لا يستطيع الإنسان الانفكاك عن دوائر انتمائه التي تمنحه هويته أو هوياته، فكل منا ابن – أو ابنة – عائلته وقريته ومدينته وبلده ودينه ومذهبه وعرقه وأمته، وله أفكاره وآراؤه حول الكون والإنسان والحياة، إلى غيرها من السمات الرئيسة التي تصنع للإنسان دوائر انتماء متوازية أحياناً ومتداخلة في أحيان أخرى تصوغ له هويته أو هوياته.
لا شك أن هذه الهوية مهمة ومحورية في حياة الإنسان، إذ هي بمثابة البوصلة التي تسيره في فجاجها، والنور الذي يهديه في سبلها، والضابط الذي يحميه من الزلل في دروبها الوعرة. يشعر الإنسان براحة نفسية عميقة كلما كان متناغماً في أفكاره وأعماله ومواقفه مع هذه الهوية، وإلا أصبح “شخصية ممزقة” – على نسق الدولة الممزقة بتعبير هانتنغتون – تشدها الهوية إلى جهة والواقع إلى جهة أخرى.
ثمة معركة واحدة فقط تتمحور حول الهوية يمكن اعتبارها واجبة أو ربما مقدسة، وهي معركة الحفاظ على الهوية في مواجهة محاولات طمسها وإلغائها، مثل صمود الجزائر في وجه خطة “الفرنسة”، ونضال فلسطيني الأراضي المحتلة عام 1948 ضد محاولات تهويدهم ومسخ هويتهم، وجهود مسلمي الغرب للحفاظ على هويتهم من الذوبان الكامل في المجتمعات الأمريكية والأوروبية مثلاً.
بيد أن الكثير من “معارك الهوية” تـُفرض علينا فرضاً بشكل مفتعل ولا طائل من ورائها ولا فائدة، بل لعل أثرها الأكبر هو أنها تشغب على المعركة الرئيسة والأهداف الأساسية لأي مواجهة وفق ثلاثية الزمان والمكان والظرف. هذه المعارك ليست للحفاظ على الهوية، بل على العكس تماماً، هي معارك وهمية توحي بحماية الهويات رغم أنها غير مهددة، وتبدّل الاصطفافات الحقيقية في أي معركة، كما أنها معارك لا نهاية لها وبالتالي فلا يمكن الانتصار فيها إذ أن هدف أي معركة هوية هو الإفناء الكامل للطرف “الآخر” وهو أمر غير ممكن وفق كل التجارب التاريخية.
في الثورة المصرية وبعد تنحي مبارك الشكلي، وحين كان يجب أن يتم التركيز على المسار الثوري ومحاصرة النظام السابق ورجاله وتثبيت الخطوات الديمقراطية وحماية مخرجاتها ومنجزاتها، افتعلت معارك “حفظ الشريعة” في الدستور وكأنها كانت مهددة أو كأن المهم هو النص الدستوري لا التطبيق الفعلي، وحين كان واجب الوقت هو الحفاظ على الصف الثوري متماسكاً في وجه الثورة المضادة (ما سمي تجاوزاً في حينها “الفلول”) وقع الخلاف الإسلامي – العلماني على شكل الدولة المستقبلي، الذي لم ير النور بطبيعة الحال بعد أن فرقت المعارك الجانبية الصف وأشغلت الجميع عن المعركة الأساس.
في سوريا، ثار الشعب في وجه نظام فاسد وظالم وباطش، وقدمت الثورة السورية في أشهرها الأولى صورة ناصعة لتوحد الشعب خلف مطالب إصلاح/إسقاط النظام، قبل أن تـُفتعل الاصطفافات على أسس هوياتية فكانت النتيجة أن قاتل “الثوار” بعضهم البعض في أحيان كثيرة أكثر مما قاتلوا – أو قاتل بعضهم على الأقل – النظام. لقد فرق التموضع على أسس أيديولوجية وهوياتية الصف الثوري مرة أخرى وخدم الأجندات الخارجية المتصارعة والمتنافسة والمتعاونة أكثر مما خدم الشعب السوري نفسه، وساهم ضمن عوامل عدة في استدامة القتال واستعصاء الحل وفوضى المشهد كما نراها اليوم.
وفي المنطقة بشكل عام، يتم الحشد لصراعات سياسية على أسس مذهبية وطائفية لأنها تفيد في تكثير الجنود على طرفي المعادلة، ويتم التغاضي في سبيل ذلك عن الاصطفافات غير المذهبية في كلا الجبهتين (السنة والأقليات غير المسيحية إلى جانب الأسد، وتعاون علي عبدالله صالح مع الحوثيين، والتدخل الروسي المباشر مثلاً) لأنها لا تخدم سردية “الطائفية” ولا تفيد “المعركة المقدسة” التي تضمن الولاء التام وغياب أي صوت للعقل أو النقد أو المتابعة أو التصويب. يفعل الطرفان ذلك وهم غير مدركين – ربما – لمآلات النزاعات الصفرية على أسس طائفية ومذهبية وعرقية وما قدمه لنا التاريخ من دروس ذات عظة في هذا الإطار سيما في المثال الأوروبي في حربي المئة عام والثمانين عاماً.
