سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

هرتسوغ في أنقرة: جدل التطبيع وآفاق المستقبل

0

هرتسوغ في أنقرة: جدل التطبيع وآفاق المستقبل

الجزيرة نت

 

بعد 14 عاماً من زيارة شمعون بيريز لتركيا في 2008، أجرى الرئيس “الإسرائيلي” إسحاق هرتسوغ زيارة لأنقرة وصفت بالتاريخية تلبية لدعوة من نظيره التركي، في ظل رغبة من الأخيرة بإنهاء حالة القطيعة الدبلوماسية بينهما منذ 2018 وتطوير العلاقات الثنائية ومسارات التعاون لا سيما فيما يتعلق بملف غاز شرق المتوسط.

 

سياق الزيارة

تسعى تركيا مؤخراً لتهدئة أزمات سياستها الخارجية وتدوير زوايا الخلاف وفتح قنوات التواصل مع عدد من الأطراف الإقليمية التي بقيت في حالة خصومة/تنافس معها على مدى السنوات السابقة، مثل مصر والإمارات والسعودية وبدرجة أقل أرمينيا. من ضمن أسباب هذا التوجه أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة بايدن وتطورات الصراعات الإقليمية ووضع الاقتصاد التركي وقرب انتخاب 2023 المصيرية.

بيد أن مسار التقارب مع “إسرائيل”، وإن اشترك في هذه الأسباب العامة، يختص بدوافع إضافية في مقدمتها اثنان، ملف غاز شرق المتوسط والعلاقات مع الولايات المتحدة. ذلك أن أنقرة تنظر عادة للعلاقات مع تل أبيب على أنها أحد أهم مدخلات علاقاتها  المتوترة عادة  مع واشنطن، وتسعى للتقارب مع الأولى لترطيب الأجواء مع الثانية.

ولكن يبقى ملف الغاز الأهم في كل ما سبق، فهو يقع في قلب حسابات الأمن القومي التركي، من زاوية أمن الطاقة ورفد الاقتصاد وكذلك من جهة التنافس الجيوسياسي في المنطقة ولا سيما مع الخصم التاريخي التقليدي اليونان.

فقد تشكل محور إقليمي تقوده الأخيرة في مواجهة تركيا وحقوقها في شرق المتوسط، تشارك به قبرص اليونانية ومصر ودولة الاحتلال وتدعمه الإمارات وفرنسا تحت لافتة “منتدى غاز شرق المتوسط”. وتسعى أنقرة في المقام الأول لخلخلة هذا التحالف وإضعافه من خلال محاولة جذب بعض أطرافه نحوها، مثل مصر أو “إسرائيل” إضافة للتقارب مع الإمارات.

أبدت تركيا رغبتها في تطوير العلاقات منذ بداية 2020 وكانت على وشك تعيين سفير جديد في تل أبيب لكن المسار تعثر في حينها، ثم عاد للنشاط بعد خسارة نتنياهو للانتخابات وكذلك فوز هرتسوغ بالرئاسة، حيث كان الأخير هو بوابة التواصل مع أنقرة من خلال عدة اتصالات هاتفية مع أردوغان. كما أنعشَ آمالَ تركيا بإمكانية التعاون مع “إسرائيل” في ملف الغاز سحبُ الولايات المتحدة دعمها لمشروع “إيست ميد” للغاز بين “إسرائيل” واليونان وتجميدُ بعض الشركات الأمريكية والفرنسية أنشطة التنقيب في مناطق متنازع عليها بين تركيا واليونان.

 

جدل التطبيع

أثارت الزيارة جدلاً كبيراً في العالم العربي بطبيعة الحال، وكان ملاحظاً غلبة الترحيب فيها في الإعلام التركي مقابل التشكك في الإعلام العبري. ولعل الجدل الأكبر كان عربياً مرة أخرى، بين منتقد للزيارة من باب رفض التطبيع مع الاحتلال ومواقف تركيا من القضية الفلسطينية ومن يرى لها العذر من باب الاضطرار وسابق العلاقات بين الجانبين.

