سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

الكيان الموازي في تركيا .. انحراف الفكر والممارسة

0

منذ الساعات الأولى للمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا ليلة الخامس عشر من تموز/يوليو وجهت الحكومة أصابع الاتهام للكيان الموازي، أو المجموعة المتنفذة من جماعة الخدمة التي يديرها فتح الله كولن المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد صبت كل تسريبات التحقيق في هذا الإطار، بما يفتح الباب واسعاً على الأسئلة المتعلقة بالجماعة ونشأتها وأفكارها وأهدافها وبنيتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية.

 

منظومة الأفكار

كان فتح الله كولن واعظاً يعمل في القطاع الحكومي، قبل أن يستقيل ليتفرغ للجماعة التي أسسها عام 1971 وأطلق عليها لاحقاً اسم “جماعة الخدمة” باعتبار أنها فرغت نفسها لخدمة الطلاب. ولأنه خطيب مفوه وقادر على إسباغ حالة عاطفية على خطبه فقد انتشر بسرعة كبيرة خصوصاً وأنه كان دون منافسين إذ بدأ العمل في مدينة إزمير الساحلية المفتقرة للعلماء الكبار.

قدم كولن نفسه وجماعته على أنهم مجموعة من المتأثرين بـ”بديع الزمان” سعيد النورسي، الذين شخصوا أمراض الأمة بالجهل والفقر والفرقة، فكان تركيزهم على التعليم والطلاب، ورفضوا رفضاً قاطعاً العمل بالسياسة أو تأسيس حزب سياسي رافعين شعار النورسي “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والسياسة”.

بيد أن السنوات اللاحقة كشفت النقاب عن رؤية كولن لمفهوم الإسلام الذي يمثله ويتبناه: إسلام “ليبرالي” متصالح مع الآخر، وإسلام “قومي” تركي مستعلٍ على الإسلاميين العرب، وإسلام “معتدل” لا يتفق مع حركات الإسلام السياسي في تركيا بقيادة أربكان ولا يقر الحركات الإسلامية في العالم العربي التي اتهم بعضها بالتشدد والعنف.

صحيح أن الجماعة لم تؤسس حزباً سياسياً، لكنها تحالفت انتخابياً – في مقابل وعود وامتيازات ومكاسب – مع أغلب الأحزاب التركية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، إلا أحزاب الرأي الوطني أو “ميللي غوروش” التي أسسها وقادها الراحل نجم الدين أربكان، والذي لم يخف كولن يوماً عدم وفاقه معه.

ولئن ابتعد كولن بجماعته عن نسق الطرق الصوفية، إلا أنه استغل النزعة الصوفية العميقة في الشعب التركي وقدراته الخطابية وقصر أتباعه على كتبه ومؤلفاته حصراً ليرسخ فيهم مفهوم “كراماته” كأحد أولياء الله، قبل أن يتجاوز كل الحدود المعقولة بشطحاته ليقنعهم بأنه المهدي المنتظر وأنه كان يلتقي الرسول صلى الله عليه وسلم، ليصل به الأمر إلى أن يقول للرجل الثاني في التنظيم سابقاً لطيف اردوغان إن الله قال له “كنت أبقي الكون والكائنات من أجل محمد، والآن أبقيهما من أجلك أنت”.!!!!!

 

التحول لامبراطورية

بدأت الجماعة بالعمل في المجال التعليمي والتربوي والدعوي، منشئة عدداً كبيراً من المدارس والمعاهد الخاصة ثم مساكن الطلبة والجامعات، ليصل بها الأمر بعد أكثر من أربعين سنة لأن تصبح امبراطورية ضخمة – أشبه بالشركات العابرة للقارات – تبلغ ميزانيتها 150 مليار دولار وفق عريضة الادعاء الخاصة بالتحقيق في المحاولة الانقلابية. وتضم هذه الامبراطورية اليوم أكثر من تسعة آلاف شركة اقتصادية منها خمس شركات قابضة وعدة مصارف، وعشرات المؤسسات الإعلامية و17 جامعة و96 وقفاً و900 جمعية غير ربحية، إضافة لمئات المدارس داخل وخارج تركيا، فضلاً عن تغلغلها في مختلف مؤسسات الدولة: الجيش والشرطة والأمن والمخابرات والقضاء.

