سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

محاكمة رئيس بلدية إسطنبول بين القانوني والسياسي

0

محاكمة رئيس بلدية إسطنبول بين القانوني والسياسي

الجزيرة نت

25 كانون الأول/ديسمبر 2022

 

أصدرت محكمة تركية حكماً بالسجن مدة سنتين و7 أشهر و15 يوماً مع الحرمان من الحقوق السياسية على رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو بتهمة إهانة القضاء، ما أثار جدلاً ما زال مستمراً حول تداخل السياسي مع القانوني في قضيته.

 

المسار القانوني

كانت الهيئة العليا للانتخابات في تركيا قد ألغت نتيجة انتخابات بلدية إسطنبول الكبرى في 2019 وقررت إعادتها بعد طعون تقدم بها حزب العدالة والتنمية الحاكم إثر فوز مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض أكرم إمام أوغلو. وقد أسفرت جولة الإعادة عن فوز إمام أوغلو برئاسة البلدية مرة أخرى، وبفارق كبير عن الفوز الذي كان حققه في الجولة الأولى وصل إلى حدود 800 ألف صوت عن مرشح الحزب الحاكم بن علي يلدرم.

في تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، وخلال مشاركته في مؤتمر الإدارات المحلية والإقليمية الأوروبية في ستراسبورغ، انتقد إمام أوغلو قرار إعادة الانتخابات قائلاً إنه أتى بضغط من حزب العدالة والتنمية لعدم تقبله الخسارة.

رداً على هذه الانتقادات، قال وزير الداخلية التركي سليمان صويلو موجهاً كلامه لإمام أوغلو “أقول للأحمق الذي ذهب للبرلمان الأوروبي وشكى تركيا إن هذا الشعب سيجعلك تدفع ثمن ذلك”. ورداً على هذا التصريح قال إمام أوغلو إن “من ألغوا الانتخابات هم الحمقى”، ففتح المدعي العام الجمهوري في إسطنبول تحقيقاً إثر شكوى تقدمت بها الهيئة العليا للانتخابات.

قانونياً، ما زال الحكم غير مؤكد ولا نهائي، ففي القضايا من هذا النوع التي يصدر الحكم فيها بالسجن لمدة تقل عن 5 سنين يحتاج الحكم لتأكيد المحاكم العليا، الاستئناف والنقض. ولذلك، فإن إمام أوغلو لن يدخل السجن ولن يمنع من ممارسة السياسية قبل استكمال الخطوات القانونية المرعية والتي قد تنتهي ما بعد الانتخابات المقبلة حتى، بما فيها استئناف محامي إمام أوغلو وكذلك استئناف المدعي العام الذي أعلن أنه سيعترض على الحكم ويطلب إعادة النظر فيه بسبب أخطاء لمسها في الحيثيات.

 

 

الأبعاد السياسية

بطبيعة الحال فإن الحكم الصادر له أبعادٌ وتداعيات سياسية واضحة إضافةً للوجه القانوني، ذلك أن إمام أوغلو شخصية سياسية معارضة، ورفعت عليه القضية بسبب تصريح متعلق بالانتخابات، وهو رئيس البلدية الكبرى والأهم في البلاد، وهو أحد المرشحين المحتملين لمنافسة أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة، كما أن حرمانه من حقوقه السياسية يعني إقصاءه عن رئاسة البلدية وعدم ترشحه للانتخابات الرئاسية.

اللافت أن طرفَيْ المعادلة السياسية في البلاد تبادلا بعد صدور الحكم الاتهامات بتسييس القضية، فادعت المعارضة أن الحكومة تستخدم القضاء سلاحاً ضد إمام أوغلو “انتقاماً” منه لهزيمته مرشح العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية، بينما قال محسوبون على المعارضة إن القرار هدف لسد الطريق أمام ترشح إمام أوغلو للرئاسة.

