سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

المواجهة التركية – الروسية في سوريا

0

شكل التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا أواخر أيلول/سبتمبر الفائت مرحلة جديدة في الأزمة السورية توجت لاحقاً بأزمة إسقاط أنقرة للمقاتلة الروسية، والتي استثمرتها موسكو في تنفيذ عدة خطوات متسارعة جعلت لها اليد العليا عسكرياً واستراتيجياً في سوريا، في مواجهة المعارضة السورية واللاعبين الدوليين وما بينهما من دول إقليمية داعمة وفي مقدمتهم تركيا.

وهكذا فإن الأزمة السورية التي بدأت ثورة شعبية ضد نظام ظالم، ثم انتقلت لمستوى الحرب الأهلية، ثم أصبحت نزاعاً إقليمياً، أضحت اليوم – بعد التدخل الروسي وإجراءاتها الللاحقة – أزمة دولية بامتياز.

 

الاستراتيجية الروسية

بعد أشهر طويلة من تدخل إيران المباشر – بدرجة ما – في الأزمة السورية رفقة المليشيات الشيعية إلى جانب النظام وفشلهم في تحقيق تقدم واضح له وسط انتصارات متتلية لفصائل المعارضة السورية على أكثر من جبهة، جاء التدخل العسكري الروسي في سوريا على شكل خطوات متتالية ومتدرجة.

بيد أن هذا التدخل، والذي اتضح لاحقاً أنه تم بناء على اتفاق وقع بين موسكو والنظام، تسارعت خطاه بشكل واضح بعد أزمة المقاتلة التي أسقطتها تركيا لانتهاكها أجواءها بعد تحذير أنقرة المتكرر على إثر الاستفزازات الروسية المتلاحقة. فقد نشرت موسكو سريعاً منظومة S400 للدفاعات الصاروخية في سوريا لتشكل منطقة حظر طيران فعلي تغطي الأجواء السورية، فضلاً عن بناء قواعد عسكرية جديدة، واستقدام عدد كبير من الطائرات وحاملات الطائرات بشكل شبه فوري، مما أعطاها اليد العليا عسكرياً في سوريا منذ ذلك اليوم وحتى اللحظة.

وفق عدد من المحللين الاستراتيجيين، فقد بنت روسيا استراتيجيتها بعد ذلك في سوريا على ثلاثة أعمدة:

الأول، حماية حدود “روسيا المفيدة”، أي الدويلة العلوية على الساحل السوري مع دمشق، ومنع أي تقدم للمعارضة نحوها، وجعلها مركزاً عسكرياً واستراتيجياً لقواتها.

الثاني، الحيلولة دون أي تقدم كبيرة أو انتصار ناجز للمعارضة السورية المسلحة في المدن المهمة، وحصرها في عمليسات الكر والفر ضمن حدود ضيقة جداً وغير مهمة استراتيجياً.

الثالث، معاقبة تركيا عسكرياً – إلى جانب العقوبات الاقتصادية – على إسقاط الطائرة أو حتى من دونها باعتبارها الداعم الإقليمي الأكبر للمعارضة، من خلال حالة حظر الطيران الفعلي عليها فوق سوريا، وقصف المعارضة السورية “المعتدلة” المحسوبة عليها بذريعة مواجهة تنظيم الدولة (داعش)، واستهداف التركمان تحديداً لعلاقاتهم السياسية والتاريخية والثقافية بأنقرة، والاقتراب المتدرج من الحدود التركية عبر السيطرة على جبل التركمان والمناطق المحاذية، ثم محاولة تطويق تركيا من الجنوب بشريط كردي من خلال تقديم الدعم والأسلحة والغطاء الجوي لقوات حماسة الشعب (الكردية) في ريف حلب الشمالي تحديداً، وربما استدراجها لاحقاً عبر التهديد الكردي واستنزافها عسكرياً تحت ذريعة الاعتداء على سيادة دولة جارة (باعتبار أن الوجود الروسي “مقنن” بدعوة النظام له).

