سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

ما الذي يمنع التقارب التركي – السعودي؟

0

ما الذي يمنع التقارب التركي – السعودي؟

الجزيرة نت

فُهمت تصريحات الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين بخصوص علاقات بلاده مع المملكة العربية السعودية كإشارة على مرحلة جديدة تريدها تركيا، خصوصاً وأنها تضمنت تراجعاً ضمنياً عن بعض المواقف السابقة إزاءها.

إلا أن صمت الرياض وعدم تفاعلها مع التصريحات ثم قرارها إغلاق عدد من المدارس التركية على أراضيها عُدَّت إشارات مباشرة على عدم حماستها للتقارب مع أنقرة وعلى أن تطور العلاقات معها دونه عقبات حقيقية.

 

دوافع التقارب

مسار التقارب التركي – السعودي المحتمل ليس استثناءً في المنطقة، فالأخيرة تشهد حراكاً دبلوماسياً حثيثاً في الآونة الأخيرة، وتصريحات ولقاءات وحوارات بين عدة دول، تركيا – مصر والسعودية – إيران بل وتركيا – الإمارات وغيرها، ما يؤكد على أن رغبة التقارب ليست محصورة بأنقرة، وأن دوافعه حاضرة لدى الجميع.

في مقدمة تلك الأسباب الإدارةُ الأمريكية الجديدة، بما يشمل انتهاء حقبة التعامل مع الملفات والأطراف الإقليمية على طريقة ترمب، وكذلك توجهات جو بايدن التي أثارت قلق عدد من القوى الإقليمية وفي مقدمتها تركيا والسعودية ومصر.

وهناك الأزمات العديدة التي استنزفت هذه القوى على مدى السنوات الأخيرة دون أن تنتهي بشكل كامل يمكن عَدُّه انتصاراً من جهة، وتراجُعُ حدَّةِ المواجهات العسكرية فيها من جهة أخرى، بما خفّض من مستوى الاستقطاب ومهّد الطريق لإمكانية الحوار.

كما أن هذا الاستنزاف استغلته أطراف أخرى وسجلت نقاطاً مهمة في نطاق التنافس الجيوسياسي، مثل اليونان وإثيوبيا بالنسبة لكل من تركيا ومصر، فضلاً عن “إسرائيل” التي كانت أكبر المستثمرين في الحقبة السابقة من خلال التطبيع مع عدد من الدول العربية ونقل التعاون معها لمستويات أعلى وأخطر.

وأخيراً، ولعله الأهم، أن حدة الاستقطاب في المنطقة في تراجع نسبي وتدريجي في السنوات الأخيرة مع مرور سنين على محطات مهمة في مسار الثورات والثورات المضادة. فالاستقطاب والاصطفافات هما السبب الرئيس للخلاف والصراع بين القوى الإقليمية، بينما المصالح تجمع بين هذه الدول أكثر مما تفرق بينها بكثير لو رُسِمَتْ السياسات بناء عليها.

وإضافة لكل سبق، تنفرد تركيا بأسباب خاصة بها تدفعها لتطبيع العلاقات، مثل الأوضاع الاقتصادية المتأثرة بجائحة كورونا، وقرب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وأهمية هذا الاستحقاق لحزب العدالة والتنمية. وكذلك حصاد 2020 الذي انخرطت خلاله في عدة قضايا ونزاعات بشكل متزامن وتريد هذا العام تحويله لمكاسب سياسية ودبلوماسية لا سيما بعد الاختراقات التي حققتها في كل من ليبيا والقوقاز على وجه التحديد.

 

الاستثناء

كان انقلاب الثالث من يتموز/يوليو 2013 محطة فارقة في علاقات تركيا مع عدد من الدول العربية، في مقدمتها مصر بطبيعة الحال وأكبر داعميها بعد الانقلاب السعودية والإمارات. كان الموقف التركي حاداً جداً من النظام الجديد في القاهرة، ووضعت تطورات لاحقة عديدة أنقرة وأبو ظبي على طرفي نقيض، إلا أن النظرة التركية للسعودية بقيت مختلفة، وكأن هناك استثناءً ما في التعامل معها وحرصاً شديداً على عدم تأزم العلاقات معها.

كان ذلك واضحاً ما قبل ذلك، من خلال مسار التعاون في سوريا والذي اضطرب لاحقاً، وتكرر في عدة أحداث ومواقف، لا سيما على لسان الرئيس التركي. ففي حادثة وقوع الرافعة في الحرم المكي الشريف عام 2015، والتي ارتقى فيها أكثر من 100 حاجّ وتسببت بانتقادات واسعة للسعودية، دافع أردوغان بشدة عن جهودها في خدمة الحجيج والأماكن المقدسة.

وفي قمم منظمة التعاون الإسلامي التي استضافتها تركيا خلال رئاستها الدورية لها، كان احتفاء الرئيس التركي بالملك السعودية لافتاً للأنظار، بما في ذلك كسر البروتوكول بإلقاء الملك كلمة في افتتاحها.

حتى في الأزمة الخليجية، التي وقفت فيها بوضوح وعلانية إلى جانب قطر، لم يكن موقف تركيا موجهاً ضد السعودية، بل كان الخطاب الرسمي التركي يتحدث عنها بصفة “الشقيقة الكبرى” لدول الخليج التي يمكن لها حل المشكلة، كما أن أردوغان زار الرياض في تلك الفترة أكثر مما زار الدوحة.