في المقابل، فقد حرص قياديون في الحزب الحاكم على رأسهم الرئيس أردوغان على التأكيد على أن الحكم ليس نهائياً ويمكن أن تلغيه المحاكم العليا، الاستئناف والنقض، متهمين إمام أوغلو والمعارضة عموماً باستغلال القرار لتحقيق مكاسب سياسية.

والحقيقة أن للقضية ثلاث زوايا سياسية قد تحضر معاً أو يحضر بعضها دون الآخر أو تتبادل الحضور حسب الظروف، كما أن – زوايا النظر السياسية – يمكن أن تحدد مآلات القضية سياسياً والإجابة على سؤال من الكاسب والمستفيد منها.

ففي المقام الأول، لا شك أن القضية لها تأثير سياسي مباشر على إمام أوغلو في حال ثبت الحكم عليه، حيث سيخسر منصبه في رئاسة البلدية وكذلك فرصته في الترشح لانتخابات الرئاسة. ولذلك فقد عدّت المعارضة وخصوصاً حزب الشعب الجمهوري الحُكْمَ “انتقاماً” من  أردوغان والعدالة والتنمية منه لهزيمته مرشحهم. كما أن المعارضة حرصت على عقد مقارنة بين إمام أوغلو وأردوغان، الذي كان سجن عام 1997 بسبب أبيات شعرية قالها، من زاوية أن الاثنين حوكما سياسياً على شيء قالوه وبهدف إعاقة مسارهما السياسي.

ومما يعزز هذه الفرضية لدى متبنّيها أن قطع الطريق على إمام أوغلو يعزز فرص ترشح كليتشدار أوغلو، الذي ينظر له أردوغان على أنه المرشح الأفضل بالنسبة له إذ فرصه أقل بوضوح من حظوظ الأول وإمكانية مهاجمته والإضرار به سياسياً في الحملة الانتخابية أكبر لعدة أسباب في مقدمتها خساراته المتعددة أمام أردوغان نفسه. ويعززها كذلك تصريح وزير الداخلية سليمان صويلو بأنه سيعزل إمام أوغلو عن رئاسة البلدية فوراً في حال ثبّتت المحكمة العليا الحكم عليه.

من زاوية ثانية، فقد أنعش قرار القضاء “طاولة الستة” المعارضة بعد أن تراجع حضورها خلال الشهور الفائتة إثر الخلافات التي تبدت فيما بين أعضائها بخصوص اسم المرشح التوافقي وغيرها من المواضيع إضافة لتحسن شعبية أردوغان والعدالة والتنمية في استطلاعات الرأي بشكل نسبي مؤخراً. ولذلك فقد حرص رؤساء الأحزاب الستة المعارضة على التواجد أمام مبنى بلدية إسطنبول مع المحتجين وعقد اجتماع لإطارهم السداسي في مقر إمام أوغلو وبحضوره كرسالة دعم، ومحاولة لالتقاط الفرصة لإعادة الزخم لها.

كما أحيى القرار فرص أكرم إمام أوغلو في الترشح للرئاسة بعد أن كان رئيس حزبه كليتشدار أوغلو قد أوصد الباب تماماً أمامه برغبته هو في الترشح وبما يملكه من صلاحيات داخل الحزب رغم معارضة الأحزاب الأخرى. وقد وصل الأمر بإمام أوغلو – وكذلك رئيس بلدية أنقرة منصور يافاش – أن يصرح علناً بأنه يدعم ترشح كليتشدار أوغلو للرئاسة، بما عُدَّ انتصاراً نهائياً للأول على الأخير.

أما بعد القرار فيعتقد كثيرين أن الزخم الشعبي الرافض له يصب في صالح إمام اوغلو وأن الحزب الحاكم رتب لذلك خوفاً من إمكانية فوزه. ولذلك فقد تعالت أصوات كثيرة محسوبة على المعارضة تنادي بضرورة ترشيحه هو مقابل أردوغان بعدِّه أقدر من رئيس حزبه على منافسة حقيقية وفرص الفوز، ومن المتوقع أن تعمل استطلاعات الرأي على تعزيز هذه الفكرة في المدى المنظور.

