سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

عملية درع الفرات .. النتائج والآفاق المستقبلية

0

في الرابع والعشرين من آب/أغسطس الفائت أعلنت تركيا عن بدء عملية أسمتها “درع الفرات” وأعلنت لها ثلاثة أهداف رئيسة تمثلت في حماية حدودهاومواجهة تنظيم الدولة – داعش عن حدودها وطرده من مدينة جرابلس الحدودية والمحافظة على وحدة الأراضي السورية.

 

الأسباب

يرى الكثير من المتابعين أن تركيا قد تأخرت كثيراً في تدخلها العسكري في سوريا بالنظر إلى فكرة المنطقة الآمنة التي تدعو إليها منذ سنوات (والتي تجاهلها التحالف الدولي والولايات المتحدة حتى الآن) ولم تشأ أو تستطع تجاوز السقف الأمريكي – الدولي غير المعلن إزاءها. بيد أن الأمر يتعلق أساساً بمهددات الأمن القومي التركي وفق أولويات أنقرة، والتي يأتي في مقدمتها مشروع الممر الكردي في شمال سوريا الذي تعتبره أنقرة أمراً لا يمكن السكوت عنه لما يتضمنه من مخاطر جدية بل ووجودية على أمنها القومي.

ذلك أن أي كيان سياسي بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي، الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني والمصنف إرهابياً في تركيا، يبكون كياناً معادياً لها بطبيعة الحال، وربما يؤمن مساحات لتدريب مسلحي الكردستاني وإطلاق عملياته نحو الأراضي التركية، فضلاً عن تأزيمه للمشكلة الكردية الداخلية في تركيا عبر رفع سقف الحركة السياسية الكردية هناك ممثلة بحزب الاتحاد الديمقراطي.

في المرتبة الثانية يأتي ما يسمى بتنظيم الدولة أو داعش، الذي استهدف تركيا بعدد من العمليات الانتحارية والتفجيرات فضلاً عن قصفه المتواصل لبعض المدن التركية الحدودية وخصوصاً كيليس.

وفق هذه الأولويات، يمكن القول إن صانع القرار التركي أراد ضرب عدة عصافير بحجر واحد، بحيث يمكنه أن يبعد التنظيم عن حدوده، ويمنع تواصل الكانتونات الكردية الجغرافي، إضافة لتقوية ساعد المعارضة السورية في الشمال وطرحها أمام واشنطن كبديل للفصائل الكردية في المعارك ضد داعش، فضلاً عن إحياء فكرة المنطقة الآمنة كأمر واقع.

وهكذا، تحركت الدبلماسية التركية في مرحلة ما بعد الانقلاب العسريك الفاشل، فضغطت على الحليفة الأمريكية بأوراق اتهامها بالمعرفة المسبقة بالانقلاب والمماطلة بتسليم زعيم الكيان الموازي المقيم على أراضيها، كما استثمرت العلاقات المتعافية مع موسكو وطهران لنسج شبكة أمان سياسية للعملية، التي سارت في خطواتها الأولى على ضوء الرضى الضمني من هذه المنظومة الإقليمية والدولية.

 

المراحل الثلاث

بدأت العملية بطرد تنظيم الدولة – داعش من مدينة جرابلس الحدودية، وتميزت بالسرعة والدقة، سيما مع انسحب التنظيم وتفضيله عدم المواجهة مع مجموعات الجيش السوري الحر المدعومة من قبل القوات المسلحة التركية براً وجواً، عسكرياً ولوجستياً.

أما المرحلة الثانية شملت تعميق مناطق سيطرة الجيش الحر والقوات التركية إضافة إلى إبعاد قوات الحماية الكردية إلى شرق الفرات، وشهدت بعض المواجهات بين القوات التركية والميليشات الكردية قبل أن تتدخل واشنطن لمنع تطور الأحداث إلى مواجهة شاملة بينهما. الهدف الرئيسي للمرحلة الثانية كانت بلدة الراعي وبالتالي تأمين خط جرابلس – إعزاز وجرابلس – الباب إعداداً للمرحلة الثالثة التي يبدو أن المرحلتين الأولى والثانية كانتا في جزء كبير منهما محض مقدمة لها.

مدينة الباب هي الهدف الكبير للمرحلة الثالثة من عملية درع الفرات، ولها أهميتها الاستراتيجية من حيث قربها من الحدود التركية ومدينة حلب وكونها معقلاً مهما لتنظيم الدولة، وقد بدأت الإرهاصات الأولى لهذه العملية خلال كتابة هذه السطور. تتعدد الأهداف التركية من وراء هذه المرحلة/المعركة، بين توسيع مناطق سيطرة الجيش الحر لتحقيق منطقة آمنة بفعل الأمر الواقع واستمرار المواجهة مع تنظيم الدولة وإبقاء الشرعية لتدخلها في سوريا وسد الطريق على الميليشات الكردية وقوات سوريا الديمقراطية وتثبيت الجيش الحر كلاعب محلي يمكنه أخذ مكانها في استراتيجية التحالف الدولي وزيادة أوراق قوتها على طاولة التفاوض لصياغة مستقبل سوريا، وغيرها من الأهداف.

