سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

تركيا بين مطرقة روسيا وسندان الناتو

0

على مدى عشرات السنين، سارت تركيا في سياستها الخارجية في الطريق الذي رسمه لها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك بحيث كانت أهم ملامح هذه السياسة هي التوجه للغرب تحت اسم التحديث وإدارة الظهر لمنطقة الشرق الأوسط. وبذلك أصبحت العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية محور المصالح السياسية، وعضوية حلف شمال الأطلسي محور المصالح العسكرية والاستراتيجية، وعملية الانضمام للاتحاد الأوروبي محور المصالح الاقتصادية.

بينما سار العدالة والتنمية وبالتدرج وفق نظريات أحمد داود أوغلو التي سطرها في كتابه “العمق الاستراتيجي”، وأهمها الاهتمام بالعمق الاستراتيجي لتركيا وخصوصاً الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز، وتصفير المشاكل مع دول الجوار، والاعتماد على القوة الناعمة لا الخشنة في التعامل مع الإقليم.

 

حتى الانتخابات الأخيرة

لكن الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي عصفت بالتوازنات والتحالفات السياسية في المنطقة بذات القدر الذي عصفت فيه بأسس السياسة الإقليمية لأنقرة، فتحول العمق الاستراتيجي لتركيا إلى محيط لاهب يتمتع بدرجة “صفر هدوء”، في ظل فشل القوة التركية الناعمة في إحداث أي اختراقات مهمة في المنطقة. مما أدى – مع عوامل أخرى كثيرة – إلى دعوات من داخل حزب العدالة والتنمية إلى إعادة تقييم تركيا لسياستها الخارجية.

وقد عانت تركيا خلال الفترة الانتقالية بين انتخابات حزيران/يونيو وانتخابات تشرين الثاني/نوفمبر من عدم استقرار سياسي وتذبذبات اقتصادية وحالة أمنية – عسكرية متأزمة، بالتزامن مع مخاطر جدية على الأمن القومي التركي، بسبب التعاون الوثيق والواضح بين واشنطن والفصائل الكردية اليسارية في سوريا، أي حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية قوات حماية الشعب.

لهذه السياقات وغيرها، قدمت أنقرة تراجعات تكتيتيكة مثل السماح للولايات المتحدة باستخدام قاعدة “إنجيرليك” العسكرية”، والانخراط الفعلي في التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة، وتصدير مواقف أكثر “واقعية” بخصوص الأزمة السورية. ولهذا توقع الكثيرون عودة تركيا لسياساتها الخارجية النشطة والقوية بعد الانتخابات الأخيرة لتي أعادت العدالة والتنمية للحكم منفرداً، لكننا كنا نميل إلى عدم توقع قفزات واختراقات كبيرة للسياسة الخارجية التركية في المستقبل القريب لعدة أسباب:

أولاً، لأن رسالة الانتخابات السابقة – في جزئيتها الخارجية – قد وصلت فعلاً لصانع القرار في أنقرة.

ثانياً، تعقد ملفات السياسة الخارجية بشكل غير مسبوق بعد التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا، ثم اتفاق فيينا بين واشنطن وموسكو.

ثالثاً، افتقار تركيا لأدوات الفعل والإنجاز في السياسة الخارجية، خاصة في ظل التعقيدات الحالية، وعدم ثقتها الكاملة بدعم حلف شمال الأطلسي لها، وافتقادها لحلفاء وشركاء في الإقليم.

بيد أن ثبات الصف الداخلي يعطي أنقرة دفعة كبيرة تساعدها على الثبات في الاستراتيجيات وتعطيها هامشاً للمناورة والمبادرة في التكتيكات ببراغميتها المعروفة عنها، وهو ما برعت فيه أنقرة لسنوات طويلة عبر نسج التحالفات والشراكات واللعب في المساحات الرمادية وتجنب المواجهات المباشرة.

