سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

الانتخابات المبكرة في تركيا .. السياق والتوقعات

0

يتوجه حوالي 57 مليون ناخب تركي في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل إلى صناديق الاقتراع في تركيا وسفاراتها في الخارج، بعد أن فشلت الأحزاب التركية المختلفة في تشكيل حكومة ائتلافية إثر انتخابات السابع من حزيران، الأمر الذي أدى إلى استعمال رئيس الجمهورية صلاحياته الدستورية بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، أو بمعنى أدق إلى إعادة الانتخابات.

 

الفترة الانتقالية

ذلك أن الانتخابات البرلمانية الأخيرة أعطت حزب العدالة والتنمية الصدارة دون الأغلبية، فمنعته من تشكيل الحكومة بمفرده كما فعل دائماً منذ 2002، وطرحت فرضية الحكومة الائتلافية معه أو بدونه. وعلى مدى 45 يوماً هي المهلة الدستورية لتشكيل الحكومة فشل الحزب الحاكم في التوصل إلى صيغة توافقية مع أحد أحزاب المعارضة، كما لم يكلف اردوغان شخصية أخرى بتشكيلها بسبب ضيق الوقت وعدم توافق المعارضة وفق رؤيته.

وفي العودة للأسباب، يبدو أن الأحزاب التركية بمجملها لم تستطع بعدُ التكيف مع المشهد السياسي الجديد في البلاد، فلا العدالة والتنمية يستطيع التخلي عن رؤيته ومنجزاته كما طالبه بذلك حزبا الشعب الجمهوري والحركة القومية كشرط للائتلاف الحكومي، ولا المعارضة التركية كانت منطقية في تحليل نتائج الانتخابات ومطالبها بناء على ذلك، فرفعت السقف كثيراً لاعتقادها أن العدالة والتنمية في أزمة ومضطر للتنازل لها.

أما السبب الثاني فهو أن بعض الأحزاب كانت وما زالت ترى أن أي انتخابات قادمة ستحمل لها نتائج أفضل، وفي مقدمتها العدالة والتنمية الذي اعتبر نتائج الانتخابات السابقة رسالة تحذيرية وصله مفادها ولن تتكرر، وحزب الحركة القومية الذي يرى أصواته في ارتفاع متزايد خاصة في ظل التصعيد العسكري الحالي مع العمال الكردستاني وإذكاء روح القومية التركية على هامشه.

 

سياق الانتخابات وظروفها

بيد أن الانتخابات القادمة ليست مجرد إعادة للانتخابات الأخيرة، إذ اختلفت فيما بعدها كثير من الظروف والسياقات. فقد تخلى حزب العمال الكردستاني عن التزامه بوقف إطلاق النار في إطار عملية التسوية السياسية للقضية الكردية وبدأ موجة من التصعيد العسكري الحاد مع الحكومة التركية مستهدفاً العشرات من رجال الجيش والشرطة، وهو ما استوجب رداً قاسياً من الحكومة التي تقول إنها قتلت أكثر من ألف من عناصره في قصفها لمعسكراته في جبل قنديل في العراق.

هذه الحالة الأمنية – العسكرية المتوترة في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي في البلاد أقلقت بطبيعة الحال مجتمع المال والأعمال الموصوف بالجبن عادة، مما أوصل الليرة التركية إلى أدنى مستوياتها أمام الدولار، خصوصاً في ظل تأثر الاقتصاد التركي بأزمات إقليمية ودولية تحديداً في اليونان والصين والبرازيل.

وبلا شك سيكون هذان العاملان، أي الحالة الأمنية في البلاد وحال الاقتصاد سيما في مفرداته التي تخص حياة المواطن اليومية، في صدارة قائمة المعايير التي ستحدد قرار ووجهة الناخب التركي بعد أسابيع. يضاف لها طبعاً برامج الأحزاب الانتخابية وقوائم مرشيحها، التي سيحكم من خلالها المواطن/الناخب على مدى استجابتها لرسائله المتضمنة في نتائج الجولة الانتخابية الأخيرة.

