سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

الانتخابات البرلمانية ترسم مشهداً جديداً في تركيا

0

بعد 12 عاماً من الاستقرار السياسي تحت حكم العدالة والتنمية، رسمت نتائج الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة بداية حقبة جديدة في تاريخ تركيا المعاصر، ووضعت البلاد أمام عدة سيناريوهات واحتمالات تحتاج لكثير من الدراسة والتحليل والاستشراف.

 

انتخابات فارقة

لم تكن الانتخابات الأخيرة كأي من سابقاتها من حيث السياق والأهمية، بل اختصت باهتمام سياسي وإعلامي مختلف إضافة إلى سخونة حملاتها الانتخابية، وذلك لعدة أسباب أهمها صعوبة التنبؤ بمخرجاتها وانعكاس نتائجها على عدة ملفات أساسية ومحورية، مثل وضع دستور جديد للبلاد، وتغيير النظام في البلاد إلى رئاسي، إضافة إلى عملية السلام الداخلية مع الأكراد.

ذلك أن حزب العدالة والتنمية كان قد أعلن منذ فترة طويلة أن مشروعه القادم هو صياغة دستور مدني جديد للبلاد بدل الدستور المعمول به حالياً والذي وضعه نظام الانقلاب عام 1982، بعد أن فشلت الأحزاب الممثلة في البرلمان السابق في الاتفاق على صياغته. أكثر من ذلك، ضمّن الحزب فكرة النظام الرئاسي في برنامجه الانتخابي، فضلاً عن وصول العملية السياسية مع الأكراد إلى مرحلة اتخاذ القرارات الصعبة بخصوص إقرار حقوق الأكراد في الدستور، والفصل في مستقبل أوجلان والمسلحين الأكراد ..الخ.

والأمر كذلك، كان الحزب الحاكم يعوّل على الحصول على نسبة مريحة في الانتخابات تخوله القيام بهذه المهمات دون الحاجة للأحزاب الأخرى، أي تخطي نسبة الثلثين (367 مقعداً في البرلمان من أصل 550)، أو على الأقل نسبة %60 (330 مقعداً) لعرض الدستور تحديداً على استفتاء شعبي، أو تخطي نسبة النصف زائد واحد (276 مقعداً) في الحد الأدنى لتشكيل الحكومة منفرداً مرة أخرى.

 

النتائج والأسباب

لكن صناديق الاقتراع فاجئت المتابعين بنتائجها غير المتوقعة، خصوصاً ما هو متعلق بفشل العدالة والتنمية بتشكيل الحكومة بمفرده، رغم استشعار إمكانية تراجعه عن نتائجه السابقة.

لقد صاغت نتائج الانتخابات عنوانين كبيرين: الأول فقدان الحزب الحاكم أغلبيته المطلقة رغم تقدمه على باقي الأحزاب بفارق كبير، والثاني دخول حزب الشعوب الديمقراطي ذي الجذور الكردية إلى البرلمان لأول مرة كقائمة حزبية وبنتيجة كبيرة جداً.

وفي حين لم يطرأ تغيير جذري على حزبي المعارضة، الشعب الجمهوري والحركة القومية، فشلت أحزاب أخرى – عريقة ووليدة – في مقدمتها أحزاب السعادة والطريق القويم والوطن الأم في دخول البرلمان.

 

الحزب النسبة المئوية عدد المقاعد في البرلمان
العدالة والتنمية 40.82 258
الشعب الجمهوري 24.99 132
الحركة القومية 16.35 80
الشعوب الديمقراطي 13.11 80

 

من ناحيته، يعرف العدالة والتنمية أنه خاض هذه الانتخابات في مواجهة تكتل من الأحزاب المعارضة الثلاثة وبغطاء إعلامي واضح، وفي فترة خلافية مع الغرب الذي بدا راغباً في “تأديبه” وإعادته إلى “بيت الطاعة” الأمريكي إثر نزعته نحو شيء من الاستقلالية النسبية في سياساته الخارجية، سيما فيما خص قضايا المنطقة.

لكن ذلك لا يعني أن الحزب لم يقع في أخطاء أغضبت جزءاً مهماً من الشارع التركي بل ومن أنصاره تحديداً، إضافة لعدة عوامل أخرى أدت بمجموعها لهذه النتائج، أهمها:

أولاً، مشروع النظام الرئاسي. فقد أخاف الكثيرين من انعكاساته واحتمالات تكريسه لحكم سلطوي، في ظل سيطرة العدالة والتنمية على المشهد السياسي في البلاد، ووجود رئيس قوي وطموح مثل اردوغان. ويبدو أن الحزب قد فشل في شرح وجهة نظره وعرض المشروع بطريقة تطمئن مخاوف الناخبين، فكانت ردة الفعل والإجابة عبر الصناديق.