 

تراجع الدور التركي

كان قرار إسقاط الطائرة الروسية إذن قراراً مفصلياً حدد لاحقاً الدور التركي في سوريا. وبغض النظر هل أقدمت أنقرة على هذه القرار مختارة أم مضطرة، بدوافع ذاتية أم بتشجيع أمريكي، فإن هذا الحدث، الذي أدى لحالة نشوة عارمة في ساعاته الأولى، نتج عنه خسارتان استراتيجيتان لتركيا:

الأولى أمام روسيا عسكرياً واستراتيجياً، من خلال ما سبق ذكره من فقدان تركيا لإمكانية التحليق فوق سوريا أو ربما قريباً من الحدود، وهو ما أفقدها هامشاً كبيراً من المناورة، فضلاً عن ضعف حليتها أمام التقدم الكردي نحو مناطق المعارضة واكتفائها بالقصف المدفعي الذي لم يحل دون سقوط بلدات مهمة واستراتيجية مثل تل رفعت.

الثانية أمام الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي سياسياً، حيث اضطرت أنقرة مرة أخرى للالتزام التام بمواقفهما واللجوء لغطائهما السياسي لها، بعد سنوات من محاولات الخروج عن هذا النسق والتمتع باستقلالية جزئية عنهما في السياسة الخارجية، سيما في ملفات مثل مصر وسوريا وفلسطين.

وقد تبلور هذا التراجع في الدور التركي في عدة تفاصيل، منها العجز عن دعم المعارضة بشكل فاعل ومؤثر أمام تقدم النظام تحت الغطاء الجوي الروسي، ومنها تسليم ملف المعارضة السياسية بشكل شبه كامل بعد أن كانت أنقرة تتولى معظم تفاصيله خصوصاً بعد التراجع التكتيكي لقطر إثر المصالحة مع السعودية، فضلاً عن تراجع سقفها في الأزمة من ضرورة إسقاط النظام إلى الرضى بالعملية الانتقالية السياسية التي فرضها اتفاق كيري – لافروف في فيينا.

 

العامل الكردي

تمايز حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) منذ بادية الثورة عن باقي الفصائل وانتهج خطاً براغماتياً صرفاً، فتجنب الصدام مع النظام قدر الإمكان، واكتفى بإدارة المناطق ذات الأغلبية الكردية بعد انسحاب قوات النظام منها، فيما بدا وكأنه اتفاق غير معلن بينهما، وأعلن في كانون الثاني/يناير 2014 إدارة ذاتية فيها.

يسيطر الحزب اليوم عبر ذراعه العسكرية قوات حماية الشعب على “كانتونين” كبيرين شمال سوريا، أحدهما في الشرق ومركزه عين العرب/كوباني والثاني في الغرب ومركزه عفرين، ويرغب وفق استراتيجيته في ضمن المناطق ما بينهما ليتواصلا جغرافياً ثم ليمتدا نحو البحر المتوسط كنواة لدويلة كردية أو شريط/ممر على دول الحدود التركية – السورية.

وتعتبر أنقرة هذا السيناريو خطاً أحمر من منظور أمنها القومي لعدة اعتبارات أهمها:

1- العلاقة العضوية بين هذه الفصائل وحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً في تركيا والذي يقود حرباً ضد الدولة التركية منذ عام 1984 سقط خلالها أكثر من 30 ألف ضحية، فضلاً عن حالة التصعيد التي بدأها في تموز/يونيو الماضي وما زالت مستمرة.

2- سيكون أي كيان سياسي يقوده حزب الاتحاد الديمقراطي دولة جوار لتركيا معادية لها في العقيدة السياسية والعلاقات الإقليمية، في فترة بالغة التعقيد وسريعة التحولات في المنطقة.

3- سيكون هذا الكيان المحتمل حاجزاً طبيعياً بين تركيا وسوريا يحد من دورها فيها إن لم يقض عليه تماماً، وبينها وبين العالم العربي، وهذه خسارة للرؤية الاستراتيجية للعدالة والتنمية ودور تركيا التكاملي مع المنطقة.

4- يمكن أن تتحول هذه المناطق لمساحات تدريب وتهريب أسلحة وقاعدة انطلاق لحزب العمال الكردستاني في مواجهة الحكومة التركية، ولذلك شواهد عديدة أهمها انتقال جزء من قيادة الحزب من جبال قنديل في العراق إلى عين العرب، ومشاركة بعض عنصاره في القتال مع قوات الحماية، والعثور على أسلحة حصل عليها أكراد سوريا من موسكو وواشنطن في يد مقاتل الحزب داخل تركيا.