قد لا ينطبق مصطلح “التطبيع” بشكل حرفي ودقيق على الزيارة إذ هو يحيل على إنشاء علاقات “طبيعية” مع دولة الاحتلال فيما الأساس مقاطعتها، بينما العلاقات بين الطرفين بدأت بُعيد النكبة ثم مرت في حالات تقدم وتراجع لا سيما في عهد أردوغان والعدالة والتنمية، كما أن سحب السفراء في 2018 لم يكن قطيعة تامة إذ استمرت العلاقات الدبلوماسية بسقف متدنٍ بينما تنامت العلاقات الاقتصادية والتجارية على مدى السنوات الماضية.

لكن، كما أن تراجع العلاقات في 2010 و2018 لم يمنعه تاريخ العلاقات وحُسِب لتركيا والعدالة والتنمية، فإن عودة العلاقات أيضاً (في 2016 ثم المسار الحالي) لا تُعزى بالكلية لهذا التاريخ السابق وبالتالي يفترض أن تُحسب عليهما. كما أن ذلك لا يعني إعفاء استقبال هرتسوغ من النقد والرفض، فما جرى هو إعادة ضخ الدماء في العلاقات المجمدة بين الجانبين منذ 2018 ورغبة في التعاون وتطوير مساراته وخصوصاً في مجال الغاز، وهو أمر يشكل حرجاً لأردوغان وتركيا من عدة زوايا.

فهو في المقام الأول تطوير للعلاقات مع دولة الاحتلال، وكل تطوير لعلاقات أي طرف معها (كما التطبيع) يضفي عليها مزيداً من “المشروعية” وكذلك هو عامل قوة إضافي لها، ولطالما كان الاحتلال أشرس ضد الفلسطينيين في أعقاب كل “إنجاز” في مجال التطبيع مع دول العالمين العربي والإسلامي.

كما أن حرج تركيا يزداد بالنظر إلى أنها أدانت بشدة تطبيع الإمارات والبحرين مع الاحتلال في آب/أغسطس 2020 وعدَّته “خيانة لحقوق الشعب الفلسطيني”، وقال الرئيس التركي حينها أن بلاده تفكر في إغلاق سفارتها في أبو ظبي رداً على اتفاق تطبيع العلاقات.

وأخيراً، فقد كان وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، وعلى هامش الانتخابات “الإسرائيلية” في حزيران/يونيو 2021 قد ذكر شروطاً خمسة لبلاده لتطوير العلاقات مع “الحكومة  القادمة أياً كانت” هي وقف الاعتداءات على الفلسطينيين، والتراجع عن الخطوات التي تستنزف حل الدولتين، والعودة إلى مباحثات السلام، ووقف بناء المستوطنات غير الشرعية وسلب الأراضي الفلسطينية، والكف عن إجراءات تغيير الوضع القائم في القدس. ومن الواضح أن أنقرة ذهبت للزيارة وفتحِ باب تطوير العلاقات قبل أن تتحقق أيٌّ من هذه الشروط الخمسة.

 

عقبات حقيقية

يشير كل ما سبق إلى أن رغبة تركيا في تحسين العلاقات تفوق رغبة الطرف الآخر بل تبدو متحمسة ومستعجلة على ذلك، وهذه هي القراءة “الإسرائيلية” للموقف التركي بما يشعر تل أبيب أنها أقدر على التمهل والمماطلة وفرض الشروط وانتظار التنازلات.

وإن كان من المستبعد أن يطرأ تغير جوهري على موقف تركيا من القضية الفلسطينية في عمومها، وخصوصاً ما يتعلق بمدينة القدس والمسجد الأقصى، إلا أن علاقاتها مع بعض الأطراف الفلسطينية وخصوصاً حركة حماس تقع في قلب الشروط “الإسرائيلية” لتطوير العلاقات معها، ما يعني إمكانية حدوث متغيرات بخصوصها بهذه الدرجة أو تلك.

