سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

التبعات السياسية للزلزال في تركيا

0

التبعات السياسية للزلزال في تركيا

الجزيرة نت

16 شباط/فبراير 2023

 

مع اقتراب أعمال الإنقاذ في تركيا من نهايتها، تتضح شيئاً فشيئاَ الآثار التدميرية للزلزال الذي ضرب البلاد في السادس من شباط/فبراير الجاري مخلفاً عشرات آلاف الوفيات والإصابات، ويتوقع أن يترك آثاره على مختلف مناحي الحياة ولا سيما الحياة السياسية.

زلزال مدمر

فجْرَ السادس من الشهر الحالي، هز زلزال بقوة 7.8 درجات على مقياس ريختر جنوب تركيا وشمال سوريا. شملت آثار الزلزال عشر محافظات تركية بدرجات مختلفة، كما شعر به الناس في كل من سوريا – التي أصاب شمالها تحديداً دمار مشابه – والعراق ولبنان والأردن وفلسطين ومصر.

بعد ذلك بساعات، ضرب زلزال ثانٍ بقوة 7.6 على مقياس ريختر المنطقة، مع 3170 هزة ارتدادية، ما فاقم من آثاره التدميرية، وجعل البلاد أمام كارثة غير مسبوقة تخطت بمراحل آثار زلزال إزميت عام 1999.

حتى لحظة كتابة هذه السطور، أعلن الرئيس التركي عن ارتفاع عدد الوفيات جراء الزلزال إلى 35418 والمصابين إلى 105505، مع استمرار علاج 13208 منهم في المستشفيات، فضلاً عن نقل أكثر من 150 ألفاً إلى محافظات أخرى.

وقال أردوغان إن أكثر من 19 ألف مبنى قد هدم بالكامل، بينما بات 47211 مبنى آخرين غير مؤهلين للسكن بسبب الأضرار البالغة التي حلت بهم وبالتالي ستحتاج للهدم على وجه السرعة.

وأكد وجود أكثر من 250 ألف موظف حكومي في المنطقة، منهم أكثر من 35 ألفاً من خبراء أعمال الإنقاذ المتمرسين، إضافة إلى 12235 آلية و76 طائرة و121 مروحية و26 سفينة و45 مسيّرة. وكانت تركيا أعلنت عن إنذار من المستوى الرابع الذي يتضمن طلبها مساعدة دولية، حيث لبى نداءها مئة دولة، وأرسلت 84 منها زهاء 11 ألف عامل إنقاذ، فضلاً عن حصولها على مساعدات من 61 دولة وصلتها عبر 444 رحلة جوية.

وكانت أردوغان قد أعلن حالة الطوارئ في المحافظات العشر التي أصابها الزلزال، أضيفت لها واحدة إضافية، وحالة الحداد في عموم البلاد لمدة أسبوع، وتوقيف الدراسة في كل المراحل

التعليمية لمدة أسبوعين، واستخدام المساكن الطلابية لإيواء الناجين، إضافة لإكمال العام الدراسي للجامعات عن بعد.

وبالنظر لكل ما سبق من أرقام ومعطيات، يظهر بوضوح أكثر أثر الزلزال على تركيا والذي سماه أردوغان “كارثة العصر” أو “مصيبة القرن”، وأثر بشكل مباشر أو غير مباشر في حياة 20 مليون إنسان، ووصفه أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأنه “واحدة من أكبر الكوارث الطبيعية في عصرنا”.

 

التبعات السياسية

من الطبيعي أن يكون لزلزال بهذه الآثار تبعات سياسية، كما أنه من البديهي أن أي حكومة يحصل في عهدها حدث بهذه الحدة ستتحمل مسؤوليةً سياسية وتدفع ثمناً بهذه الدرجة أو تلك بغض النظر عن مدى مسؤوليتها عما حصل أو طريقة تعاملها معه.

ولكن الذي عمّق هذا المعنى هو قرب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في البلاد، المقررة في حزيران/يونيو المقبل وكان من المتوقع تبكيرها للرابع عشر من أيار/مايو، ولذا فقد بدأ تسييس الحدث باكراً جداً.