ولإنشاء هذه الامبراطورية الضخمة، اتبعت الجماعة استراتيجية تعتمد سياسات واضحة وثابتة، أهمها:

أولاً، عدم التصادم مع الدولة بل الحرص على رضاها، وقد تفردت جماعة كولن عن باقي التيارات الإسلامية التركية بتأييد انقلابي 1980 و 1997 مما ساعد على انتشارها في الوقت الذي كانت باقي الجماعات الإسلامية تُحارَب.

ثانياً، شبكة علاقات خارجية قوية خصوصاً مع الولايات المتحدة الأمريكية، إذ كانت رؤية كولن تختصر الوضع الدولي بأنه “سفينة ربانها الولايات المتحدة” وبالتالي فيجب على من أراد التواجد والبروز أن يرضى عنها ويرضيها ويتعاون معها، ولا يخفى في هذا الإطار العلاقات المتينة للرجل مع الفاتيكان (تحت ستار حوار الأديان) والكيان الصهيوني وأجهزة الاستخبارات الأمريكية FBİ و CİA وفق عدد من التقارير الموثوقة والكتب التي كتبها منشقون عن الجماعة أهمهم لطيف اردوغان ونور الدين فاران.

ثالثاً، الطاعة العمياء والولاء الكامل والسرية التامة والتقية العميقة، حيث أباح كولن لفتيات الجماعة خلع الحجاب لدخول الجامعات في فترة حظره، كما أفتى لأنصاره – خصوصاً في الجيش – بالصلاة إيماءً برموش العين وشرب الخمر والزنا لإخفاء انتمائهم باعتبار أن “العبادة الكبرى” التي كلفوا بها هي عدم انكشاف أمرهم “قبل الموعد”.

رابعاً، تسريب أسئلة امتحانات دخول الجامعة والتوظيف في مؤسسات القطاع العام والكليات الحربية لأبناء الجماعة، بحيث يحظون بمقاعد أفضل الجامعات وأهم الوظائف الحكومية فضلاً عن المؤسسة العسكرية.

خامساً، دعم بعضهم البعض وإقصاء المخالفين ولو بالظلم والبهتان، وخصوصاً في مؤسسات الدولة الحساسة، كما حصل مثلاً في قضيتي “أرغنكون” و”المطرقة” اللتين اتهم فيهما المئات من ضباط الجيش بالتخطيط للانقلاب على الحكومة، قبل أن يتبين بعد سنوات أن معظم الأدلة كانت ملفقة لإفساح المجال لضباط الجماعة لاحتلال مناصبهم دون انتظار عجلة الترفيع البيروقراطية البطيئة.

هذه الوسائل وغيرها دفعت الحكومة التركية لإطلاق مصطلح “الكيان الموازي” على الجماعة بمعنى “دولة داخل الدولة”، كما دفعت كاتب هذه السطور ليطلق عليها منذ سنوات طويلة لقب “ماسونيي الإسلاميين” لتشابه طريقة العمل والتمكين بين الطرفين.!!

 

الصراع مع العدالة والتنمية

سبق وأن ذكرنا أن الطرف الوحيد الذي لم يتعاون معه كولن في الساحة السياسية التركية هو نجم الدين أربكان والتيار الذي كان يقوده ويمثله، لكنه سرعان ما تعاون مع حزب العدالة والتنمية الذي تأسس عام 2001 وشكل الحكومة بعد انتخابات 2002 البرلمانية، أولاً لأنه انشق عن أربكان ويفترض به – نظرياً على الأقل في ذلك الحين – أن يضعفه، وثانياً لأنه الحزب الحاكم ومن عادة كولن أن يقف مع الطرف القوي، وثالثاً طمعاً في تعميق تغلغل أتباعه في مؤسسات الدولة.

