، سيما في مدينة أنقرة، بعد تقدم حزب الشعب الجمهوري المعارض بشكوى للمحكمة بخصوصها.
ولئن كانت هذه المواجهة مضرة بصورة تركيا الخارجية وأداء العدالة والتنمية أمام الاتحاد الأوربي وغيره من المنظمات الدولية، إلى أن اردوغان – فيما يبدو – مصر على استكمال الشوط إلى آخره، معتبراً الصراع مع متنفذي الخدمة في القضاء معركة تركيا مع آخر معيقات تقدمها، ويبدو في سبيل ذلك زاهداً في ملف الانضمام للاتحاد الأروبي بشكل مؤقت، غير عابئ بالانتقادات الدولية، مركزاً على المشهد الداخلي، الذي ستتضح معالمه أكثر بعد انتخابات الرئاسة.
فإذا ما وضعنا بعين الاعتبار تنحي الرئيس الحالي غول عن سباق الرئاسة ورغبة اردوغان في الترشح وزيادة صلاحيات الرئيس الذي سينتخب لأول مرة من قبل الشعب مباشرة، سنرى أن المعركة مرشحة للاستمرار بل ورفع السقف، خاصة بعد الانتخابات الرئاسية في آب/أغسطس القادم.