أول ملامح التبعات السياسية للزلزال هو تعمق حالة الاستقطاب في البلاد بين الحزب الحاكم والمعارضة، وتحديداً حزب الشعب الجمهوري، ذلك أن رئيسه حمّل أردوغان والحكومة المسؤولية الكاملة عما حدث ورفض أن يتعامل مع الأزمة بـ”منطق فوق سياسي” وأعلن عن مقاطعة الرئاسة والحكومة. بعد ذلك بأيام وخلال صلاة الجنازة على الرئيس السابق لحزب الشعب الجمهوري دنيز بايكال، تجنب أردوغان مصافحة كل من كليتشدار أوغلو ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو ورئيس حزب المستقبل أحمد داود أوغلو.

وإذا كانت القوة التدميرية للزلزال خارج إطار النقاش، فإن تحمل الحكومة أو الحكومات المتعاقبة بعض المسؤولية أمر وجيه كذلك، إن كان في مرحلة ما قبل الزلزال أو بعده. ففي مرحلة ما قبل حدوث الزلزال، الحكومة مسؤولة عن قوانين الإعمار والإعداد لمواجهة الزلزال بما يشمل تأهيل الكادر البشري ووضع الخطط ونشر الثقافة المناسبة، فضلاً عن تدقيق الأبنية القديمة – لا سيما المبنية قبل 1999 – وإعادة بنائها ضمن ما يسمى بمشروع التطوير المدني. فإذا ما أضيف لذلك الانطباع بأن الحكومة قد حابت أو دعمت قطاع الإنشاءات والعقارات في السنوات الماضية لأهميته في تنشيط الاقتصاد، يكون من الصعب تنصل الحكومة بالكامل من المسؤولية، أقله على صعيد الانطباعات المتولدة من الحدث.

أما في مرحلة ما بعد الزلزال، فمن المسلّم به أن الفرق التركية التابعة لإدارة مكافحة الآفات الطبيعية والطوارئ AFAD لم تكن لتستطيع تغطية كل المناطق المتضررة، ولذلك طلبت

أنقرة الدعم الدولي. لكن الرئيس التركي نفسه تحدث عن حصول إرباك وتأخر في اليومين الأولين قبل أن تستلم الحكومة زمام المبادرة.

وصل عدد من الوزراء يتقدمهم نائب الرئيس فؤاد أوكتاي للمنطقة منذ الساعات الأولى للزلزال لإدارة وتنسيق عمليات الإنقاذ في مشهد مختلف تماماً عن أداء الدولة بعد زلزال 1999. لكن كل ذلك قد لا يصمد أو يكفي إزاء الرقم الكبير للضحايا والمصابين.

فيما يتعلق بالأبنية التي هدمت بالكامل مسببة العدد الكبير من الوفيات، قال الرئيس التركي إن %98 منها بني قبل عام 1999 وأن الأبنية التي شيدتها المؤسسة الحكومية TOKİ قد صمدت وقاومت الزلزال. في المقابل يؤخذ على الحكومة عدم الاستمرار في مشروع التطوير المدني بنفس الوتيرة مؤخراً، وتركز المشروع في إسطنبول ومنطقة مرمرة (حيث كان يتوقع الزلزال الأكبر)، فضلاً عن بعض القرارات مثل تسجيل بعض الأبنية المخالفة عام 2018. كما أنه من المفيد الإشارة إلى أن عملية التدقيق والمتابعة لمشاريع الإعمار تعود للبلديات وليس الحكومة (والقطاع الخاص في بعض التفاصيل)، وبالتالي تشترك المعارضة مع الحزب الحاكم في هذه المسؤولية إذ تدير عدداً من بلديات المنطقة.

ثم إن تقييم أداء الحكومة لا يكتمل أو يستقيم دون النظر للإجراءات بعيدة المدى، مثل الإيواء والتعويضات وإعادة الإعمار ومحاكمة المسؤولين عن أي إهمال أو تقصير أو فساد. ولذلك سيكون مدى القدرة على إنهاء الإعمار خلال عام واحد والشفافية في محاسبة المسؤولين أياً كانوا – وليس فقط بعض المقاولين – ضمن المعايير الأساسية لتقييم أداء الحكومة.