 

العدالة والتنمية وأحزاب المعارضة

وليس مستغرباً أن تتركز الأنظار على حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ 2002 فيما عدا الفترة الانتقالية الحالية، فهو صانع نهضة تركيا الحديثة وصاحب رؤية “تركيا الجديدة” التي حاول إرساء قواعدها بالتدريج على مدى 13 عاماً ويسعى للوصول لها عام 2023 – في مئوية تأسيس الجمهورية – وهو المرشح مرة أخرى للتقدم على باقي الأحزاب في المنافسة القادمة.

وقد أكد الحزب منذ اللحظة الأولى لإعلان النتائج غير الرسمية لانتخابات السابع من حزيران/يونيو الماضي على أن رسالة الناخب قد وصلته وأنه يعمل بمقتضاها، فذكر رئيسه أحمد داودأوغلو في أول لقاء إعلامي له أن ملف تغيير النظام في البلاد إلى رئاسي ليس مطروحاً الآن على جدول أعماله، بينما قال نائب الرئيس نعمان كورتولموش إن الناخب التركي قال لحزبه “اذهب وجدد وضوءك” في إشارة إلى ضرورة التغيير وضخ الدماء الجديدة مع العودة لروح الحزب الأولى لدى التأسيس من تواضع وتواصل مع الشعب وعمل دؤوب.

وقد كانت هذه العناوين تحديداً في صلب كلمة داودأوغلو في مؤتمر الحزب العام الذي جدد له في رئاسته، بينما كان “التغيير” هو العنوان الأبرز لقيادة الحزب ولجنته المركزية المنتخبة في الدورة الحالية، رغم أن الشباب لم ينالوا الحظ الذي كانوا يطمحون إليه. لقد حسم بقاء الحزب موحداً خلف داودأوغلو الكثير من الكلام عن خلافات بينه وبين اردوغان حول الأسماء المرشحة للجنة المركزية ثم للقوائم الانتخابية، وإن لم ينفه تماماً.

في قوائم مرشحيه، حرص الحزب على التجديد فدفع بـ 238 مرشحاً جديداً من ضمن 550 مرشحاً في مختلف مناطق البلاد، منهم 69 امرأة و24 من قيادات الصف الأول التي كانت قد حرمت من الترشح بسبب مادة “الفترات الثلاث” في نظامه الأساسي، وهو ما يرجو من خلاله أن يستعيد ثقة الناخب التركي مرة أخرى.

من ناحية أخرى يركز برنامج العدالة والتنمية الانتخابي – إلى جانب ذكر الإنجازات السابقة – على الوعود الاقتصادية الواضحة والمرتبطة بحياة المواطن اليومية، مثل نسبة البطالة ورواتب المتقاعدين وما إلى ذلك، جنباً إلى جنب مع المشاريع الضخمة العملاقة التي تعبر عن رؤيته لتركيا المستقبلية.

وبطريقة مشابهة، فقد عكفت الأحزاب الأخرى على مراجعة قوائمها الانتخابية وأخضعتها لبعض التعديلات، سيما في الدوائر الانتخابية التي خسرتها بفارق ضئيل (لكسبها) أو فازت بها بفارق ضئيل (لعدم خسارتها). كما تبدو مختلف الأحزاب مضطرة للاكتفاء بمهرجانات انتخابية محدودة بسبب ضيق الوقت والتكلفة المادية المرتفعة والحالة الأمنية في بعض المناطق سيما الجنوب الشرقي، بينما ستحاول تعويض ذلك من خلال الإعلام التقليدي ووسائل التواصل الاجتماعي.

 

التوقعات والسيناريوهات

ليس من السهل بطبيعة الحال التوقع بنتائج الانتخابات القادمة بشكل دقيق لعدة أسباب، منها:

– معظم شركات استطلاع الرأي في تركيا مسيسة ولها أجندات تصوغ نتائج استطلاعاتها، فلا يعول عليها كثيراً، سيما وأن الكثير منها حديث عهد بالعمل الاستقصائي ولم يوفق في توقع نتائج الانتخابات السابقة بدقة.

