سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

الانعطافة الثانية للسياسة الخارجية التركية

0

الانعطافة الثانية للسياسة الخارجية التركية

عربي 21

أثارت التصريحات التي أدلى بها الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين قبل يومين لوكالة رويترز عن علاقات بلاده بكل من مصر والمملكة العربية السعودية اهتماماً وجدلاً كبيرين. فقد تحدث كالين عن مستقبل علاقات بلاده مع مصر وتأثير تحسُّنها المتوقع على الملف الليبي إيجاباً، وكذلك عن الوفد الرسمي الذي سيزور القاهرة قريباً.

وإذا كان كل ذلك متوقعاً وسبقته عدة إشارات وإرهاصات، فقد كانت تصريحاته بخصوص السعودية مفاجئة في بعض تفاصيلها. ذلك أنه إضافة لرغبة بلاده في تحسين العلاقات معها، فقد عبّر الناطق باسم الرئاسة عن “أمله” في وقف الرياض المقاطعة الاقتصادية لبلاده، وعن “احترام” تركيا لقرارات المحكمة السعودية الخاصة بمقتل الإعلامي السعودي جمال خاشقجي، الذي قضى اغتيالاً في قنصلية بلاده في إسطنبول.

والمفاجئ في الأمر أن موقف أنقرة من المحاكمات السعودية كان مختلفاً جداً سابقاً. فقد علق الناطق باسم وزارة خارجيتها حامي أكصوي على القرارات الأولية للمحكمة في كانون الأول/ديسمبر 2019 بالقول إنها “بعيدة جداً عن تلبية توقعات تركيا والمجتمع الدولي”، متحدثاً عن تفاصيل تُرِكت مجهولة مثل مصير الجثة ومدى وجود متعاونين محليين، والتي هي “نقص أساسي يحول دون تجلّي العدالة ومبدأ المسؤولية/المساءلة”. وقد دعا أكصوي الرياض للتعاون مع التحقيق التركي، عادّاً معاقبة كل من له علاقة بالجريمة – تنفيذاً أو تحريضاً – مسؤولية قانونية وأخلاقية.

هذا الموقف نفسه كرره رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة فخرالدين ألتون تعقيباً على الأحكام النهائية التي صدرت في أيلول/سبتمبر 2020، والتي خفضت أحكام الإعدام للسجن، متحدثاً عن تفاصيل بقيت مبهمة “تثير الشكوك حول مصداقية الإجراءات القانونية التي اتخذتها السعودية”، وقائلاً إن تسليط بلاده الضوء على الجريمة “التزام قانوني وأخلاقي” لضمان “عدم تكرار ارتكاب فظائع مشابهة مستقبلاً”.

هذه المتغيرات تبدو متناغمة مع تطورات أخرى اتضحت منذ بداية العام الحالي، مثل التهدئة مع الولايات المتحدة الأمريكية والخطاب الودي مع الاتحاد الأوروبي وكذلك عودة اللقاءات الاستكشافية مع اليونان وتخفيض التصعيد في شرق المتوسط، بما يضعنا أمام انعطافة ثانية للسياسة الخارجية التركية في السنوات القليلة الأخيرة.

الانعطافة الأولى كانت عام 2016 بعد سنوات من المواقف الحادة والحديث عن “العزلة القيّمة” التي عانت منها تركيا بسبب مواقفها. فقد سبق هذا العام عدة أزمات وتطورات داخلية وخارجية (توّجت لاحقاً بالمحاولة الانقلابية الفاشلة) دفعت أنقرة لتعديل دفة سياستها الخارجية ورفع شعار “تكثير عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم” مع مجيء حكومة بن علي يلدرم. حينها حسّنت تركيا علاقاتها مع روسيا بعد أزمة إسقاط المقاتلة سوخوي، ووقعت اتفاق تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني بعد ست سنوات من القطيعة الدبلوماسية، وعاد السفير الإماراتي إلى أنقرة، وكان يمكن أن يستمر نفس النسق مع مصر والسعودية لولا بعض التطورات الإقليمية التي حالت دون ذلك في حينه على غير رغبة أنقرة.

أما الانعطافة الحالية فهي أقل حدّة وسرعة، وتبدو تركيا فيها مبادِرة ومختارة أكثر منها مضطرة كما في السابقة، ويقف خلفها خمسة أسباب رئيسة:

الأول، انتخاب بايدن. ليس سراً أن الرئيس الجديد للولايات المتحدة لا يحمل كثير ود لأردوغان وبلاده، وقد استهل رئاسته بوضع صفقة إس-400 عقبة أمام العلاقات الثنائية، وإخراج تركيا نهائياً من مشروع مقاتلات إف-35، ووصف أحداث 1915 على أنها “إبادة جماعية” للأرمن على يدي الدولة العثمانية، مع جفاء واضح تمثل بتأخير التواصل الهاتفي مع أردوغان حتى عشية هذا الاعتراف.

