سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

حزب الشعب الجمهوري التركي إذ يواجه خطر الانقسام

0

حزب الشعب الجمهوري التركي إذ يواجه خطر الانقسام

TRT عربي

قبل أيام، قدم ثلاثة من أعضاء البرلمان عن حزب الشعب الجمهوري – أكبر أحزاب المعارضة في تركيا – استقالتهم من حزبهم، بعد مدة من الخلاف مع قيادته وخصوصاً رئيسه كمال كليتششدار أوغلو.

النواب الثلاثة، محمد علي جلبي عن إزمير وحسين عوني أكصوي عن كارابوك وأوزجان أوزال عن يالوفا، أعلنوا استقالتهم في مؤتمر صحافي علني، بعد رسالة كانوا قد وجهوها لقيادة الحزب قالوا إنه لم يُرَد عليها. الأسباب التي ذكرها النواب لاستقالتهم الجماعية تراوحت بين غياب/تراجع الديمقراطية داخل حزبهم الشعب الجمهوري، وعدم نجاح محاولاتهم السابقة لإصلاح بعض الأخطاء من داخله، إضافة لبعض الخيارات السياسية مثل التقارب مع حزب الشعوب الديمقراطي (الذي يعد الذراع السياسية لمنظمة العمال الكردستاني الإرهابية) وفكرة ترشيح الرئيس الأسبق عبدالله غل للرئاسة كمرشح توافقي للمعارضة.

ورغم أن النواب الثلاثة رفضوا الإجابة عن سؤال بخصوص علاقتهم بالقيادي البارز في الحزب ومرشحه للانتخابات الرئاسية الأخيرة محرّم إينجة، إلا أن المتوقع هو انضمامهم للحزب الذي يُنتظر أن يؤسسه بعد استقالته منه قريباً، وهو ما أكده إينجة نفسه يوم الأحد الفائت.

وإينجة، عدا عن كونه مرشح حزبه للانتخابات الرئاسية الأخيرة، قيادي بارز في الحزب عن مدينة يالوفا (نفس مدينة أحد النواب المستقيلين) كان قد ترشح ثلاث مرات لرئاسة الحزب في مواجهة رئيسه الحالي كمال كليتشدار أوغلو. بعد خسارته انتخابات الرئاسة، ازدادت حدة الخلاف بين إينجة وكليتشدارأوغلو خصوصاً بعدما ظهر وكأن الأخير أبعده عن دوائر الحزب القيادية، ما حدا به إلى إعلان تأسيسه “حركة البلد” كما أسماها في أيلول/سبتمبر الفائت، قبل أن يقول مؤخراً إنه يعتزم الاستقالة من حزبه وتأسيس حزب جديد يحمل نفس الاسم أي “حزب البلد”.

وهكذا، يبدو أكبر أحزاب المعارضة وأقدم الأحزاب التركية أمام خطر الانشقاق والتشظي بعدما تعرضت أحزاب أخرى مؤخراً لنفس الأمر بدرجة أو بأخرى. فالحزب الجيد انشق عن الحركة القومية، وحزبا المستقبل والتقدم والديمقراطية خرجا من رحم العدالة والتنمية، وحزب الرفاه مجدداً هو آخر الأحزاب التي خرجت عن إطار الفكر الوطني أو “ميللي غوروش” الممثــَّـلِ مؤخراً في حزب السعادة. ويبدو هنا أن الانتقال للنظام الرئاسي كان من ضمن الأسباب التي سرّعت من تشكيل أحزاب جديدة بعد أن تراجعت في ظله أهمية تماسك الأحزاب ووحدتها ما فاقم الديناميات الخلافية فيها، إذ باتت مؤسسة الرئاسة أهم وأولى من الأحزاب السياسية.

هي ليست المرة الأولى بالتأكيد التي يخرج فيها قيادي من حزب الشعب الجمهوري ليؤسس حزباً جديداً. سابقاً خرجت قيادات كبيرة من وزن رئيس الوزراء الأسبق بولند أجاويد، وفي السنوات القليلة الماضية خرجت مجموعة بقيادة أمينة أولكر تارهان لتؤسس حزب الأناضول، وأسس نائب رئيس الحزب الأسبق أوزتورك يلماظ حزب التجديد، وكذلك رئيس بلدية شيشلي الأسبق مصطفى صاريغول حزب تغيير تركيا.

لكن أياً منهم لم يؤثر بشكل كبير على حزب الشعب الجمهوري ولم يسحب من رصيده أو جماهيريته نسبة ملموسة. لأن تجارب الانشقاق عن حزب كبير وعريق ليست مشجعة في الأغلب في تركيا، فكيف إذا كان الحزب الأقدم في البلاد والذي يحمل رمزية أنه “حزب أتاتورك”؟ ولكن، ورغم ذلك، يبدو الأمر مختلفاً نسبياً هذه المرة مع إينجة.