وقد سارت العلاقات بين الطرفين بشكل جيد، حتى ظهرت نزعة السيطرة بشكل واضح على كولن وجماعته، حين أرادوا السيطرة على الحزب ثم تدرجوا في الصراع من الرغبة في العدالة والتنمية بلا اردوغان إلى إرادة تركيا بلا العدالة والتنمية ثم ربما وصلوا – مع الانقلاب – إلى مستوى المنطقة بلا تركيا قوية.

كانت أولى الأزمات بين الطرفين هي محاولة القبض على رئيس جهاز الاستخبارات حاقان فيدان – ذراع اردوغان اليمنى – في شباط/فبراير 2012 للسيطرة على الجهاز، ثم أحداث تقسيم في أيار/مايو 2013 التي دعمتها الجماعة إعلامياً داخل وخارج تركيا، ثم في قضايا الفساد المالي في كانون الأول/ديسمبر 2013 والتي كان الهدف الرئيس من خلفها اعتقال بلال اردوغان لإجبار والده على الاستقالة من رئاسة الحكومة والحزب الحاكم، وصولاً للحظة الانقلاب العسكري الفاشل في تموز/يوليو 2015.

 

ما بعد الانقلاب

كان من أهم العوامل التي أدت إلى الانقلاب العسكري أو سرَّعت توقيته المكافحة الحثيثة للتنظيم من قبل الحكومة التركية منذ “الانقلاب القضائي” الذي حاول الكيان الموازي القيام به في نهاية عام 2013. وقد استطاعت الحكومة فعلاً إضعاف التنظيم بشكل كبير جداً في معظم المؤسسات، سيما الأمن والشرطة والمخابرات وإلى حد ما القضاء. وقد كانت الخطوة الأخيرة هي إقصاء المئات من منتسبي التنظيم في الجيش في اجتماع “مجلس الشورى العسكري الأعلى” الذي كان موعده في بداية آب/أغسطس الفائت، فاستبقه التنظيم بالعملية الانقلابية في مننتصف الشهر الذي سبقه.

ولئن استطاعت الحكومة استئصال شأفة التنظيم بدرجة كبيرة من مختلف مؤسسات الدولة ووزارات الحكومة، إلا أن هناك تحديات كبيرة ماثلة أمامها، أهمها شبه استحالة القضاء التام على التنظيم، أولاً باعتباره تنظيماً أيديولوجياً ذا حاضنة شعبية كبرت أم صغرت، وثانياً لإمكاناته التنظيمية العالية والسرية التي يتمتع بها. وبالتالي فالتحدي الثاني أمام الحكومة هو القدرة على كبح جماح أي محاولات مستقبلية قد يقوم بها التنظيم منفرداً أو بالتعاون مع أطراف أخرى، على شكل انقلاب تقليدي أو تفجيرات أو فوضى أو عمليات اغتيال.

بيد أن التحدي الحقيقي أمام الحكومة والدولة والمشروع الاستراتيجي أمامهما هو احتواء العناصر النظيفة سليمة الطوية من أنصار الجماعة من الشباب تحديداً، الذين استغلت القيادات حماستهم الدينية لأهداف لم يكونوا يدركون أبعادها ولم يكونوا من المشتركين في المحاولة الانقلابية أو الراضين عنها. ولذلك فثمة حاجة لمشروع متكامل تتضافر فيه مجهودات الحكومة مع رئاسة الشؤون الدينية مع الأوقاف مع الجامعات والشخصيات العلمائية الموثوقة لتغيير منظومة الأفكار المزروعة فيهم وتعويض الجانب الروحي الذي يبحثون عنه وتوجيههم لأعمال الخير النافعة للمجتمع.

شارك الموضوع :

اترك رداً