بيد أن هذا الاصطفاف الهوياتي ليس مقتصراً على المعارك الساخنة أو بلاد الثورات العربية، بل يعاني كل مجتمع أو بلد عربي من انقسامات داخلية على أسس هوياتية وخصوصاً الدين والعرق والمذهب. فمصر فيها المسلمون والأقباط، ولبنان فيه السنة والشيعة، والأردن فيه الأردنيون والفلسطينيون، والمغرب العربي فيه العرب والأمازيغ، والعراق فيه السنة والشيعة والأكراد ..الخ.
لا شك أن هذه الهويات الفرعية – إن جاز التعبير – تتغذى على ضعف الهوية الجامعة على مستوى الأمة والدولة والشعب وعلى تفاقم الأزمات التي تفقد هذه الأطياف الشعور بالأمن وعلى ضعف الإدارات المركزية للدول، فيصبح اللجوء لهذه الهويات والتمترس خلفها بمثابة الجدار الذي تختبئ خلفه وفي حماه هذه الأطياف. بهذا المعنى، يصبح الاصطفاف الهوياتي تعبيراً عن أزمة أكثر من كونه حلاً ناجعاً للمشكلات، في حين يكمن الحل في شعور الجميع بالمساواة في الأمن والدخل والفرص والحماية في ظل المواطنة الكاملة.
ومن بديهي القول إن الأنظمة الحاكمة ساهمت في تفعيل هذه الاصطفافات والانقسامات وتعميقها وتضخيمها إلى أبعد الحدود لأنها أداة ناجعة في أيديها لحكم الشعوب وإخماد أي صوت للمعارضة فيها على مبدأ “فرّق تسد” الشهير. الأخطر من ذلك أن هذه الاصطفافات والانقسامات تحولت إلى شبه قناعة راسخة وحقيقة مقبولة لدى المجتمعات نفسها أدت إلى نوع من الرقابة الذاتية، فأصبح هاجس الاقتتال الداخلي أو الحرب الأهلية حاضراً بقوة كعامل مثبط لأي حراك داخلي أو أمل بمستقبل مختلف، بحيث تنشأ معارضة داخلية تلقائية لأي مشروع تغييري بسبب هذا التوجس، وتتحول أي ظاهرة اجتماعية – سياسية بين الشعب والنظام إلى مواجهة داخلية بين مكونات الشعب المختلفة، في حين تسارع كتل واسعة من الأطياف المختلفة إلى تبرئة نفسها والمنتمين معها لنفس “الهوية” مما حصل أو “قد” يحصل، بما يغطي على الأسباب الحقيقية لأي مشكلة ويعقد سبل الوصول إلى حلول ناجعة وناجزة.
لا ينفي هذا الكلام المظلومية الواقعة في المنطقة على أطياف واسعة، ولا يدعو للتسامح مع القتل والظلم والبطش والطغيان، ولا يدعو لنظرة رومانسية حالمة في مقاربة الأزمات التي يمر بها عالمنا العربي، لكنه يدعو فقط إلى وضع الأمور في نصابها الصحيح وسياقها السليم، والتعامل معها على هذا الأساس، فضلاً عن أنه يحاول استشراف إمكانية الخروج من هذه الوهدة الحضارية التي وقعنا بها بعد أن تسكن فوهات البنادق، إن سكنت وهدأت.
إن قدر هذه المنطقة هو التنوع الديني والعرقي والمذهبي والسياسي والفكري، وهو الناموس الذي خلق الله سبحانه وتعالى الكون على أساسه وفق معنى “ولذلك خلقهم”. ولطالما كان من المستحيل إفناء أي طيف من أطياف المجتمع – فضلاً عن لا أخلاقية هذا الطرح – فإن واجب الوقت هو صياغة العقود الاجتماعية التشاركية في كل مجتمع على حدة ثم في العالم العربي والمنطقة بشكل عام، بحيث يخرج هذا التنوع من مساحات الاقتتال وخدمة مصالح الخارج إلى مساحات التلاقي والثراء والعيش المشترك وصياغة المستقبل الواحد، وبدون ذلك سيكون من الصعوبة بمكان توقع إمكانية استقرار هذه المنطقة ونهضتها ولا رفعة هذه الأمة وعزتها.