سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

معركة التحالفات بين الأحزاب التركية

0

معركة التحالفات بين الأحزاب التركية

عربي 21

رغم أن السياسة الخارجية التركية تحوز اهتماماً واسعاً مؤخراً، بسبب المتغيرات العديدة على صعيدها دولياً وأوروبياً وإقليمياً، إلا أن السياسة الداخلية لا تقل عنها أهمية وحراكاً كذلك، لا سيما على صعيد منظومة التحالفات بين الأحزاب السياسية.

بدأت نواة التحالفات بين الأحزاب السياسية التركية قبل سنوات، تحديداً مع الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية التي تضمنت الانتقال للنظام الرئاسي في 2017، ثم وُضِعَ إطارُها القانوني مع انتخابات 2018 البرلمانية.

وهكذا، بات هناك تحالفان رئيسان متواجهان، تحالف “الجمهور” (أو الشعب) الحاكم المكون من حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، وتحالف “الأمة” (أو الشعب كذلك) المعارض المكوّن من أحزاب الشعب الجمهوري والجيد والسعادة. كما أن حزب الشعوب الديمقراطي (اليساري الكردي) يحتفظ بعلاقة مع الشعب الجمهوري دون أن يكون جزءاً من التحالف، رغبة في دعمه في مواجهة العدالة والتنمية ولكن دون إثارة حساسية الحزب الجيد (القومي).

كان التحدي الأكبر أمام هذين التحالفين هو الاستمرار بعد الانتخابات، حيث أنهما كانا تحالفين انتخابيين فقط، خصوصاً تحالف المعارضة الذي ضم خصوماً تاريخيين هما الشعب الجمهوري والسعادة، فضلاً عن حساسية الحزب الجيد من الدعم غير المعلن للشعوب الديمقراطي. وفعلاً، فقد أعلن حزب السعادة بعد الانتخابات أن “التحالف انتهى بانتهائها”، إلا أنه عاد مرة أخرى للتنسيق مع المعارضة.

كما أن الساحة السياسية التركية شهدت ولادة أحزاب جديدة، مثل حزبي المستقبل والديمقراطية والتقدم اللذين خرجا من رحم العدالة والتنمية، وحزب البلد – اسماً متوقعاً – الخارج من الشعب الجمهوري، برئاسة قيادات سابقة في الحزبين، أحمد داود أوغلو وعلي باباجان ثم محرم إينجة على التوالي.

ورغم أن أياً من الأحزاب الثلاثة لم ينضم إلى أي من التحالفين رسمياً، إلا أن كلاً منها يبدو في خطابه وانتقاداته أقرب للتحالف المنافس للحزب الذي خرج منه. وهكذا يتهم الشعبُ الجمهوري محرمَ إينجة بالتنسيق مع اردوغان، بينما يلتقي داودأوغلو وباباجان مع تحالف المعارضة في المطالبة بالعودة للنظام البرلماني.

ولأن أياً من التحالفين لا يملك غالبية ساحقة في البرلمان، تمكنه مثلاً من تمرير تعديلات دستورية أو دستور جديد فضلاً عن ضمان نتيجة الانتخابات المقبلة، تزداد أهمية الأحزاب الجديدة رغم أنها ما زالت ضعيفة الحضور حتى اللحظة، وتسود أجواء الانتخابات في البلاد رغم استبعاد تنظيم انتخابات مبكرة هذا العام على أقل تقدير، كما أسلفت في مقال سابق.

وعلى هذا الأساس تبلورت استراتيجية بديهية للتحالفين: تمتين الذات ومحاولة تفتيت التحالف المقابل، بالضغط على الحزب “الأصغر” أو الطرف الأضعف فيه لمحاولة إبعاده أو إثارة خلاف بينه وبين الحزب “الأكبر” في التحالف، وهي الاستراتيجية التي يسير عليها الجانبان في الأشهر القليلة الماضية.

وهكذا، فإن كثيراً من ضغوط وانتقادات أحزاب التحالف المعارض تتركز على الحركة القومية وزعيمه دولت بهجلي، الحليف الوثيق حتى اللحظة للرئيس اردوغان. إذ أنها تدرك أن انفضاض الحركة القومية عن العدالة والتنمية – إن نجحت في التسبب بذلك – سيقلب التوازنات جذرياً في البلاد.

في المقابل، فقد ركزت ماكينة التحالف الحاكم دائماً على حزب الشعوب الديمقراطي، الداعم للتحالف المعارض من خارجه بشكل غير رسمي. وهنا يعمل خطاب الرئاسة والحكومة على التأكيد على العلاقة العضوية المباشرة بينه وبين منظمة حزب العمال الكردستاني الانفصالية، فضلاً عن محاكمة بعض قياداته السابقة والحالية بتهمة التعاون مع الأخير و”دعم الإرهاب”.

وقد كانت الحملة الكبرى بهذا الصدد بعد عملية إعدام الرهائن الأتراك في شمال العراق، حيث هاجم طرفا التحالف الحاكم الشعوبَ الديمقراطي بضراوة وشَجَبَا ما قالا إنه تحالف ضمني بينه وبين الشعب الجمهوري، في محاولة للضغط على الأخير من جهة واستفزاز موقف مغاير للقوميين الأتراك في التحالف المعارض، أي الحزب الجيد.