بيد أن هذه المرحلة تختلف عن سابقتيها لأسباب ثلاثة رئيسة: أنها أبعد من جرابلس ومحيطها عن الحدود التركية، كونها مركزاً رئيساً للتنظيم لن يسلمه بسهولة وعدد السكان الكبير مقارنة بجرابلس والبلدات الأخرى. وبالتالي فالمعركة هناك ستكون أشرس وأصعب وخسائرها المختملة – سيما من السكان المدنيين – أكبر، وهو ما سيفرض على تركيا إشراك عدد أكبر من القوات وحرصاً أكثر في مسار العمليات، وبالتالي وقتاً زمنياً أطول حكماً، سيما في ظل التصريحات الأولية لوزير الدفاع التركي حول عدم رغبة أنقرة في إشراك قوات مشاتها في العمليات والاكتفاء بدعم الجيش السوري الحر.

 

ماذا بعد الباب؟

لا ينبغي فصل معركة الباب، أو المرحلة الثالثة من عملية درع الفرات، عن سياقاتها المتعلقة بمتغيرات السياسة الخارجية التركية والحل السياسي الذي تتفاوض حوله موسكو وواشنطن ومواجهة التنظيم الدولة التي بدأت تتسارع خطاها.

وبالتالي، يمكن بسهولة القول إن الباب لن تكون آخر مراحل التدخل التركي العسكري في المشهد السوري أو في المنطقة، بل ستكون مجرد محطة في عملية متكاملة. سيكون الهدف الأول لأنقرة تثبيت سيطرة الجيش السوري الحر (المجموعات المشاركة منه في العملية) على المناطق “المحررة” من تنظيم الدولة ومنع تواجد قوات سوريا الديمقراطية عليها ولو جزئياً، وبالتالي تحقيق فكرة “المنطقة الآمنة” من النواحية العملية كأمر واقع، على أمر إقناع الثنائي الأمريكي – الروسي بإقرارها رسمياً من خلال فرض حظر الطيران فوقها.

وإلى جانب اهتمام تركيا بعملية تأهيل هذه المناطق وإعادة جزء من سكانها إليها، من خلال توفير الخدمات وإعادة الإعمار بشكل جزئي وعملي، يبدو من الإشارات الصادرة عن الساسة الأتراك أن الخط الموازي سيكون المشاركة في المعركة القادمة مع تنظيم الدولة، أي في الرقة معقله الرئيس وآخر قلاع وجوده في سوريا، وهي عملية أكثر تعقيداً وستستغرق زمناً أطول بكثير على أي حال، فضلاً عن أن تركيا لن تدخلها منفردة بل مع التحالف الدولي وتحت لافتته.

أخيراً، وبتناغم واضح مع النظرة التركية المتغيرة للإقليم ودور أنقرة فيه ومع عنوان مواجهة التنظيم، ذكر الرئيس التركي أن بلاده تنظر للخطر القادم من تنظيم الدولة من شمال العراق، وطلب من الحكومة المركزية في بغداد ومن مختلف الدول تفهم الموقف التركي ودعم أي قرار تتخذه أنقرة لمواجهة التنظيم في الموصل، وهي تصريحات تذكرنا بـ”خط حلب – الموصل” أو “خط الدفاع الأول عن تركيا” وفق عدد من التقارير التركية التي صدرت مؤخراً.

 

في المحصلة، نحن أمام سياسة تركية خارجية مختلفة بشكل جذري عما تابعناه على مدى سنوات طويلة. تبدو تركيا اليوم إزاء المخاطر المحدقة وبعد المحاولة الانقلابية الفاشلة أكثر مبادرة وقدرة على إقناع الحلفاء والخصوم بحاجتها لتأمين حدودها وأمنها القومي، في سياق يمكن أن طلق عليه مصطلح تهجين السياسة الخارجية لتصبح مزيجاً من القوتين الناعمة والخشنة بعد سنوات طويلة من الاكتفاء بالأولى دون الثانية.

النقطة الثانية الجديرة بالملاحظة هي قدرة أنقرة حتى الآن على التدخل دون التورط كثيراً في تفاصيل المشهد، بفضل الدبلماسية التركية التي استطاعت أن تحظى بضوء أخضر روسي – أمريكي لتحركها ومحاولاتها التدخل المباشر بالحد الأدنى والاكتفاء بدعم الفصائل السورية قدر الإمكان. وهذا يعني أن أنقرة ما زالت متوجسة من سيناريوهات التوريط والغوص في “المستنقع السوري” وفق تصريح/تهديد صالح مسلم زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي، ويعي أيضاً توجسها من المواقف الدولية التي يمكن أن تتبدل بين يوم وليلة لتنتقل من مربع التأييد أو الصمت إلى مربع التحفظ والضغط عليها.

الملحوظة الأخيرة تتعلق بمآلات بعيدة المدى لعملية درع الفرات، والتي يجب أن نقول إنها غير واضحة تماماً حتى الآن. فرغم إعلان أنقرة أن الحفاظ على وحدة الأراضي السورية أحد أهداف العملية الرئيسة، إلا أن التزامها بالسقف الأمريكي – الروسي وخطوط السيطرة الجغرافية في سوريا سيعزز على المدى البعيد حدود هذه المناطق وبالتالي تحقيق سيناريو التقسيم بالأمر الواقع وليس بالإعلان الرسمي عن التقسيم إلى دويلات أو الفيدرالية. وهذه ملحوظة تلقي بمسؤولية كبيرة على الفصائل السورية العسكرية والسياسية لتوضيح رؤيتها ومشروعها لمستقبل سوريا كما على صانع القرار التركي ورؤيته لمستقبل المنطقة.

 

 

 

 

شارك الموضوع :

اترك رداً