ثانياً، تعامل الحزب مع اتهامات الفساد التي لاحقت بعض وزرائه ومسؤوليه. فرغم أن المحكمة قد برأتهم إلا أن رفض الحزب تقديمهم للمحكمة العليا – عبر التصويت في البرلمان – قد أضيف لعدة مواقف وتصرفات سابقة اعتبرت انحرافاً عن نهج الحزب السابق واغتراراً منه بقوته في البرلمان.

ثالثاً، التغيير القيادي الكبير والمفاجئ في الحزب. حيث دخل هذه الانتخابات بلا رئيسه ومؤسسه إثر انتخابه رئيساً للجمهورية، وخاضها أيضاً دون 70 من قياداته البارزة التي منعها نظام الحزب الأساسي من الترشح للفترة الرابعة على التوالي، وهي وجوه لم تصنع نهضة تركيا الحديثة فقط، بل هي الوجوه التي يعرفها ويثق بها الناخب التركي.

رابعاً، شارك في هذه الانتخابات مليونان ونصف مليون ناخب للمرة الأولى، وهؤلاء شباب لم يعرفوا تركيا ما قبل العدالة والتنمية فضلاً عن أن يعايشوا أي انقلابات عسكرية، وبالتالي فلهم تقييم مختلف لإنجازات الحزب وليسوا مسكونين بهاجس الخوف من تراجع حضوره وتأثيره مثل أولئك الأكبر منهم سناً.

خامساً، غاب عن الحزب – فيما يبدو – أهمية التجديد في خطابه وبرنامجه الانتخابي، فالتركيز على ما “أنجزه” الحزب طغى في بعض الأحيان على ما “سينجزه” من خلال رؤيته وخطته، وما كان له أن يغيب عنه أن وتيرة الإنجازات قد خفت وتراجعت مع مرور الزمن وتحسن الاقتصاد واستقرار الحياة السياسية، وبالتالي فقد أضعف حملة الحزب الحديثُ عن الإنجازات وعن المشاريع العملاقة في حين استفادت الأحزاب المنافسة من نهجه وركزت على الوعود الاقتصادية التي تهم حياة المواطن اليومية بالدرجة الأولى.

أما حزب الشعوب الديمقراطي فقد كان بحق حصان الانتخابات الأسود، إذ تخطى نسبة %13 محققاً رقماً قياسياً في التمثيل البرلماني له ولتياره (80 نائباً) بعد أن كان ممثلاً بكتلة برلمانية من 27 نائباً شاركوا كمستقلين.

ويبدو أن الحزب قد استفاد فعلاً من تخوف أطياف كثيرة من مشروع النظام الرئاسي فوضع نفسه كضمانة لعدم نجاح العدالة والتنمية بنسبة كبيرة وعدم إقرار النظام الرئاسي من خلال شعاره الانتخابي “ما دام الشعوب الديمقراطي موجوداً فلن يكون اردوغان رئيساً” وهو ما أعطاه حوالي %3 من أصوات الشعب الجمهوري لضمان تمثيله في البرلمان، بينما استفاد أيضاً من نسبة مماثلة أو تزيد من أصوات “الإسلاميين الأكراد” الذين يصوتون تقليدياً للعدالة والتنمية احتجاجاً على أدائه فيما يتعلق بالعملية السياسية مع الأكراد.

من جهة أخرى فقد طور الحزب من خطابه ليقدم نفسه على أنه ممثل “كل الأكراد” أولاً، ثم “حزب كل تركيا” ثانياً، من خلال حديثه عن الحريات والديمقراطية والسلام، والدفاع عن المحرومين والمهمشين، من نساء وأطفال ويساريين وأكراد وأقليات.

بيد أنه لا يجب إغفال العامل الخارجي  المتعلق بمشروع كردي إقليمي بدأ يتبلور مع الثورة السورية، وشهد ذورته في معركة عين العرب/كوباني، ويبدو أن التحركات الأخيرة على الحدود التركية السورية تؤكد هذه التحليلات، وبالتالي يبدو أن صعود الحزب بهذه الطريقة كان مقصوداً لذاته أولاً ولإضعاف العدالة والتنمية ثانياً، ضمن رؤية تتخطى تركيا نحو إعادة رسم خرائط الإقليم.

 

دلالات النتائج ورسائل الناخب

تقود نتائج الانتخابات الصادرة إلى عدة استنتاجات أعمق من النظر إلى الأرقام المجردة، فإلى جانب مرور العملية الانتخابية بسلام دون أحداث كبيرة تذكر ودون اعتراضات تمس نزاهتها وشفافيتها، وقبول جميع الأطراف بقرار الناخبين، يمكن تلمس العناوين العريضة التالية:

1- التصويت اعتماداً على الهوية: حيث صوتت الغالبية العظمى من الأكراد للشعوب الديمقراطي، بما فيهم “الإسلاميون الأكراد” الذين قدموا الهوية الكردية على غيرها من معايير الاختيار. وقد تسبب هذا الصعود القومي الكردي، بإذكاء الحس القومي التركي مما ساهم في رفع نسبة الحركة القومية، بينما حافظ الشعب الجمهوري ذو الاتجاهات الكمالية العلمانية على كتلته الصلبة رغم غيابه عن الحكم لأكثر من 13 عاماً.

