سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

تحولات هادئة في السياسة الخارجية التركية

0

من المعلوم من السياسة بالضرورة أن السياسة الخارجية لأي دولة هي إحدى الوسائل التي تحقق بها تلك الدولة مصالحها، التي تتمحور في الغالب حول عنواني الأمن والاقتصاد وما يتفرع عنهما من عناوين فرعية، وتركيا بالتأكيد ليست استثناء في هذا المنظار.

وبناءً على هذه الرؤية، فقد صاغ مصطفى كمال أتاتورك السياسة الخارجية التركية وفق قواعد وأسس استقرت واستمرت عشرات السنوات، وطورتها من بعده القيادات السياسية التركية، لتصبح العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية محور المصالح السياسية، وعضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) محور المصالح العسكرية والاستراتيجية، وعملية الانضمام للاتحاد الأوروبي محور المصالح الاقتصادية.

هذه الأسس الراسخة للسياسة الخارجية التركية ما زالت مستمرة مع حكم العدالة والتنمية عكس ما يظن الكثيرون، إذ ليس من السهل تغيير عقيدة الدولة السياسية أو الأمنية أو العسكرية خلال سنوات قليلة، سيما في تجربة سلمية إصلاحية متدرجة مثل تلك التي يقودها أردوغان ورفاقه. لكن هذا لا يمنع أن الحزب الحاكم في تركيا استطاع – بعد تثبيت أركان حكمه واستتباب الأمر له – أن يلعب في المساحات الرمادية والهوامش ليصوغ سياسة شبه استقلالية عن الخط الغربي الذي ألزمت تركيا نفسها به عبر عشرات السنوات، وهو ما يفسر العلاقات المتأزمة مع الولايات المتحدة (ذكرت في أكثر من مقال أنها دخلت في طور جديد) والمفاوضات المجمدة مع الاتحاد الأوروبي، والاتهامات الغربية لأنقرة بدعم “الإرهاب”.

لكن يبدو أن تركيا اليوم، وهي تستعد لانتخابات برلمانية فارقة بعد عدة أشهر رافعة شعار “تركيا الجديدة” التي ستبنى على أسس مختلفة عن تلك التي بنيت عليها الجمهورية في الربع الأول من القرن العشرين (ومن ضمنها أسس السياسة الخارجية)، يبدو أنها تستفيد من وجود أحمد داود أوغلو على رأس الحكومة، بخلفيته الفكرية والأكاديمية (نظرياته المختلفة وخاصة العمق الاستراتيجي) وخبرته السياسية العملية (كوزير للخارجية).

تتميز رؤية داود أوغلو بعمقها واستراتيجيتها ونظرتها الحضارية والفكرية للسياسة، وهو أمر غير معيب ما دام منضبطاً بحقائق العمل السياسي الميداني وليس محلقاً في فضاء النظريات الحالمة. ولذلك فهو يدرك أكثر من غيره أن كثيراً من الصراعات والنزاعات الحالية ذات بعد حضاري – فكري، وجزء غير يسير منها يتعلق بتوصيف ونظرة الغرب للمنطقة على أنها “عالم إسلامي”، كما يعرف تماماً أهمية ومحورية دور تركيا في قيادة هذه الكتلة، إن أرادت حل أزماتها والخروج من تيهها، دون أن تقدم تركيا نفسها بشكل مباشر كقائدة لقاطرة العالم الإسلامي.

من ناحية أخرى، لا يغيب عن صناع القرار في أنقرة خطورة المشروع الإيراني الطموح بالطريقة التي تحاول طهران تحقيقه بها ومخاطر الصراعات المذهبية والطائفية داخل العالم الإسلامي نفسه، ولذلك تسعى الماكينة الدبلوماسية التركية لجمع العالم الإسلامي في مواجهة الغرب في بعض الملفات، وتريد أن تجمع كلمة الدول “السنية” من هذا العالم في مواجهة التغول الإيراني، دون أن تقول ذلك صراحة في أحيان كثيرة، خاصة في الحالة الإيرانية التي تتحاشى فيها أنقرة أي مواجهات إعلامية قد لا تخدم هدف تجنيب المنطقة هذه الصراعات الداخلية.

ربما تفسر هذه الرؤية – ضمن أسباب أخرى عديدة ومتشابكة – دعم تركيا للحل السياسي في سوريا (ولو على قاعدة رحيل الأسد) واستعدادها المبدئي للتقارب مع القاهرة عبر البوابة الخليجية، بعد تسوية الخلافات القائمة مع دول الخليج بقيادة السعودية، وتصريحات الرئيس التركي مؤخراً أمام اتحاد برلمانات الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي التي ذكر فيها أن المنظمة التي تضم 56 دولة عضواً لا صوت مسموعا لها في الأمم المتحدة والنظام العالمي، قائلاً “لا أحد سيعطينا هذا الحق، نحن من سينتزعه، إن أردنا”.

وحتى تستطيع تركيا أن تستمر في هذه النزعة الاستقلالية (النسبية حتى الآن) في سياستها الخارجية، فهي تعمل على مضاعفة عناصر قوتها، الداخلية عبر تنمية الاقتصاد وتحقيق السلام المجتمعي من خلال عملية السلام مع الأكراد، وخارجياً عبر سعيها لتوحيد صف الدول الإسلامية وصياغة تحالفات وشراكات ثنائية وجماعية.

ولذا فمن الأهمية بمكان أن تجد المبادرات التركية قبولاً وتجاوباً لدى الدول العربية والإسلامية، وخاصة الدول المحورية في الإقليم وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التي ربما يكون تغير رأس السلطة فيها فرصة ذهبية للقيام بمراجعات مهمة في مجمل السياسات الخارجية المتبناة، للتعاون مع تركيا في ملفات محورية مثل مواجهة الحروب الداخلية والتمزق والاتهامات بدعم الإرهاب واستنقاذ سوريا ومصر واليمن، إضافة لملفات أخرى كثيرة ربما نفصل فيها في مقالات قادمة.

شارك الموضوع :

اترك رداً