 

إسقاط الطائرة الروسية

بعد عدة محاولات روسية للاحتكاك بتركيا واختراق أجوائها، أسقطت تركيا في الرابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر الفائت مقاتلة روسية، ما اعتبره كثيرون تحولاً بارزاً في المشهدين الإقليمي والدولي. ومن ضمن المتغيرات التي ساعدت تركيا على هذه الخطوة الجريئة انتخابات الإعادة التي أعادت حزب العدالة والتنمية للحكم منفرداً وما حملته من دفعة لسياسته الخارجية، والتقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد انتهاء الفترة الانتقالية، ورفع موسكو مستوى استفزازها لأنقرة من خلال القصف الجوي المكثف لجبل التركمان قرب الحدود التركية، والتواصل التركي الجيد مع حلف شمال الأطلسي/الناتو، وإيصال رسالة واضحة للروس بأن أنقرة ستفعـّل “قواعد الاشتباك” في حال انتهكت أي طائرة مجالها الجوي، وهو ما قوى موقفها من الناحية القانونية.

ولا شك أن هذه الخطوة التركية كانت مرشحة للتفاعل محلياً وإقليمياً بشكل يدفع باتجاه:

1- تحدي التواجد الروسي العسكري وخاصة الجوي في سوريا.

2- إعادة حالة الاستقطاب ولو جزئياً بين روسيا والدول الغربية بخصوص الحل في سوريا ومصير الأسد.

3- إعادة الروح لفكرة المنطقة الآمنة وحظر الطيران في الشمال السوري.

4- خلط الأوراق وإعادة توزيعها على طاولة مؤتمر فيينا قبيل بدء المرحلة الانتقالية المتفق عليها بين موسكو وواشنطن.

ولحسن حظ الطرفين والمنطقة والعالم لم تتحول الأزمة إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين البلدين تتدحرج بسرعة إلى حرب عالمية باعتبار عضوية تركيا في الناتو، رغم أنه يظل احتمالاً قائماً بسبب الخلافات الكبيرة في أكثر من ملف بين روسيا من جهة وتركيا والناتو من جهة أخرى وسجلِّ روسيا الزاخر بالمبادرات الجريئة والمفاجئة مثل التدخلات العسكرية المتتالية في جورجيا وأوكرانيا وسوريا.

 

المطرقة والسندان

كانت كل التحليلات تشير إلى “منظومة” روسية من العقوبات – ما دون العسكرية المباشرة- ستفعّلها موسكو، تتكون من:

1- بروباغندا سياسية وإعلامية للضغط على تركيا.

2- عقوبات اقتصادية متعددة، متعلقة باستيراد وتصدير البضائع والسياحة والسفر، لكن لا يتوقع  أن تشمل أمن الطاقة.

3- استمرار قصفها الجوي بكثافة أكبر في سوريا ضد حلفاء أنقرة، أي التركمان والمعارضة السورية “المعتدلة”.

4- تقديم الدعم لحزب الاتحاد الديمقراطي وقوات حماية الشعب الكردية في مواجهة أنقرة.

5- تثبيت وجودها في سوريا والإقليم استراتيجياً، بخطوات مثل نشر منظومة المضادات الجوية S 400، وبناء قاعدة عسكرية جديدة في سوريا، ومحاولات إقناع قبرص الجنوبية (اليونانية) ببناء قاعدة على أرضها، وزيادة تواجدها العسكري الحربي المباشر.

6- تحشيد الحلفاء الإقليميين – إيران والعراق تحديداً – ضد تركيا، ليجتمعوا مع خصوم أنقرة مثل الإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن واليونان، فضلاً عن التنسيق مع دولة الاحتلال، وتخذيل حلفاء أنقرة في موقفها من حل الأزمة السورية مثل فرنسا التي تغير موقفها تماماً بعد تفجيرات فرنسا.

وبذلك تكون تركيا، على المدى المتوسط وبعد نشوة الساعات والأيام الأولى، قد خسرت في بعدين:

الأول، المواجهة مع روسيا في سوريا، حيث قوضت موسكو الدور التركي بكشل ملحوظ هناك من خلال فرض سيطرتها الكاملة على الأجواء السورية، وتحويل “المنطقة الآمنة” التي تطالب بها تركيا إلى فكرة شبه مستحيلة حالياً، وتكثيف قصف التركمان والمعارضة السورية في الشمال السوري، وتهديد تركيا بموجات جديدة وكبيرة من اللاجئين، وتدويل الأزمة السورية بعد أن كان البعد الإقليمي فيها واضحاً أكثر، والعمل على عزل تركيا في مفاوضات حل الأزمة السورية.