حتى في قضية اغتيال الإعلامي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، والتي وضعت البلدين في مواجهة غير مباشرة، فقد تجنبت السلطات التركية توجيه الاتهام لأي شخص باسمه في القضية، مكتفية بالمطالبة بكشف جميع تفاصيل القضية، وهو الموقف السعودي الرسمي نفسه. بينما كان الاسم الوحيد الذي ذكره أردوغان هو اسم العاهل السعودي تنزيهاً له أن يكون على علم أو علاقة بالجريمة.

كان أكثر ما انتقدته أنقرة عدم تعاون الرياض مع تحقيقها، ثم الأحكام التي صدرت على المتهمين والتي خففت لاحقاً من الإعدام للسجن. بيد أن تصريحات كالين الأخيرة حملت تراجعاً تركياً عن هذا الموقف أيضاً، حين أكد “احترام بلاده لقرارات المحكمة السعودية”، وهو مؤشر هام على مدى جديتها في الرغبة في فتح صفحة جديدة  مع الرياض.

هذه الرغبة الجادة تتأكد أكثر من خلال إحصاءات حجم التبادل التجاري بين الجانبين. ففي ظل مقاطعة سعودية للبضائع التركية، التي من الصعب الاقتناع بأنها “شعبية” خالصة (كما أطلق عليها) ولا ارتباط لها بصانع القرار، ثمة حرص واضح من جانب تركيا على تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية. إذ أنه بالمقارنة بين الربع الأخير من عام 2020 بمثيله من 2019، فقد تراجع حجم الواردات السعودية من تركيا من 583 إلى 145 مليون دولار، مقابل ارتفاع الواردات التركية من السعودية من 441 إلى 722 مليون دولار.

 

مصالح وعقبات

على عكس ما يتردد في بعض الأوساط، ليس ثمة تناقض كبير في المصالح بين الدولتين الإقليميتين. ذلك أنه إضافة للمصالح الاقتصادية والتجارية الواضحة، ليس هناك في مجمل توجهات السياسة الخارجية التركية، وفي مقدمتها ليبيا وشرق المتوسط والعراق والقضية الفلسطينية والقوقاز، ما يضر بمصالح الرياض، بل لعل في بعضها مصلحة ضمنية أو غير مباشرة لها أو توافق مفترض في المواقف بينهما.

وأما ما يتعلق بإيران، فإن تركيا هي الموازن الإقليمي الأوضح لها في حال كان احتواؤها أو تجنب تهديدها ركناً رئيساً للسياسة الخارجية السعودية، وهو ما يزيد من غرابة الإصرار على توتير الأجواء مع أنقرة.

وأما في الملف السوري، فإن الموقف التركي وإن اختلف عن السعودي – لا سيما إذا ما صحت توقعات انفتاح الأخير على نظام الأسد – إلا أنه لا يحمل تهديداً مباشراً للمصالح السعودية. على العكس تماماً من ذلك، ترى أنقرة أن الأخيرة تضر بأمنها القومي من خلال دخولها على خط دعم و/أو تمويل بعض المجموعات شمال شرق سوريا.

حسناً، إذا ما كانت المصالح في عمومها تجمع بين الطرفين أكثر مما تفرقهما، فلماذا تأخر مسار التقارب بين الجانبين، بالمقارنة مع مصر مثلاً؟ ولماذا قوبلت التصريحات التركية بالصمت ثم بقرار إغلاق المدارس حيث بدا وكأن اليد التركية الممدودة بقيت فارغة؟ ولماذا بقيت تصريحات ولي العهد السعودي عن العلاقة المتينة بين البلدين وقيادتهما بدون ترجمة عملية؟

في المقام الأول، يمكن رؤية الأمر في إطار التفاوض بين الجانبين، إذ ثمة انطباع بأن أنقرة أكثر حرصاً على التقارب أو أكثر اضطراراً له، ما يعني أن التريث والتحفظ قد يأتيان بمكاسب أكبر للرياض من التفاعل الإيجابي.

وهناك بالتأكيد ما يتعلق بتسويق الأمر أمام الجبهة الداخلية وبعض الأطراف الخارجية، بإظهار أن أنقرة هي من تريد المصالحة وتصر عليها فيما الرياض تتمنع، وهو أمر شبيه بمسار التقارب بين تركيا ومصر حتى اللحظة.

كما يمكن رؤية الأمر من زاوية “عقاب” تركيا على مواقفها السابقة، إن كان من الثورات العربية أو الأزمة الخليجية أو ملف قتل خاشقجي تحديداً. ويضاف لكل ذلك افتراض أن “تأثير بايدن” في الملفات والعلاقات الإقليمية قد يكون مؤقتاً وعابراً، بما لا يغري بالاندفاع إلى مصالحات كاملة أو انقلابات جذرية في السياسة الخارجية.

مؤخراً، أعلن عن اتصال هاتفي جمع بين الرئيس التركي والملك السعودي، وتحدثت تقارير عن زيارة سيقوم بها للرياض وزيرُ الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو خلال أيام، فهل يضخ ذلك دماً جديداً في أوصال العلاقات بين البلدين؟

من الصعب الجزم بتوقع ما، لكن يمكن القول إن تحكيم العقل السياسي بترجيح المصالح الجوهرية المشتركة كفيل بفتح صفحة جديدة بين البلدين، أما في حال غياب الواقعية السياسية والمراوحة في مربع الاستقطاب والاصطفافات السابقة فسيبقى الحال على ما هو عليه دون تغيير ملموس بينهما في المدى المنظور.

شارك الموضوع :

اترك رداً