5- ستصبح تركيا وفق هذا السيناريو محاصرة تماماً من قبل روسيا، باعتبار أن الكيان المنشود سيكون حليفاً لموسكو، سياسياً وعسكرياً ولوجستياً.

6- قد تؤدي معارك تمدد الفصائل الكردية المسلحة في ريف حلب إلى موجة لجوء ضخمة باتجاه الحدود تقدر بأكثر من مليون شخص، وهو ما تعتبره أنقرة سلاحاً في يد موسكو ضدها.

7- سيؤدي التمدد الكردي في ريف حلب إلى إضعاف المعارضة السورية “المعتدلة” وخنقها تماماً، بكل ما لذلك من انعكاسات على مجمل الأزمة السورية والدول الإقليمية الداعمة للمعارضة، وفي مقدمتها تركيا.

 

الخيارات التركية

في ظل الدعم الروسي العسكري والأمريكي – الدولي السياسي للفصائل الكردية المسلحة، واستمرار الاستفزازات الروسية واختراق الأجزاء التركية، تبدو أنقرة محاصرة في زاوية الدفاع عن النفس، رغم استشعارها لأهمية وخطورة معركة “جبهة حلب”.

وقد تحدثت بعض التقارير الإعلامية عن خطة تركية – سعودية لتدخل عسكري بري من البلدين في سوريا لمحاولة استدراك الوضع هناك وإيقاف تدهوره. بيد أن المعطيات المتاحة حتى كتابة هذه السطور تشي بصعوبة – إن لم نقل استحالة – هذا السيناريو. فالدولتان لا قبل لهما بمواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا في غياب أي قرار أممي وغطاء و/أو مشاركة من الولايات المتحدة أو حلف الناتو، وهي أمور غير مرشحة للتبدل في وقت قصير. ولئن تحول الضوء الأمريكي من أحمر إلى أخضر، فسيكون ذلك من قبيل التوريط لا من باب الدعم للحليف التركي العاتب من إغفال مصالحه وتغليب العلاقة الاستراتيجية مع روسيا والتكتيكية مع المقاتلين الأكراد.

وعليه، فيبقى التدخل الجوي هو المتاح، وهذا سيكون تحت مظلة التحالف الدولي ووفق رؤيته وخطته وإعداداته ولمواجهة تنظيم الدولة (داعش) حصراً، وهو ما سيبعد البلدين عن أهدافهما الحقيقية، خصوصاً في ظل صعوبة/استحالة استغلالهما للافتة التحالف الدولي لتحقيقها.

وفق هذه الرؤية، يمكن حصر أي مبادرة عسكرية تركية في سوريا في أحد سيناريوهين:

الأول، تبدل الموقف الأمريكي وفقاً لحسابات واشنطن ورغبتها في توريط الكل، أو كسر أنقرة للفيتو الأمريكي، على مستوى إيصال الأسلحة النوعية للمعارضة، أو على مستوى التدخل العسكري المباشر، ولو لمسافة محدودة (يجري الحدريث في أنقرة عن منطقة آمنة بعمق 10 كلم تشمل بلدة اعزاز).

الثاني، اضطرار أنقرة للتدخل وتحمل تبعاته، لاعتبارات الخطر الداهم على حدودها أو أمنها القومي، بسبب التمدد الكردي أو هجمات لتنظيم الدولة أو غيرها من التطورات.

في الخلاصة، تبدو تركيا في موقف دفاعي لا تحسد عليه، بعد أن فاتت فيما يبدو إمكانات التدخل الذي يمكن أن يقلب الأوضاع في سوريا. وفي انتظار الخطوات الثلاثة الضرورية على وجه السرعة، أي توحيد المعارضة السورية سياسياً وعسكرياً، ورفع التنسيق مع الرياض إلى درجة التحالف الاستراتيجي الحقيقي في الرؤية والأهداف والتحركات، وكسر الفيتو الأمريكي، تتراوح القرارات التركي بين التدخل الاختياري والتورط أو الترقب والانتظار والاستهداف فالتدخل الاضطراري، وهما خياران أحلاهما مر.

شارك الموضوع :

اترك رداً