الاختلافات بين محرّم إينجة والانشقاقات السابقة كثيرة ومهمة. فهو شخصية قوية وقيادي بارز في الحزب منذ أن كان نائباً في البرلمان حيث عرف بخطاباته القوية ومعارضته الشرسة للحكومة. كما أنه رشح نفسه ثلاث مرات أمام رئيس الحزب، ولولا أن الانتخابات البلدية الأخيرة قد أكسبت الشعب الجمهوري بلديتي أنقرة وإسطنبول لكان منافساً أقوى أمامه مرة أخرى.

كما أنه يقف خلفه تيار واسع في الحزب حيث حصل على حوالي ثلث أصوات المناديب في المؤتمر العام للحزب في المرات الثلاث التي ترشح فيها ضد كليتشدار أوغلو. فضلاً عن أنه يمثل الفكر الكمالي التقليدي في الحزب والذي يرى أن كليتشدارأوغلو قد غيّر من هوية الحزب وخطابه من خلال التودد مؤخراً للشريحة المحافظة.

أكثر من ذلك، فإن إينجة ورغم خسارته في الانتخابات الرئاسية أمام اردوغان إلا أنه حصل على نسبة %30 من أصوات الناخبين بواقع أكثر من 15 مليون صوت، أي أعلى مما حصل عليه حزبه في الانتخابات البرلمانية بملايين الأصوات. وهو لا يُخفي نيته إعادة الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وبالتالي فهو يمثل أملاً ما لشريحة واسعة من أنصار الشعب الجمهوري.

فإلى أين تسير الأمور؟

ما زال من المحتمل أن يكون كل ما يقوم به إينجة مجرد أوراق تفاوضية للضغط على حزبه لإعادته إلى دوائر صنع القرار، أو ربما كسب رئاسة الحزب مستقبلاً، ولكن المرجَّح أنه وصل مع حزبه إلى نقطة اللاعودة، ما يعني تأسيس الحزب الجديد وإشهاره. فما هو تأثير ذلك على الشعب الجمهوري؟

في هذه اللحظة ليس واضحاً بعد من هو الفريق الذي سيكون إلى جانب إينجة في حزبه الجديد، وهل ستحصل استقالات إضافية للانضمام له أم لا وكم عددها، وإلى أي مدى سيكون هناك انزياح في القيادات والكوادر والأنصار من الشعب الجمهوري لـ”البلد”، وبالتالي من الصعوبة بمكان تقدير مدى قوة الحزب الجديد وحضوره.

ولكن في كل الأحوال، سيشكل الحزب الوليد تحدياً وخطراً على أكبر أحزاب المعارضة من ثلاث زاويا على الأقل:

الأولى، الخَصْم من رصيده الجماهيري وقاعدته التصويتية بنسبة أو بأخرى سوف تتضح أكثر لاحقاً لا سيما وقت اقتراب الاستحقاق الانتخابي، وهو ما سيضعف الشعب الجمهوري أمام العدالة والتنمية الحاكم من جهة والأحزاب المنضوية في تحالف “الأمة” المعارض الذي يقوده هو من جهة أخرى.

الثانية، المزايدة عليه في الخطاب والسياسات والتوجهات بما قد يدفعه للتقارب أكثر مع خطابه التقليدي القديم حفاظاً على كتلته الصلبة، الأمر الذي سيضعف قدرته على التأثير في شرائح أخرى من جهة ومنظومة تحالفاته مع أحزاب مثل الجيد والسعادة من جهة أخرى.

الثالثة، كون أحد أهم أسباب استقالة النواب الثلاثة هي العلاقة مع حزب الشعوب الديمقراطي، فإن ذلك سيشكل ضغطاً كبيراً على الشعب الجمهوري في المرحلة المقبلة، فإما أن يستمر في العلاقة غير المعلنة معه وبالتالي يخسر داخلياً (داخل الحزب) وإما أن يضطر للتراجع عنها فيخسر خارجياً (أمام الحزب الحاكم).

في الخلاصة، ما زال الوقت باكراً لتقدير مدى قوة الحزب الوليد المنتظر من رحم الشعب الجمهوري وكم سيكون رصيده في الشارع التركي، لكن مجرد الشروع في هذا المسار يضع ضغوطاً غير مسبوقة على الحزب ويضعفُ بشكل غير مباشر تحالفَ الأمة المعارض، وبالتالي يصب في مصلحة العدالة والتنمية وحلفائه.

فكما أن الشعب الجمهوري احتفى بالحزبين اللذيْن خرجا من رحم العدالة والتنمية وبنى معهما علاقات ويحاول كسبهما لتحالفه المعارض، إضافة للحزب الجيد المنشق عن الحركة القومية، فإن تأسيس حزب من بعض قيادات الشعب الجمهوري سيكون فرصة كبيرة للعدالة والتنمية ليضعف أكبر الأحزاب المعارضة له. ذلك أن الجانبين يعملان مؤخراً ضمن استراتيجية مبنية من شقين: تمتين التحالف وإضعاف (وتشيتت إن أمكن) التحالف المقابل، وهي الفرصة التي لن يفوتها العدالة والتنمية كما يبدو.

شارك الموضوع :

اترك رداً