سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

قيادة جديدة للعدالة والتنمية في تركيا

0

بعد أقل من عشرين شهراً في قيادة حزب العدالة والتنمية الحاكم والحكومة التركية أعلن البروفيسور أحمد داود أوغلو عن تنحيه عن رئاستهما عبر مؤتمر استثنائي دعا إليه ولم يترشح له، فاتحاً المجال أمام انتخاب وزير المواصلات والملاحة البحرية والاتصالات السابق بن علي يلدرم رئيساً للحزب ومكلفاً بتشكيل الحكومة الجديدة التي لم تكن قد عرضت برنامجها وأعضاءها على البرلمان لنيل الثقة بعدُ أثناء كتابة هذه السطور.

 

أسباب الخلاف

لم يكن منتظراً – على الأقل من الناحية النظرية – أن تحصل خلافات كبيرة بين اردوغان وداود أوغلو تؤدي إلى ابتعاد أحدهما عن مشهد السلطة في تركيا، باعتبار اتفاقهما في الرؤى والاستراتيجيات العامة للسياسة التركية داخلياً وخارجياً، وعملهما على مدى سنوات طويلة جنباً إلى جنب دون مشاكل تذكر، والانطباع “التكاملي” الذي أعطياه للقيادة التركية بين قائد وسياسي قوي ومفكر ومنظر عميق.

ورغم صحة كل ما سبق، إلا أن مسيرة التعاون بين الطرفين قد وصلت إلى طريق مسدود دفع مهندس السياسة الخارجية التركية على مدى سنوات حكم العدالة والتنمية للتنحي جانباً، وذلك لأسباب رئيسة ثلاثة:

الأول، المعضلة البنيوية – الدستورية في النظام السياسي التركي الذي ما زال يسيّره دستور ما بعد انقلاب 1980 والذي يتضمن تعارضات وتقاطعات واضحة – ومقصودة – بين صلاحيات كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، أدت تاريخياً إلى مشاكل واضطرابات بين كل رئيس ورئيس وزراء تقريباً منذ عام 1982. ولئن أخر التوافق في السياق العام بين اردوغان وداود أوغلو ظهور الاختلافات إلى العلن لكنه لم يستطع منعها تماماً، سيما وأن العدد الكبير من التعديلات الدستورية منذ 2002 إضافة لانتخاب اردوغان كرئيس جمهورية بأصوات الشعب لأول مرة في تاريخ الجمهورية التركية قد ضاعفا من تعارض الصلاحيات وجعلا من النظام السياسي في البلاد “هجيناً” بين البرلماني والرئاسي من الناحية الفعلية.

الثاني، المميزات الشخصية لكلا الرجلين والتي أعطت انطباعاً غير سوي بوجود رأسين للسلطة التنفيذية، فاردوغان قائد سياسي قوي وذو كاريزما وإنجازات وحضور طاغ وداود أوغلو منظر سياسي ومفكر من طراز رفيع أثبت علو كعبه في السياسة أيضاً، فاختلف الطرفان حول آلية اتخاذ القرار ومرجعيته بين رئيس يريد أن يُستشار في الملفات المهمة ورئيس وزراء يبحث عن استقلالية القرار وسلاسة التنفيذ في المساحات المتفق عليها.

الثالث، بُعد يبدو شخصياً وظهر في طيات تصريحات اردوغان وبين سطور خطاباته الأخيرة قبل تنحي داود أوغلو وبعده، في إيحاء واضح نحو إشاعات ترددت في كواليس أنقرة تتهم الثاني بمحاولة تخطي الأول والانقلاب عليه يبدو أنها وجدت صدى لدى اردوغان، فكان تذكيره اللاذع صباح المؤتمر الصحافي الذي عقده داود أوغلو “من المهم بالنسبة للوزير أن يعرف كيف وصل لمنصبه، وما الذي يجب عليه فعله هناك”.

 

ملامح المرحلة المقبلة

لم يخسر العدالة والتنمية ولا الحكومة وقتاً طويلاً ولم يتركا مساحة للتفاعلات السلبية بسبب القرار، فكان تاريخ المؤتمر الاستثنائي القريب ودخول الحزب بمرشح توافقي واحد ثم استقالة حكومة داود أوغلو وتكليف الرئيس المنتخب بن علي يلدرم بتشكيل الحكومة الجديدة خلال أقل من ساعتين في تسلسل واضح وسرعة ملحوظة إشارات لا تخفى مراميها المتعلقة بإرادة الحفاظ على وحدة الحزب داخلياً وصورته خارجياً.

ولقد كان لأحمد داود أوغلو نفسه الدور الأكبر في تحقيق هذا الهدف، أولاً بتفضيله التنحي على خوض معركة بقائه والتمسك بمنصبه وصلاحياته، وثانياً في المؤتمر الصحافي الذي عقده ليعلن تنحيه، ثم ثالثاً في كلمته الوداعية في المؤتمر والتي أودعها الكثير من عبارات التأكيد على أن وحدة الحزب وتماسكه الداخلي أهم بكثير من الأشخاص والمناصب، في موقف نبيل يحسب له وسيبقى في سجله لسنوات طويلة قادمة، لكنه أيضاً لم يخل من التلميح والتعريض بأن “قرار الرحيل لم يكن قراري”.

