سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

تركيا ومزاعم الإبادة بين التاريخ والسياسة

0

على مدى الأيام الماضية كان الشغل الشاغل للدوائر السياسية والإعلامية التركية هو مزاعم الإبادة الأرمنية في ذكراها المئوية. فقد حدث ما توقعنا في مقال سابق وتعرضت تركيا لضغوط كبيرة ومتزايدة حيث اكتسبت الجهود الأرمنية في العالم زخماً كبيراً هذا العام، أولاً بتأثير الهالة المعنوية للذكرى المئوية وثانياً بسبب علاقات تركيا المتوترة حالياً مع الغرب.

تبدو الحالة الأرمنية ابتداءً جزءاً مما يسمى مشاكل الأقليات، تلك التسمية التي أطلقتها الدول الأوروبية على التنوع الإثني والديني تحت مظلة الدولة العثمانية للتدخل في شؤونها الداخلية، بنيّة إضعافها ثم وراثتها. فيما قبل الحرب العالمية الأولى، فرضت روسيا على الدولة العثمانية أن تكون “حامية” للأرمن الأرثوذوكس من رعايا الدولة العثمانية بعد حرب الـ 93 بينهما (نشبت عام 1877، ولكنها سميت هكذا لتوافقها مع عام 1293 بالتقويم الرومي)، ومنذ ذلك الوقت لم يكتب للدولة ولا للأرمن الراحة أو التفاهم.

بعد هذه الحرب التي خسرت فيها الدولة العثمانية الكثير من الأراضي خاصة في البلقان، نشط عدد من المنظمات العسكرية الأرمنية بالتعاون مع روسيا القيصرية في عمليات قتل وتهجير في المناطق الشرقية، سقط ضحيتها عشرات إن لم يكن مئات الآلاف من المسلمين العثمانيين وفق الرواية التركية. هذه العمليات التي استمرت خلال الحرب العالمية الأولى (وخصوصاً عام 1915) كانت بمثابة “خيانة عظمى” أو “تخابر مع دولة محاربة” بالنسبة للدولة العثمانية، وهو ما اقتضى منها رداً حاسماً، تمثل في قتل واعتقال عدد من قادة هذه العصابات المسلحة، وتهجير مئات الآلاف من الأرمن من مناطق المواجهة مع روسيا إلى مناطق أبعد مثل بلاد الشام.

فقد مئات الآلاف من الأرمن (المصادر الأرمنية تشير إلى مليون ونصف مليون قتيل) حياتهم خلال رحلة التهجير القسرية هذه، لقلة الغذاء والدواء أو لمخاطر الطريق وغيرها من الأسباب، وهو ما أسس لنظرية الإبادة الجماعية أو التطهير العرقي، تلك المزاعم التي روج لها أرمن المهجر ابتداءً من خمسينات القرن الماضي. في عام 1965 اعتبرت الأوروغواي أحداث عام 1915 إبادة للأرمن، ثم على مدى عشرات السنوات اللاحقة وصل عدد الدول المعترفة بالإبادة الأرمنية إلى 20 دولة في مقدمتها روسيا وفرنسا وألمانيا والفاتيكان واليونان وكندا وإيطاليا.

من ناحيتها تبدو تركيا في ظل حكم العدالة والتنمية مدركة لمدى وحشية تلك الأحداث والمظالم التي لحقت بالأرمن وغيرهم من شعوب الدولة العثمانية خلال تلك السنوات، وهو ما دعاها لاتخاذ عدة إجراءات غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية. فقد مدت يد التواصل لأرمينيا عام 2008 بزيارة الرئيس غل لها، ثم بدأت بينهما محادثات برعاية أمريكية عام 2010 لتطبيع العلاقات، لم تصل لنهايتها. في العام الماضي، أصدر اردوغان رسالة تعزية للأرمن بخصوص “أحداث عام 2015” وشاطرهم أحزانهم، بينما أعلنت تركيا دائماً ومجدداً أنها على استعداد لفتح أرشيفها (بما فيه الأرشيف العسكري) لخدمة أي تحقيق دولي أكاديمي محايد، وهو الأمر الذي رفضته أريفان.

لكن الإدراك التركي لأزمات التاريخ، يصاحبه إدراك آخر لفخاخ السياسة. ذلك أن قبول تركيا لتوصيف تلك الأحداث على أنها إبادة جماعية أو تطهير عرقي سيضع على كاهليها عبء المسؤولية الأخلاقية والتاريخية والسياسية لما حصل، وهو ما قد يترتب عليه بعض المطالب مثل التعويضات المادية والابتزاز السياسي وربما الحق ببعض الأراضي، فضلاً عن فتح ثغرات واسعة للضغوطات والتدخلات الخارجية.

وهذا تحديداً هو الأخطر والأهم في المعادلة الحالية، إذ لا يبدو الحديث عن مزاعم الإبادة إلا باباً يفتح على ملفات سياسية، تكتنز عامل الغضب على السياسة التركية الخارجية النازعة إلى الاستقلالية النسبية مؤخراً، وهو ما وتر علاقاتها مع عدد من الدول الغربية على رأسها الولايات المتحدة. إذ كيف يتسق أن يكون على رأس الدول المطالبة لتركيا بالاعتراف والاعتذار دول مثل فرنسا بماضيها الجزائري الدامي، وروسيا بماضيها بل وحاضرها القوقازي الهمجي، والفاتيكان بمحاكم التفتيش الوحشية، والولايات المتحدة بكل ما يحمله تاريخها وحاضرها من قتل وتدمير؟؟!!!.

إن درس الحماية الغربية للأقليات في عهد الدولة العثمانية واضح تماماً في مخيال صانع القرار التركي، ولذلك فهو يسعى إلى حل كل مشاكله (وعلى رأسها الكردية والأرمنية) داخلياً دون فتح الباب للأطراف الثالثة للعبث بها وتأجيجها.

في الرابع والعشرين من نيسان/ابريل الجاري، الذكرى المئوية لأحداث عام 1915 (مزاعم الإبادة) وحرب جاليبولو التي انتصرت فيها الدولة العثمانية على الحلفاء، جرت حرب دبلماسية دون سلاح أو رصاص، بين تركيا وأرمينيا. فقد دعت الثانية لإحياء        ذكرى “الإبادة” فتقدم الحضورَ الرئيسان الروسي والفرنسي، بينما أحيت تركيا ذكرى الحرب بعشرات الرؤساء والمسؤولين من مختلف دول العالم.

وفي مواجهة تصريحات بابا الفاتيكان وبوتين وقرار المجلس الأوروبي باعتبار ما حدث “إبادة جماعية”، صدرت  تصريحات تركية هجومية تطالب الفاتيكان وروسيا وفرنسا بتقديم كشف حساب محاكم التفتيش، وأرواح ملايين الجزائريين، وتهجير الشيشانيين وأتراك أهيصكا والشركس وغيرهم من الشعوب.

هنا، تبدو تركيا قد تأرجحت بين الخسارة والنجاح في معاركها الإعلامية والدبلماسية المتعلقة بهذا الملف الذي أخرج تماماً عن سياقه الحقوقي – التاريخي (فضلاً عن أن تركيا ليست هي الدولة العثمانية) ليصبح مادة استثمار سياسية، لكن الذكرى هذا العام حملت متغيرات كثيرة ضد تركيا تبدو مرشحة للنماء والازدياد مع الوقت، في ظل العلاقات المتوترة بين أنقرة وحلفائها الألداء في أوروبا وما وراء الأطلسي.

شارك الموضوع :

اترك رداً