2- رفض مشروع النظام الرئاسي: إذ كان واضحاً أن أحد أهم أسباب تراجع الحزب الحاكم  هو فشله في تسويق هذا المشروع تحديداً، وعليه يبدو أن كل السيناريوهات الحكومية الممكنة ستتطلب تخلي اردوغان والعدالة والتنمية عن هذا المشروع، ولو مؤقتاً، وهو ما اعترف به داود أوغلو بعد إعلان النتائج.

3- الخريطة الحزبية التركية: أكدت نتائج الانتخابات مرة أخرى أن الخريطة الحزبية التركية ثابتة في شكلها الخارجي واتجاهاتها السياسية في المستقبل القريب – مع اختلاف في النسب في كل انتخابات – بتضمنها أربعة تيارات رئيسة ممثلة في الأحزاب التي نجحت في الوصول إلى البرلمان، العدالة والتنمية ممثلاً لمعظم الإسلاميين، والشعب الجمهوري ممثلاً لأغلب العلمانيين، والحركة القومية كتيار أساسي للقوميين والشعوب الديمقراطي كإطار لغالبية الأكراد.

 

السيناريوهات المستقبلية

إن النتيجة المباشرة الأولى والأهم للانتخابات هي أن حزباً واحداً من الأحزاب الأربعة لا يستطيع تشكيل الحكومة بمفرده، وفق الحسابات الرياضية لعدد مقاعد كل منها والعدد المطلوب لإعطاء الثقة للحكومة في البرلمان، وبالتالي فنحن أمام حل من ثلاثة: حكومة ائتلافية أو حكومة أقلية أو انتخابات مبكرة. حيث تتشكل الأولى من حزبين أو أكثر يملكان/يملكون أغلبية كافية في البرلمان، بينما تتشكل الثانية من حزب واحد أو أكثر دون نسبة النصف زائد واحد لكن يدعمها من خارجها – دون حقائب وزارية – حزب آخر أو أكثر، بينما يقود الثالث إلى إعادة الانتخابات مرة أخرى.

لكن هذا التصنيف يبدو نظرياً ومعقداً ومتشعباً ضمن عدة سيناريوهات فرعية، بينما يمكن لنا سرد السيناريوهات الممكنة عملياً كالتالي:

أولاً، حكومة بمشاركة العدالة والتنمية: على شكل حكومة ائتلافية أو حكومة أقلية مدعومة من خارجها، وهو السيناريو الأوفر حظاً نظرياً لكنه صعب عملياً إذ أوصد الشعوب الديمقراطي الباب تماماً أمامه، بينما سيكون لكل من الحركة القومية والشعب الجمهوري شروطهما المتعلقة بموقع اردوغان في الحياة السياسية وعملية السلام مع الأكراد ومحاسبة وزراء الحزب الحاكم ..الخ.

ثانياً، حكومة بدون العدالة والتنمية: في حال فشل داود أوغلو بتشكيل الحكومة سيلجأ الرئيس إلى تكليف رئيس الحزب الثاني بذلك، وقد تتفق أحزاب المعارضة الثلاثة فيما بينها باعتبار أن مجموع أصواتها يعطيها الأغلبية ويؤهلها لإعطاء الثقة لحكومة ائتلافية أو حتى حكومة أقلية من حزبين بدعم من الثالث. لكن فرص نجاح هذا الخيار ضئيلة، بسبب الخلافات الكبيرة بين أطراف هذا الائتلاف، خاصة الحركة القومية والشعوب الديمقراطي.

ثالثاً، الانتخابات المبكرة: أما في حال مضى 45 يوماً دون تشكيل أي صيغة حكومية، فللرئيس الحق بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، إضافة إلى أن أي صيغة ائتلافية أو حكومة أقلية ستكون عرضة للتنازع والفشل والسقوط، وهو ما يجعل سيناريو الانتخابات المبكرة الأكثر حظاً من الناحية العملية، سواءً الآن أو بعد تشكيل أي صيغة حكومية.

 

في الخلاصة، تبدو تركيا اليوم على مشارف مرحلة جديدة مختلفة تماماً عما اعتادته خلال فترة 12 عاماً الأخيرة، وسيكون لكل سيناريو من السيناريوهات الثلاثة المطروحة فرصه وعوائقه وإيجابياته وسلبياته، وانعكاساته على سياسات تركيا الداخلية والخارجية. فالبلاد محكومة إذاً إما بتوافقات صعبة أو بانتخابات مبكرة غير مضمونة النتائج والمآلات، وهو ما يحتاج إلى فهم عميق للنتائج واستخلاص دروسها ورسائلها بشكل موضوعي، للخروج من عنق الزجاجة وطمأنة تخوفات المواطن التركي، خصوصاً ذكريات الانسداد السياسي والأزمات الاقتصادية التي طبعت مرحلة ما قبل العدالة والتنمية.

شارك الموضوع :

اترك رداً