وثالثاً، فقد فعّل القرار الخلافات والاختلافات بين أعضاء طاولة الستة وعمّقها وفاقمها، فترك مشهد الوحدة والتضامن الأوّلي مكانه سريعاً للتلميحات والخلافات الضمنية والتراشقات المباشرة. ففي معرض اعتراضه على القرار قال رئيس حزب الشعب الجمهوري إنه “لا أحد يستطيع منع إمام أوغلو من خدمة أهل إسطنبول” في إشارة واضحة لرغبته ببقائه رئيساً للبلدية، وليس الترشح للرئاسة. الرد جاء على لسان رئيسة الحزب الجيد التي قالت إن من يدعم إمام أوغلو اليوم ليسوا فقط 16 مليوناً (عدد سكان إسطنبول) وإنما 85 مليوناً (عدد سكان تركيا) في إشارة لدعمها ترشحه للرئاسة، ما دفع كليتشدار أوغلو لتنبيهها ألا “تتدخل في شؤون حزبه الداخلية”.

لاحقاً دخل إمام أوغلو نفسه على خط هذه التراشقات قائلاً إنه “لاعب يمكن أن يدخل المباراة” قاصداً الترشح للانتخابات “إن قرر المدير الفني إلحاقه بها”، في إشارة لرغبته بالترشح وكذلك تراجعه الضمني عن تأييد رئيس حزبه كليتشدار أوغلو. ولذلك فقد تندّر الرئيس التركي على ما يحصل بين الشخصيات الثلاث على وجه الخصوص و”طاولة الستة” عموماً قائلاً إنهم يستخدمون القرار القضائي في “لعبة العروش”.

والنظر من هذه الزواية الأخيرة يقول إن القرار إذا كان سياسياً فقد لا يكون الهدف منه قطع الطريق على ترشح إمام أوغلو وإنما خلط الأوراق داخل معسكر المعارضة وإذكاء الخلافات القائمة بين الأحزاب والشخصيات القيادية فيه، وهو ما بدأت إرهاصاته فيما يبدو.

وعليه، فإن فرصة ترشح رئيس بلدية إسطنبول للانتخابات الرئاسية من زاوية قانونية مرتبطة بالقرار النهائي من محكمة النقض وتوقيت إعلانها الحكم. لكن الاعتبار السياسي يبدو أكثر حضوراً هنا، في إطار التنافس بين الحزب الحاكم والمعارضة وعلى صعيد الخلافات بين المعارضة على حد سواء.

ولعل القرار النهائي للقضاء قد يرجح كفة إحدى السرديات السياسية على سواها، فإن ثُبت الحكم وسُرِّعَ قبل موعد الانتخابات كانت فكرة قطع الطريق على إمام أوغلو أكثر حضوراً، بينما إذا أجِّلَ الحكم كثيراً أو أعلنت براءته ستكون فكرة إثارة البلبلة والخلافات بين صفوف المعارضة أكثر إقناعاً، في حال سلمنا بنظرية التسييس الكامل للقرار.

وبكل الأحوال فإن التقييم النهائي وحسابات الكاسب والخاسر سياسياً من القرار لن تتضح بشكل كامل إلا بانتهاء العملية الانتخابية، ذلك أن تأثير القرار على أصوات الناخبين هو الأهم في الحساب والتقييم بغض النظر ترشَّحَ إمام أوغلو أو غيره. ذلك أن “التصويت العقابي” بعد حدث سياسي ما أمر تكرر كثيراً في التاريخ السياسي الحديث لتركيا، عدةم رات لصالح العدالة والتنمية كما في 2002 وأزمة انتخاب رئيس الجمهورية في 2007 وبعد الانقلاب الفاشل في 2016، وضد العدالة والتنمية بعد قرار إلغاء نتيجة انتخابات بلدية إسطنبول الكبرى في 2019.

 

شارك الموضوع :

اترك رداً