سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

أوكرانيا: حرب تَغيُّرِ الرهانات وتبدل الحسابات

0

أوكرانيا: حرب تَغيُّرِ الرهانات وتبدل الحسابات

عربي 21
تُعدُّ الحرب الأخيرة التي شنتها روسيا على أوكرانيا تصديقاً مباشراً ونموذجاً مثالياً لمقولة إن “الحرب هي ممارسة السياسة بوسائل أخرى”، المنسوبة لأحد المنظّرين الألمان. ذلك أن بوتين بدأ الغزو بعد أن يئس من الحصول على الضمانات الأمنية التي طلبها من الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي (الناتو).

فقد كانت روسيا، وخلال حشدها عشرات الآلاف من جنودها على حدود أوكرانيا، طالبت حلف الناتو بتقديم ضمانات أمنية لها متعلقة بعدم ضم أوكرانيا (وجورجيا) للحلف، وسحب بعض الأسلحة ولا سيما المنظومات الصاروخية من شرق أوروبا.. الخ. ولما عاد الرد الأمريكي/ الأطلسي بدون هذا الالتزام الصريح بها، كان الخيار الروسي عسكرياً ومتجاوزاً التوقعات بعملية عسكرية محدودة في شرق أوكرانيا.

هذه الأهداف التي سعت لها روسيا كان يمكن تحقيقها عبر عدة خيارات أو سيناريوهات. بالتأكيد فإن ما كانت تفضله موسكو هو الوصول لصفقة واتفاق شامل مع الولايات المتحدة والناتو على تلك الضمانات، فذلك أوثق وأكثر ضمانة وأطول زمناً، أيضاً أقل كلفة.

أما وأن ذلك السيناريو لم ينجح، كان أمام بوتين مروحة من الخيارات، مثل – بالترتيب المتدرج – المراهنة على تغيير النظام في أوكرانيا بانقلاب أو ثورة أو غير ذلك تحت ضغط الحشود العسكرية والتهديدات، أو تنصيب نظام موالٍ لروسيا من خلال التدخل المباشر، أو الاعتراف باستقلال إقليم دونباس في الشرق، أو احتلاله/ ضمه، أو شن حرب شاملة على كامل أراضي أوكرانيا. هذا الخيار الأخير، وإن كان لا يحقق هدف روسيا الرئيس بإبعاد الناتو عن حدودها إذ ستتمدد هي هذه المرة بقواتها غرباً حتى حدوده، لكنه يضمن لها أمن حدودها وأراضيها أكثر.

ولهذا، فقد كانت الحرب الروسية- الأوكرانية منذ البداية أزمة رهانات ورهانات مقابلة، وهي رهانات متقلبة ومتغيرة بشكل مستمر.

الرهان الرئيس من قبل موسكو، قبل التصعيد، أن الناتو لا يريد ولا يستطيع قتالها في جوارها القريب، مقابل رهان الناتو على أن روسيا لن تستطيع الصمود أمام عقوبات اقتصادية حقيقية وعميقة وشاملة. وبناء على هذين الرهانين كان ثمة توقع بإمكانية كبيرة لتجنب تفاقم الأزمة وتحولها لصدام عسكري.

مع الساعات الأولى لتدخل روسيا عسكرياً في أوكرانيا، راهنت الأولى على عنصر المفاجأة والصدمة لكسر النظام وتقويض مقومات صموده، وبالتالي رضوخه لمطالبها وشروطها، بينما راهنت الثانية على امتصاص الصدمة الأولى والصمود لإطالة أمد المعركة وفرض شروط مختلفة/ أفضل للتفاوض.

اليوم، وبعد أيام عديدة على نشوب الحرب واتساع رقعتها جغرافياً ومع صمود أوكرانيا، تراهن الأخيرة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلف الناتو على إمكانية استنزاف روسيا وإشغالها وإضعافها على المدى البعيد، بينما تراهن موسكو على معركة تفرض تغيراً ملموساً على النظام الدولي القائم ونظرة الغرب لها وتعامله معها.

ومع مرور الوقت، ولا سيما مع تجنّد أوروبا خلف قرارات العقوبات بخصوص روسيا في مختلف المجالات، إلى جانب دعم أوكرانيا، بات المسار محكوماً إلى حد كبير بردات الفعل المتبادلة من الطرفين، وهذا يعني أن الحرب مفتوحة على سيناريوهات كثيرة من بينها سيناريوهات كارثية لا يرغبها أحد لكنها تبقى ضمن الاحتمالات القائمة.

وفق المشهد الحالي، بدأت روسيا الحرب لكنها لم تحقق ما تصبو إليه منها حتى اللحظة، ولم يكن حلف الناتو يريد الحرب لكنه وجد نفسه أمام حقيقتها، والطرفان حتى اللحظة خاسران بدرجة أو بأخرى من مجرد اشتعالها، بغض النظر عن مآلاتها النهائية. ولذا، سيحتاج الجانبان إلى سيناريو للنزول عن الشجرة لا سيما روسيا. هنا، ستراهن الأخيرة على قوة التدمير ورفع وتيرة الخسائر في الطرف الآخر، بينما سيراهن الناتو والاتحاد الأوروبي على الصعوبات التي ستواجه موسكو (لا سيما الاقتصادية) وعزلتها على الساحة الدولية. وهي، مرة أخرى، رهانات قابلة للتبدل وفق تغير الحسابات والتقييمات مستقبلاً.

وسيبقى، على المدى البعيد، السؤال المطروح بخصوص هذه الحرب الاستثنائية هو: هل تفاجأ الغرب فعلاً بإطلاق روسيا حرباً شاملة ضد أوكرانيا واضطر لنصرة الأخيرة ودعمها بعد إثباتها نفسها تحدياً وصموداً بعد أن كان قد تركها لمصيرها؟ أم إنه قد نسج الفخ منذ البداية لبوتين متظاهراً بعدم المبالاة بخصوص مصير كييف تحضيراً لاستنزافه؟

شارك الموضوع :

اترك رداً