الأخير أيضاً كان هدفاً للتحالف الحاكم لفترة طويلة، رغبة في استمالته. حيث وجه دولت بهجلينداءً لرئيسة الحزب ميرال أكشنار بأن “تعود لبيتها”، وهو تصريح حمل معنيين متناقضين – بشكل مقصود فيما يبدو – هما اعتزال السياسة والتزام المنزل أو العودة لـ”بيتها الأول” الحركة القومية، وهو المعنى الذي فهمته أكشنار ورفضته. ويضاف لذلك لقاءات أجريت بين الأخير والعدالة والتنمية، ذكرت تقارير إعلامية أن الأخير دعاه خلالها للانضمام للتحالف الحاكم.

وأما الهدف الحالي للعدالة والتنمية فهو حزب السعادة، قيادةً وأنصاراً، أي تيار الرأي الوطني أو “ميللي غوروش” الذي كان أسسه رئيس الوزراء الأسبق الراحل نجم الدين أربكان. حيث يسعى العدالة والتنمية لإبعاد السعادة عن تحالف المعارضة وضمه لتحالفه إن أمكن، وهو جهد يقوم به اردوغان شخصياً، حيث التقى أكثر من مرة بالرجل القوي في حزب السعادة وعضو الهيئة الاستشارية العليا فيه أغوزهان أصيل تورك.

ويتردد في كواليس أنقرة أن الأخير يميل لقبول عرض اردوغان، بينما يعارض ذلكَ رئيسُ الحزب تمل كارا موللا أوغلو. ولذلك فثمة من يتحدث عن تيارين منقسمين حول الأمر داخل الحزب ومواجهةٍ قريبة بينهما في المؤتمر العام القادم له، بحيث يحدد الفريق الفائز إلى حد كبير مصير فكرة التعاون مع العدالة والتنمية.

وأما سعي الحزب الحاكم لجذب الشريحة المحافظة من الشعب، كأنصار السعادة وغيرهم ممن يمكن أن يتجهوا للحزبين الجديدَيْن، فقد تبدى في عدة خطوات. حيث ناقشت أروقته قبل أشهر فكرة إعادة النظر في “اتفاقية إسطنبول” لمكافحة العنف ضد المرأة من باب أنها تهدد بُنْية العائلة والمجتمع.

ومؤخراً، اختار العدالة والتنمية لرئاسة فرعه في إسطنبول – كبرى المدن التركية -أحد القيادات السابقة في حزب السعادة والمعروف بتديّنه ونشاطه وقربه من الشباب، عثمان نوري كاباكتبة.وكان لافتاً أن الأخير بدأ رئاسته للفرع بمشاركة الشباب صلاة الفجر في مسجد آيا صوفيا، في رسالة لا تخفى دلالتها.

يبقى أن المؤتمر العام لحزب العدالة والتنمية نهاية الشهر الجاري قد يحمل أيضاً نفوذاً إضافياً ودعماً للتيار المحافظ فيه، والذي قبع لسنوات طويلة في ظل المنافسة المحمومة بين التيارين الآخرين، الأقربِ للقومي بقيادة وزير الداخلية سليمان صويلو والأكثر ليبرالية بقيادة وزير المالية السابق صهر الرئيس براءة ألبيراق.

وبالتالي يتضح أن الاستراتيجية الحالية لحزب العدالة والتنمية بقيادة اردوغان هي استمالة حزب السعادة قيادةً وأنصاراً، ومحاولة سد الطريق على وصول الحزبين الجديدة اللذَيْن خرجا من رحمه للشريحة المحافظة من الشعب أو المترددين من أنصاره هو تحديداً.

لكل ما سبق، نقول بأن أجواء الانتخابات حاضرة في المشهد التركي الداخلي وإن لم يكن هناك انتخابات قريبة بالضرورة. ويبقى التحالفان متماسكَيْن حتى اللحظة ظاهراً، لكن إعادة التموضع تبقى احتمالاً قائماً دائماً. ولئن أظهرت استطلاعات الرأي ضعفَ الأحزاب الجديدة حتى اللحظة، إلا أن الأخيرة يمكن أن تحدث فارقاً في أي انتخابات قادمة بغض النظر عن مدى حضورها، في ظل التوازنات القائمة.

وفي انتظار نتائج الحملات التي يشنها كل تحالف ضد الآخر، ومع استبعاد أي انتخابات مبكرة خلال هذه السنة حتى اللحظة، تحضر الجملة الأشهر للرئيس الأسبق سليمان دميريل بأن “24 ساعة مدة طويلة جداً في السياسة التركية”، بما يعني انفتاح التحالفات على عدة سيناريوهات في المستقبل، بما فيها نشوء تحالف ثالث مثلاً يضم بعض الأحزاب اليمينية – القومية والمحافظة – مثل الجيد والسعادة والمستقبل والديمقراطية والتقدم.

شارك الموضوع :

اترك رداً