– يقال أن 24 ساعة فترة طويلة جداً في السياسة، فكيف بشهر ونصف حتى الانتخابات، في ظل وضع أمني معقد واقتصادي متذبذب.

– الاقتراع ليس عملية جامدة ومستقرة يمكن استشرافها بسهولة، بل ديناميكية متحركة ومتقلبة وتخضع لعدة مؤثرات.

– أهم العوامل التي ستؤثر في قرار الناخب هي الأوضاع الاقتصادية والأمنية، وبرامج الأحزاب الانتخابية وقوائمها، ثم حملاتها الانتخابية، وهي عوامل متغيرة لا سيما العاملان الأولان.

ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى أن بعض استطلاعات الرأي تشير إلى تراجع العدالة والتنمية وبعضها إلى تقدمه، لكن دون حسم مسألة الأغلبية لتشكيل الحكومة بمفرده.

فمثلاً، أظهرت نتائج شركة أو آر سي (ORC) لاستطلاعات الرأي تقدم العدالة والتنمية بنسبة %44، على كل من الشعب الجمهوري (%27.8)، والحركة القومية (%13.4)، والشعوب الديمقراطي (%11.0). بينما قدرت شركة صونار (SONAR) المقربة من حزب الشعب الجمهوري نسبة هذه الأحزاب المئوية بـ 38.2، 28، 18.2 و13.7 على التوالي.

يعول العدالة والتنمية في هذا السياق على خطاب مفاده أن السبب في حالة عدم الاستقرار الحالية هو تراجعه عن الأغلبية وبالتالي فهو يطرح نفسه عنواناً للاستقرار وللخروج بتركيا من أزمتها الحالية، بينما تحاول المعارضة تحميله مسؤولية الأحداث الدائرة والخفض من رصيده لدى الناخب. من ناحية أخرى يأمل الحزب الحاكم أن يكون للعمليات العسكرية ضد العمال الكردستاني مردود طيب لدى الطيف القومي الذي طالما رفض عملية السلام وطالب بالحزم والحل الأمني، بينما يسعى الحركة القومية لإثبات صحة مواقفه السابقة من العملية السياسية مع الأكراد وخطأ سياسات العدالة والتنمية في هذا الإطار، سيما وأن الحالة الأمنية والعسكرية المتوترة تزيد عادة من رصيد الأحزاب الأيديولوجية والمتشددة وليس أحزاب الوسط، نتحدث هنا عن حزبي الشعوب الديمقراطي (ممثلاً للقوميين الأكراد) والحركة القومية (ممثلاً للقوميين الأتراك).

أخيراً، قد تلقي العمليات العسكرية المستمرة بين العمال الكردستانتي والحكومة التركية بظلالها على الانتخابات، إما بالاضطرار لتأجيلها في حال حدوث أي تطورات خطيرة غير محسوبة، أو بفتح باب التشكيك بنتائجها أمام من لم تخدمه الأخيرة باعتبار أنها أجريت “في ظل البنادق” ورائحة البارود، وهو ما من شانه أن يزيد من حالة الاستقطاب الحالي وعدم الاستقرار السياسي في البلاد.

يبقى أن نتائج الانتخابات السابقة قد ثبتت الأحزاب الأربعة المذكورة في المشهد السياسي التركي، ولذلك فوفقاً للنظام الانتخابي المعقد في تركيا فإن ارتفاع نسبة التصويت للعدالة والتنمية قد لا تضمن له الأغلبية البرلمانية التي تؤهله لتشكيل الحكومة بمفرده، باعتبار أن تخطي الشعوب الديمقراطي للعتبة الانتخابية هو الراجح، وهو ما سيضع الجميع مرة أخرى أمام سيناريو الحكومة الائتلافية كاحتمال قوي. وبالتالي، تبقى الانتخابات القادمة ورقة بيضاء لم يكتب فيها الكثير حتى الآن، بل ربما لن تكتب كلماتها الأخيرة إلا يوم الانتخابات في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وما علينا إلا الانتظار ليقول الناخب التركي كلمته.

شارك الموضوع :

اترك رداً