تغيُّرُ ساكن البيت الأبيض دفع عدة قوى إقليمية إلى مراجعة بعض حساباتها ومواقفها، ومن بينها تركيا التي تسعى لتدوير زوايا الخلاف مع قوى إقليمية أخرى وكسر عزلتها وتفكيك المحاور المواجهة لها.

الثاني، حصاد 2020. انخرطت تركيا العام الفائت في عدة نزاعات بشكل مباشر أو غير مباشر، محققة اختراقات عسكرية في كل من ليبيا والقوقاز، وهي تريد الآن استثمار ذلك سياسياً بما يعزز من حضورها ونفوذها وأدوارها في المنطقة.

الثالث، الاقتصاد. يعاني الاقتصاد التركي مثل باقي اقتصادات الدول النامية بسبب جائحة كورونا، ويزيد من معاناته أنه لم يكن قد تعافى تماماً من أزمة 2018 المالية الاقتصادية، وبالتالي ثمة رغبة تركية واضحة بكسر العزلة التركية وتنشيط ماكينة السياحة والتجارة الخارجية. ولعل ذلك من أهم أسباب توددها للسعودية التي كان أعلِنَ فيها عن “مقاطعة شعبية” للبضائع التركية (من الصعب فهمها بعيداً عن توجهات صانع القرار) واتخذت بعض القرارات أو الإجراءات الضارة بصادراتها.

الرابع، انتخابات 2023. يستعد العدالة والتنمية بقيادة أردوغان منذ الآن لانتخابات 2023 الرئاسية والبرلمانية، أو ربما قبل ذلك إن بُكّرت، ويعلم أنها ستكون أصعب من سابقاتها لأسباب كثيرة في مقدمتها الأحزاب الجديدة المنشقة عنه وجائحة كورونا والأوضاع الاقتصادية. ولذلك فهو يسعى لتخفيف الضغوط الخارجية وحدّة الأزمات التي تواجهها البلاد، بما ينعكس إيجاباً على الاقتصاد وبالتالي على دخل المواطن التركي.

الخامس، شرق المتوسط. يتربع ملف شرق المتوسط مؤخراً على رأس أولويات السياسية الخارجية لتركيا، وتبدو الأخيرة فيه وحيدة باستثناء الاتفاق الذي وقعته مع حكومة الوفاق الوطني في ليبيا. ولذلك فهي تسعى من جهة لتوقيع اتفاقات مماثلة مع أطراف أخرى في مقدمتها مصر، وإلى خلخلة التحالف المناوئ لها فيه قدر الإمكان، وإلى تهدئة بعض الملفات الخارجية للتركيز عليه والتفرغ له أكثر.

في الخلاصة، مرت السياسة الخارجية التركية منذ نهاية الحرب الباردة وتحديداً منذ تسلم العدالة والتنمية للحكم في 2002 لعدة تغيرات، تأثراً بعوامل داخلية وخارجية، إلا أن السنوات القليلة الأخيرة قد شهدت انعطافتين مهمتين باتجاه التراجع عن بعض المواقف الحادة السابقة وبالتالي التهدئة وتدوير زوايا الخلاف مع عدد من الأطراف الإقليمية الفاعلة.

وفي العموم، يبدو أن الخطاب التركي الإيجابي بخصوص القاهرة والرياض يعبر عن توجه حقيقي نابع من قناعة بضرورة التغيير والتقارب أو على أقل تقدير تخفيف حدة الخلاف معهما، بما يمثلانه عربياً وإقليمياً من الناحيتين السياسية والاقتصادية. ويبدو أن هذا التوجه قد تبلور في خطوات عملية، استجابت معها القاهرة بأسرع من الرياض حتى تاريخه. لكن السؤال الأهم هو إلى مدى سيكون هناك تجاوب من الطرف الآخر مع المساعي التركية، وخصوصاً ما يتعلق بالسعودية.

ذلك أن العلاقات مع مصر قد مرت بعدة مراحل وصلت حد التواصل الدبلوماسي والزيارات، بينما تغيب حتى اللحظة أي إشارات حقيقية على تغير ملموس في موقف الرياض، رغم أن أحد أهم الملفات الخلافية مع تركيا – وهو الأزمة الخليجية – قد حُلَّ ولو جزئياً وظاهرياً.

ثمة تفصيل أخير ومهم ينبغي التطرق إليه، وهو أن التغير الجذري في موقف تركيا من قضية خاشقجي يعد مؤشراً واضحاً على رغبة حقيقية في فتح صفحة جديدة مع الرياض، إذ كان هذا الملف تحديداً من أهم عوامل التوتير بين البلدين مؤخراً. وهو يعني أيضاً أنها على الأغلب قررت غلق هذا الملف بشكل نهائي، دون الوصول للحقيقة الكاملة بتفاصيلها، ودون كشف كامل الأدلة التي لديها، ودون تدويل القضية كما كانت بعض الأطراف تطالبها، ولا حتى استثمارها سياسياً، فضلاً عما سيعرّضها له هذا القرار من انتقادات بسبب تغيير الموقف بهذه الدرجة.

 

شارك الموضوع :

اترك رداً