لم يكن رئيس الحزب – والحكومة – فقط هو الذي تغير في المؤتمر بل تشكيلة الهيئة العليا للحزب المكونة من خمسين عضواً كمؤشر أيضاً على تغييرات مهمة متوقعة في تشكيلة الحكومة وأسماء وزرائها، وهي تغييرات تصب في مسار تشكيل مرحلة جديدة في تركيا من أهم معالمها:

أولاً، إثبات العلاقة المتينة بين حزب العدالة والتنمية ومؤسسه رئيس الجمهورية الحالي رجب طيب اردوغان رغم انفصاله عنه تنظيمياً، وقد كان ذلك واضحاً من خلال حضوره المعنوي في المؤتمر باستماع الحضور لخطابه المرسل للمؤتمر وقوفاً والتصفيق الحاد لدى ذكر اسمه وتصريحات أغلب مسؤولي الحزب وفي مقدمتهم رئيسه الجديد، وهي علاقة كانت قيادات الحزب تتجنبها في السابق لمحاذيرها الدستورية.

ثانياً، سيكون عنوان العلاقة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحزب والحكومة في المرحلة القادمة التناغم التام، بحصر الحكومة ورئيسها قدر الإمكان في المربع التنفيذي الإجرائي وترك رسم السياسات والرؤى للرئيس اردوغان، لتجنب حصول أي تعارض أو خلافات شبيهة بالتي حدثت مع داود أوغلو.

ثالثاً، ولتحقيق كل ذلك بدون اضطرابات دستورية أو مشاكل مع المعارضة ينبغي المسارعة في خطوات إقرار دستور جديد للبلاد يعيد صياغة النظام السياسي في البلاد ويخلصه من التعارضات القائمة، إما بنظام برلماني خالص أو بنظام رئاسي ناجز. وهذا الخيار الثاني هو الذي يسعى له العدالة والتنمية إما مباشرة وإما على مراحل بسبب افتقاده للأغلبية البرلمانية التي تؤهله لحسم الأمر عبر البرلمان أو عبر استفتاء شعبي بدرجة أدنى.

رابعاً، ستكون الفترة المقبلة عنواناً للتركيز على عدد من الملفات ومحاولة حسمها رغم صعوبة ذلك، وفي مقدمتها مواجهة حزب العمال الكردستاني وملف التنظيم الموازي والتطورات في الشمال السوري (الفصائل الكردية المسلحة وتنظيم الدولة) وغيرها.

 

ما بعد داود أوغلو

الطريقة التي خرج بها “الأستاذ” من المطبخ السياسي التركي جنباً إلى جنب مع المتغيرات المتسارعة في البيئة الإقليمية والعلاقات التركية المتوترة مع مختلف الأطراف تطرح أسئلة مهمة حول اتجاه السياسة الخارجية التركية بعد تنحي مهندسها على مدى اكثر من 14 عاماً وأيضاً حول مستقبله السياسي.

بيد أن التوقعات بتغييرات جذرية في سياسة أنقرة الخارجية تبدو متسرعة تحت ضغط الأحداث وتسارعها، لعدة سياقات. فالعدالة والتنمية لا يملك نظريات بديلة لما طرحه الرجل لتسير على هداها السياسة الخارجية في المستقبل القريب، كما أن نظريات الرجل ليست بعيدة عن أدبيات وقناعات الحزب وقياداته لا سابقاً ولا لاحقاً، فضلاً عن أن تقييم اردوغان والحزب والحكومة بل وداود أوغلو نفسه لا يرى مشكلة في النظريات نفسها بقدر ما يتحدث عن متغيرات جذرية وجوهرية في الجوار القريب لتركيا يفرض عليها تعديل بوصلتها بما يتناغم مع حالة السيولة في المنطقة.

من ناحية أخرى، فلا يبدو أن داود أوغلو قد خرج تماماً ونهائياً من المعادلة السياسية في تركيا، من خلال تأكيده على بقائه داخل أطر الحزب وممارسة مهامه كنائب برلماني عن محافظة قونيا مسقط رأسه فضلاً عن أن الكلمة التي ألقاها في المؤتمر حملت الكثير من الإشارات التي طافت حول هذا المعنى أحياناً بوضوح وأحياناً أخرى برسائل مشفرة.

تلخيصاً، ستشهد السياسة الخارجية التركية في المستقبل القريب بعض التغييرات التكتيكية غير المرتبطة بشكل مباشر برحيل داود أوغلو، بل هي تغييرات كانت قد بدأت فعلاً خلال فترة رئاسته للحكومة، بينما ستبقى تركيا في حاجة لإعادة صياغة “الباراديم” أو الإطار الناظم لمسار سياستها الخارجية والموجه لها على المدى الاستراتيجي بما يتوافق مع رؤيتها الحضارية وأهداف مئوية تأسيسها عام 2023، وحينها لن تجد أفضل من المنظر الاستراتيجي أحمد داود أوغلو الذي أضاف لإبداعه الأكاديمي خبرة عملية لا تقدر بثمن ليقود دفتها تنظيرياً و/أو عملياً.

شارك الموضوع :

اترك رداً