يمثل ملف غاز المتوسط دافعاً أساسياً لمسار التقارب المنشود، كما أن هناك بعض الملفات الإقليمية التي يمكن أن تشكل مسارات تعاون بين الجانبين أو دافعاً لذلك أو تتقارب فيها المواقف مثل سوريا وإيران والعلاقات مع واشنطن والحرب الروسية – الأوكرانية مؤخراً، إلا أن هناك عقبات جدية ماثلة أمام هذا المسار.

ففي المقام الأول، ما زالت تل أبيب متشككة في نوايا الرئيس التركي وحكومته وترى أن دوافعه للتقارب معها تكتيكية تتعلق أساساً بالانتخابات المقبلة ولا تعبر عن أي تغير في موقفه منها، ما يقلل من اندافعها وحماستها للأمر.

كما أن ما يرشح من تقارير وتحليلات في الإعلام يشي بأن معظم المؤسسات “الإسرائيلية” ما زالت متحفظة على هذا المسار، على الأقل في ظل أردوغان، ولذلك فقد جاءت الزيارة لهرتسوغ الذي يشغل منصباً أقرب للشرفي وليس من رئيس الحكومة أو وزير الخارجية مثلاً.

كما أنه لم يطرأ حتى اللحظة ولا يتوقع أن يطرأ قريباً تغير جوهري على رؤى ومواقف الجانبين من مختلف قضايا المنطقة، ما يحد من سقف التفاهم ثم التعاون بينهما. فمن غير المستبعد أن يعود التوتر ليحكم العلاقة بينهما في أول عدوان من الاحتلال على غزة أو القدس والأقصى، وإن كان الأخير يعوّل على تراجع نبرة تركيا تجاه ممارساته حرصاً على عدم تفجير المسار في بداياته.

الأهم، أنه لا يوجد أي مؤشر على نية “إسرائيل” إحداث أي تغيير في منظومة علاقاتها وتحالفاتها في المنطقة، بل كانت حريصة على طمأنة اليونان تحديداً بأن الزيارة أو أي تقارب محتمل في المستقبل مع أنقرة لن يكون على حسابها أو يضر بمصالحها.

ويعني ذلك بشكل مباشر أنه من المستبعد أن تقبل تل أبيب بأنقرة بديلاً عن أثينا (والقاهرة) في ملف الطاقة، الذي هو الدافع الرئيس بالنسبة لتركيا نحو تطوير العلاقات معها. كما أن جدوى مشاريع نقل الغاز “الإسرائيلي” عبر تركيا إلى أوروبا والعالم محط جدل وتشكيك اقتصادي وسياسي وكثيرون يرونه مشروعاً خيالياً أو رغبوياً لا أكثر، فضلاً عن المشاكل القانونية والسياسية إذ أن ما يعدُّ “غازاً إسرائيلياً” هو في الأصل غاز فلسطيني ولبناني.

وعليه، يبدو أن الزيارة تمثل خطوة أولى محتملة – لا أكثر – في مسار تهدئة ثم تقارب بين أنقرة وتل أبيب، وهو مسار دونه عقبات حقيقية لا تشجع على رفع سقف التوقعات منه على الأقل في المدى المنظور، فضلاً عن أن سيناريو التحالف الذي كان قائماً في تسعينات القرن الماضي لم يعد ضمن المحتمل أو المأمول حتى “إسرائيلياً”.

ولعل كل ما حصل حتى اللحظة هو زيارة رمزية وصورة أفادت تل أبيب أكثر مما أفادت أنقرة، ومن المحتمل أن يتبع ذلك خطوة تبادل السفراء مجدداً، بينما نتائج ومآلات هذا المسار المستقبلية محكومة بعدة ظروف في مقدمتها مدى استعداد الجانبين لتقديم استحقاقات أو “تنازلات” المسار المطلوبة من الطرف الآخر.

شارك الموضوع :

اترك رداً