تركيا وروسيا في كازاخستان: توافق ظاهري وتنافس محموم
الجزيرة نت
منذ اندلاع الاحتجاجات في كازاخستان وما تلاها من تطورات، يبدو ظاهرياً أن كلاً من تركيا وروسيا تتبنيان الموقف نفسه من الأزمة والمتمثل بضرورة استعادة الاستقرار في البلاد تحت حكم الرئيس قاسم جومارت توكاييف. إلا أن نظرة أعمق لحقيقة المواقف والأدوار تقول إنهما في حالة تنافس شديد في هذه الأزمة، وإن تعاظم الدور الروسي في الأزمة عبر إرسال قوات إلى كازاخستان هو من زاوية ما على حساب دور تركيا ومصالحها.
تركيا وروسيا
تعد العلاقات التركية – الروسية مؤخراً من الملفات الشائكة والمستشكلة على كثير من المتابعين، وتدور بخصوصها تقييمات غير دقيقة مدفوعة بالانطباعات التي تولدها التطورات المتعاقبة في السنوات القليلة الأخيرة والتي بدت فيها أنقرة أقرب لخصمها التاريخي موسكو من حليفها التقليدي واشنطن.
فقد طوّر الجانبان علاقاتهما السياسية والاقتصادية بشكل ملحوظ في عهد العدالة والتنمية وخصوصاً في السنوات القليلة الأخيرة ما بعد أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في الأجواء التركية (خريف 2015). وقد وصلت العلاقات بينهما لمساحات استراتيجية مثل صفقات السلاح النوعي كمنظومة إس400 الدفاعية الصاروخية ومشاريع الطاقة العملاقة كمفاعل أك كويو النووي ومشروع السيل الأزرق للغاز الطبيعي.
كما أن الجانبين أبرما تفاهمات ثنائية وجماعية جنبتهما الصدام في عدد من الصراعات ومكّنتهما من إدارة الخلاف بينهما حتى اللحظة، مثل سوريا وليبيا والقوقاز. ويضاف لكل ذلك التوتر الملحوظ في علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما دفع البعض للحديث عن “توجه تركيا نحو الشرق” و”تحالفها” مع روسيا ونقض تحالفاتها الغربية.
بيد أن هذا التقييم غير دقيق ومبالغ به ومتسرع نوعاً ما بالنظر للمعطيات الحالية، وغاية ما هنالك أن ثمة تغير جذري في منظومة علاقات تركيا مع القوى العظمى مدفوع من جهة بنهاية الحرب الباردة وحالة السيولة السائدة في النظام العالمي منذ ذلك الوقت وعدم استقراره على حالة ما، ومن جهة ثانية تبدل نظرة أنقرة لنفسها ومكانتها ومصالحها وقوتها والأدوار التي يمكن أن تلعبها وبالتالي سعيها لشيء من الاستقلالية النسبية في سياستها الخارجية.
ولذلك يبقى التقارب التركي – الروسي تكتيكياً أكثر منه استراتيجياً، ومدفوعاً بتجاهل حلفاء تركيا التقليديين لمصالحها وأمنها القومي وكذلك بسعيها لتجنب الصدام مع روسيا التي باتت “تحاصرها” من عدة جهات بفعل تطورات السنين الفائتة ولا سيما تدخلها العسكري المباشر في سوريا منذ أيلول/سبتمبر 2015.
ذلك أنه إضافة للصراع التاريخي والخلافات التقليدية بين الجانبين، وحقائق الجيوبوليتيك التي تساهم في ذلك، فإن لهما رؤى مختلفة ومتنافسة وأحياناً متناقضة ومتصادمة في معظم القضايا ذات الاهتمام المشترك من سوريا إلى ليبيا ومن القوقاز إلى أوكرانيا وشبه جزيرة القرم ومن البلقان إلى آسيا الوسطى ومن البحر الأسود لشرق المتوسط.
ويمكن القول إن الأزمة الأخيرة في كازاخستان مثال إضافي على حالة الاختلاف والتنافس بين البلدين، وإن بدا عكس ذلك في التصريحات الرسمية والمواقف المعلنة.
تنافس محموم
منذ اندلاع الاحتجاجات في كازاخستان مطلع العام الحالي وهناك سرديتان رئيستان تتنافسان تفسير الحدث. الأولى أنها مظاهرات مطلبية – اقتصادية وسياسية – من الشعب في مواجهة نظام يوصف عادة بالمستبد، بقي الرئيس السابق نزارباييف على سدة الحكم فيه ما يقرب من ثلاثة عقود قبل أن يترك المنصب لأحد رجاله، اسمياً فقط وفق كثيرين. والثانية، أنها أزمة مفتعلة من الولايات المتحدة والغرب في مواجهة روسيا على هامش الأزمة الأوكرانية مؤخراً، وبالتالي سيناريو مكرر من “الثورات الملونة” ومحاولة “التحرش” بموسكو في عمقها الاستراتيجي والإتيان بأنظمة وحكومات أبعد عنها وأقرب لواشنطن.
وغالب الظن أن السرديتين لهما شيء من الوجاهة، وأن الحقيقة مزيج من هذه وتلك وإن بدرجات مختلفة. لكن ثمة عنصر غائب حاضر في هذا التقييم، وهو علاقة تركيا بالتطورات، أو بتعبير أدق علاقة التطورات – وخصوصاً التدخل الروسي – بتركيا.
ذلك أن آسيا الوسطى وخصوصاً الجمهوريات التركية التي تأسست بعد انهيار الاتحاد السوفياتي هي إحدى أهم مساحات التنافس بين روسيا وتركيا، والتي تديرها الأخيرة بالأصالة عن نفسها وجزئياً بالنيابة عن الكتلة الغربية. حيث تتشكل تلك الجمهوريات من أغلبيات عرقية تركية (ومسلمة) وأقليات روسية وتحكم معظمَها أنظمةٌ موالية لموسكو.