 

هل تؤجل الانتخابات؟

كما أن أحد أهم معالم التسييس هو إمكانية تأجيل الانتخابات، وهو أمر معقد من الناحيتين القانونية والسياسية فضلاً عن مسوغاته. ثمة من يرى بأنه لا يمكن إجراء حملات انتخابية وعملية اقتراع في المحافظات المنكوبة، حيث لا أبنية ولا مؤسسات ولا بيروقراطية حكومية فضلاً عن عدم مناسبة الأجواء العامة لذلك. لكن هناك أيضاً من يرى بأن الناخبين قد انتقلوا لمدن أخرى وبالتالي سيستخدمون حقهم في الاقتراع الذي سيكون معبراً عن تقييمهم لمن المسؤول عن أزمتهم.

قانونياً، تنص المادة 78 من الدستور على إمكانية تأجيل الانتخابات “في حال تعذر تنظيمها بسبب الحرب” وأناطت صلاحية ذلك بمجلس الشعب التركي الكبير (البرلمان) حصراً، ما يعني وفق نص المادة عدم إمكانية تأجيل الانتخابات بسبب الزلزال.

لكن تفسيرات المادة قد تختلف عن نصها المباشر، إذ يمكن ربط التسويغ بـ”تعذر تنظيمها” وليس فقط “الحرب”، وبالتالي يُذهب إلى أن الدمار الذي أحدثه الزلزال لا يقل فداحة عن آثار الحرب. ولعل مما يدعم فهماً كهذا تكرار مقارنة آثار الزلزال بقوة 500 قنبلة ذرية كما جاء على لسان أكثر من مسؤول.

ثم إن هناك إمكانية لتعديل الدستور وتشريع التأجيل في الكوارث الطبيعية الكبيرة، وفي كلتا الحالتين سيحتاج التحالف الحاكم للتوافق مع المعارضة أو بعض أحزابها إذ لا يملك الأغلبية التي تخوله تعديل المادة الدستورية. ولئن جاءت التعقيبات الأولى من حزب الشعب الجمهوري برفض التأجيل مطلقاً، ومن الحزب الجيد برفض التأجيل طويل المدى، إلا أن توافقاً على تأجيل قصير الأمد ما زال ممكناً. ذلك أنه إضافة للأبعاد الإنسانية ثمة بعد سياسي يرتبط بإيصال رسالة للمواطنين/الناخبين أن مأساتهم مقدمة لدى الأحزاب السياسية على مكاسب الانتخابات المفترضة.

وعليه، من المنطقي أن الزلزال وتبعاته سيكون الملف الأول والأهم على أجندة الإنتخابات المقبلة بغض النظر عن تاريخ إجرائها. وهنا ستتنافس لإقناع الناخبين سرديتان: ستقول المعارضة إن الحكومة قد تقاعست وأهملت وتسببت بالكارثة وعليها أن تدفع الثمن في صندوق الانتخابات، وستقول الحكومة إن الزلزال أكبر من قدرة أي حكومة أو دولة على مواجهته وإن المعارضة تحاول استغلال الكارثة لمكاسب سياسية.

وفي الخلاصة، فإن الزلزال الجيولوجي الذي حدث تسبب بزلزال سياسي بدأت بعض ملامحه في التبلور، حيث سيصبغ الحياة السياسية الداخلية بصبغته لفترة طويلة جداً، فضلاً عن تأثيراته على السياسة الخارجية التركية التي لم يتسع المقال لتناولها. ومن المؤكد أن الزلزال سيترك أثره بشكل واضح على نتائج الانتخابات المقبلة، بيد أنه من الصعب الجزم باتجاه هذا التأثير فضلاً عن درجته.

فإذا كان من المنطقي أن التداعيات الثقيلة للزلزال تضعف فرص أردوغان والعدالة والتنمية الذي يحكم منفرداً منذ عشرين سنة، فإن الحكم النهائي للناخب سيتأثر بالتأكيد بالإجراءات الحكومية المنتظرة من إيواء ودعم وتعويضات وإعادة إعمار فضلاً عن مدى اقتناع مختلف شرائح الشعب بإحدى السرديتين اللتين ستتنافسان بشراسة خلال الأشهر المقبلة.

شارك الموضوع :

اترك رداً