الثاني، العودة التركية إلى حضن الناتو بشكل كامل، فقد أدى الدعم السياسي واللفظي المقدم من الحلف لتركيا إلى ردع روسيا عسكرياً بيد أنه قزّم الدور التركي من دولة إقليمية فاعلة إلى محض ترس في ماكينة الحلف الأشمل. فوجود عشرات السفن الحربية في شرق المتوسط يعني أن مستوى الصراع قد ارتفع من الإقليمي إلى الدولي، وأن القرارات المصيرية سيتخذها الحلف لا الدول، وهكذا تكون أنقرة قد تراجعت من فاعل إلى تابع ومن صانع سياسات إلى متأثر بها.

من جهة أخرى، فقد اضطرت تركيا للتخلي عن منظومة S 300 الصاروخية الصينية التي كانت تأمل أن تساعدها على الانعتاق من ربقة الاعتماد الكامل على الناتو في التسلح، فضلاً عن تقويض فرصة انضمامها لمنظمة شنغهاي بشكل كبير بعد تأزم الموقف مع موسكو، إضافة إلى ضخ الدماء في عروق عملية الانضمام للاتحاد الأوروبي. بهذا المعنى تسير تركيا على طريق فقدان استقلاليتها النسبية والجزئية في السياسة الخارجية، والانخراط بشكل أعمق في الحرب على “الإرهاب” وفق أجندة الناتو وليس وفق مصالح أمنها القومي.

تفصيل مهم وخطير كهذا سيعني توقع انخفاض سقف تركيا في قضايا المنطقة، وخصوصاً السورية، فضلاً عن اضطرارها لترطيب الأجواء وتدوير الزوايا مع عدد من النظم والدول مثل مصر السيسي ودولة الاحتلال “إسرائيل”، وهو ما بدأت إرهاصاته والتسريبات المتعلقة به تنشط بشكل كبير بين يدي كتابة هذه السطور.

 

السسناريوهات التركية المتوقعة

تبدو أنقرة اليوم أمام أحد سيناريوهات ثلاثة:

الأول، المواجهة العسكرية المباشرة التي ستكون كارثية لجميع الأطراف، روسيا وتركيا والناتو وجميع دول المنطقة، ومن حسن الطالع أن هذا السيناريو ضعيف الاحتمال.

الثاني، انكفاء تركيا وتراجعها أمام الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية المتعددة، بحيث تصبح بحاجة الناتو أكثر فأكثر، بما يقوض من دورها المحتمل والمأمول في قضايا العالم العربي.

الثالث، امتصاص تركيا للهجمة الحالية ضدها وعودتها للمبادرة مرة  أخرى، وهو ما سيعني موقفاً قوياً لها على طاولة التفاوض بخصوص اتفاق فيينا، وتواجداً عسكرياً ما في الشمال العراقي، وربما إمكانية إنزال فكرة المنطقة الآمنة  في الشمال السوري إلى أرض الواقع. أكثر من ذلك.

إن المفاضلة بين فرص تحقق أحد هذه السيناريوهات الثلاثة يعتمد بشكل أساسي على أوراق قوة انقرة، ولا اقصد بها مجرد أوراقها الذاتية الداخلية، السياسية والاقتصادية والعسكرية، بل أقصد بها القوة بالمعنى الأشمل، بما يتضمن التحالفات والشراكات الإقليمية التي تفتقدها تركيا بشكل كبير.

وإذن فالدول الإقليمية المتعاونة مع تركيا (المملكة العربية السعودية وقطر) شريكة في تقرير وإقرار أي السيناريوهات سيرجح، من خلالها مدى استعدادها لرفع مستوى العلاقة مع أنقرة من “تفاهم” إلى “تحالف” أو شريك استراتيجي، في جميع المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، سيما في مجال الطاقة.

اختصاراً، استقلالية القرار التركي ولو جزئياً ونسبياً مكسب كبير للعالم العربي وقضاياه، وبالتاي يقع على دول وقوى المنطقة العربية مسؤولية كبيرة في التعاون والدعم وتشكيل الروافع والتحالفات، فنحن لا نريد ونحتاج تركيا قوية ومستقرة فحسب، بل تركيا قوية ومستقرة ومستقلة قدر الإمكان.

شارك الموضوع :

اترك رداً