بدأ اهتمام أنقرة بهذه الجمهوريات منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وتحدث الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال عن حدود “العالم التركي من الأدرياتيك إلى بحر الصين”. وقد أسست تركيا في 2009 “المجلس التركي” الذي جمع الدول الناطقة باللغة التركية وهي تركيا وأذربيجان وكازاخستان وقرغيزيا وأوزبكستان، إضافة للمجر بصفة مراقب. وهو المجلس الذي أعلن أردوغان في تشرين الثاني/نوفمبر الفائت فقط عن تحوله إلى “منظمة الدول التركية” التي تسعى لتعميق وتطوير التعاون في “العالم التركي”، مؤكداً أن قادتها وافقوا على وثيقة “رؤية العالم التركي 2040” كمنظور مستقبلي للمنظمة.
في المواقف الرسمية المعلنة، تدعم كل من موسكو وأنقرة الاستقرار في كازاخستان وتدعوان للهدوء وتعلنان عن دعمهما لكازاخستان وثقتهما بعودة الهدوء قريباً وتشكيل حكومة جديدة في أسرع وقت ممكن. لكن هذا لا يعني أن موقف الجانبين واحد.
فموسكو أقرب لتبنّي سردية النظام الذي تحدث عن “عصابات مدربة في الخارج” و”عناصر إرهابية” و”مشاريع تخريب”، ولذلك فقد ذكر بيان منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهي منظمة تأسست في تسعينات القرن الماضي بريادة روسية وضمت دولاً كانت ضمن الاتحاد السوفياتي من بينها كازاخستان، وجود “أيادٍ خارجية” تذكي الاضطرابات في البلاد عبر “تشكيلات رجال العصابات المدربين في الخارج”.
في المقابل، فإن أنقرة لم تبد دعماً صريحاً للنظام أو الرئيس وإنما لكازاخاستان كدولة وكشعب، ولم تغفل في تصريحاتها الرسمية الإشارة للمطالب الشعبية. فقد عبر أردوغان خلال اتصاله بتوكاييف عن “أمله بتشكيل حكومة جديدة .. وإنهاء التوتر بأسرع وقت ممكن”. بينما أمل بيان وزارة الخارجية التركية “بضمان أمن ورفاه الشعب الكازاخي الشقيق”، وعبر عن “ثقته بالشعب الكازاخي”.
وبينما قال الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين إن بلاده “ستقف دائماً إلى جانب كازاخستان”، أكد وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو على أن الدول الأعضاء في منظمة الدول التركية مستعدة لتقديم كافة أشكال الدعم “ليحلَّ الاستقرار والسلام” في البلاد. كما عبر رئيس البرلمان مصطفى شانتوب عن ثقته بأن “كازاخستان دولة وشعباً ستتجاوز هذه الأيام العصيبة عبر التحلي بالحكمة”.
إن قراءة التدخل الروسي السريع والقوي والفاعل، تحت مظلة منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وإرسال آلاف الجنود في فترة وجيزة لكازاخستان كتصرف سريع لمنع تدهور الأحداث وسحب البساط من تحت الولايات المتحدة الأمريكية قراءة صحيحة، لكنها ليست كاملة. فهو، أي التدخل، يستبق أيضاً الدور التركي الذي سعى للتواصل مع الرئيس الكازاخستاني وكذلك مع الدول الأعضاء في منظمة الدول التركية التي أعلنت حديثاً كما سلف ذكره. ولعل إعلان قمة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي قبل يوم واحد من القمة المعلنة لمنظمة الدول التركية في الـ 11 من كانون الثاني/يناير الجاري دلالة كافية على هذا البُعد الضمني وغير المعلن.
وعليه، ختاماً، فإن الأزمة في كازاخستان تعد إضافة على الملفات الخلافية أو التنافسية بالحد الأدنى بين أنقرة وموسكو، اللتين تديران الخلافان بينهما مؤخراً بما يشبه لعبة الشطرنج ودون الحاجة للصدام المباشر. فنهاية المواجهة العسكرية الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا كانت مكسباً رمزياً لتركيا، لكن روسيا نشرت قوات لها على الأراضي الأذربيجانية. قبل ذلك، قلبت أنقرة المعادلة في ليبيا من خلال دعمها لحكومة الوفاق، لكن موسكو أوقفت قوات الأخيرة عند سرت.
ولعله من المفيد الإشارة إلى أن العلاقات التركية – الروسية ليست بنفس مستوى الدفء السابق، فقد تراجعت وتيرة وحميمية اللقاءات والاتصالات بين أردوغان وبوتين في 2021، وتوالت الرسائل المتبادلة بينهما مؤخراً في البلقان، وظهرت بوادر خلاف جديد في الملف السوري بعيد لقاء أستانا الأخير، ويستمر الضغط الأمريكي على تركيا بخصوص منظومة إس400.
لن يندفع البلدان إلى مواجهة مباشرة او غير مباشرة، وفق قراءتنا للمعطيات، فقد اعتادا على تجاوز تلك الاحتمالية عبر عدة آليات، لكن الملفات الخلافية بينهما تزداد عدداً وسخونة وتعقداً على هامش التوتر الروسي – الغربي، ما قد ينعكس على بعض القضايا انفجارات كبيرة أو صغيرة مقصودة أو متدحرجة. ولعل سوريا هي المرشح الأبرز لذلك كما دائماً، بينما سيكون الأهم هو متابعة استراتيجية كل من البلدين في إدارة العلاقة مع نور سلطان وحالة التنافس بينهما في آسيا الوسطى بالعموم على المدى البعيد.