سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

التنافس الأمريكي – الروسي على دعم أكراد سوريا

0

تتداول معظم وسائل الإعلام والدوائر السياسية في المنطقة أخبار تقدم وحدات حماية الشعب (الكردية السورية، YPG) في ريف حلب على حساب المعارضة “المعتدلة” المدعومة من قبل تركيا، واعتبار أنقرة أن هذا التقدم خط أحمر لن تسمح لها بتجاوزه.

وتبدو معضلة تركيا الرئيسة في أن هذه القوات، التي تصنفها منظمة إرهابية باعتبارها الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي يعتبر بدوره الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK)، تحظى بدعم كل من خصمها الروسي وحليفها الأمريكي على حد سواء، لأسباب ومسوغات مختلفة.

العلاقات الروسية – الكردية ليست وليدة اليوم بطبيعة الحال، بل تمتد لفترة الحرب العالمية الأولى وما قبلها حين دعمت روسيا القيصرية “أقليات” الدولة العثمانية لإثارة القلاقل داخلها. بينما تميزت ستينات وسبعينات القرن الماضي بدعم سوفياتي كبير للتيارات الكردية اليسارية (أو الحركة السياسية الكردية كما تطلق على نفسها) التي تمظهرت أخيراً في حزب العمال الكردستاني الذي تأسس عام 1978 وبدأ حرباً انفصالية ضد تركيا عام 1984.

لكن هذه الخلفية التاريخية ليست السبب الوحيد للدعم الروسي الواضح اليوم للمقاتلين الأكراد الذين يتقدمون في الشمال السوري، إذ ثمة توافق روسي – كردي (وحتى أمريكي) على تجنب مواجهة النظام والتركيز على تنظيم الدولة (ولو ظاهرياً)، بينما السبب الرئيس في موقف موسكو هو رغبتها في معاقبة أنقرة على إسقاطها مقاتلتها في تشرين الثاني/نوفمبر الفائت وإضعافها كأحد الداعمين الإقليميين للمعارضة السورية.

تفسر هذه السياقات غياب أي صدام بين الطرفين سابقاً وحالياً، بل توَفرُ الغطاء الجوي الروسي للقوات الكردية في تقدمها لكسب أراض جديدة (سيطروا فعلاً على تل رفعت ويحاولون حصار اعزاز) لخنق المعارضة وإخضاعها لشروط موسكو بخصوص جنيف 3، إضافة إلى حصار تركيا بشريط كردي على حدودها الجنوبية، معادٍ لها وحليفٍ لروسيا.

بيد أن موسكو لم تكتف بالدعم العسكري واللوجستي لقوات حماية الشعب، الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي، بل قدمت دعماً سياسياً غير مسبوق للحزب، بالتنسيق معه ثم استقباله في موسكو، قبل أن تتوج ذلك بفتح ممثلية له في موسكو هي الثانية فقط على مستوى العالم بعد ممثليته في إقليم كردستان العراق (!).هناك، كانت كل تفاصيل المشهد توحي بملف كردي “إقليمي” متجاوز للحدود، بدءاً من الخريطة المعلقة على الحائط والتي حملت اسم “غرب كردستان” وشملت الشريط الحدودي السوري مع تركيا، مروراً بصورة الزعيم الكردي عبدالله أوجلان المعتقل لدى تركيا المعلقة على جدار المكتب، وصولاً إلى مشاركة نائب من حزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) في تركيا في الافتتاح.

أما الدعم الأمريكي لقوات الحماية فسابق حتى على الدعم الروسي لها، وخصوصاً في معركة عين العرب/كوباني في أيلول/سبتمبر 2014 التي أجبرت واشنطن خلالها أنقرة على السماح بمرور مئات من مقاتلي البشمركة العراقية للقتال جنباً إلى جنب مع الأكراد، وقدمت فيها للمقاتلين الأكراد أسلحة ودعماً لوجستياً وغطاءً جوياً دفع بهنري باركي، المحلل السابق للخارجية الأمريكية والمحلل السياسي لمركز ويلسون للدراسات، للقول بأن أمريكا باتت تمثل القوة الجوية لقوات الحماية، بينما الأخيرة تمثل القوات الأرضية للأولى. لاحقاً، في حزيران/يونيو 2015، قدمت واشنطن لقوات الحماية غطاءً جوياً خلال هجومهم على تل أبيض وطردهم العرب والتركمان منها دون التنسيق مع أنقرة التي كانت ما زالت تعيش صدمة انتخاباتها المصيرية في ذلك الشهر.

ترى واشنطن في الفصائل الكردية المسلحة قوة محلية مثالية لمكافحة تنظيم الدولة، إذ لديهم العدد والعدة والخبرة والاستعداد النظري لمواجهة التنظيم وقد أيدوا كل ذلك بالواقع العملي الميداني. من ناحية أخرى، تستثمر الولايات المتحدة هذه العلاقات المتميزة مع أكراد سوريا للضغط على حليفتها “المشاغبة” تركيا وإبقائها ضمن المساحات المسموح بها من المواقف والسياسات الإقليمية.

ولذلك فقد رفضت واشنطن مراراً الدعوات التركية لوقف دعمها لحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات الحماية، وأكدت أنها لا تعتبرهما منظمات إرهابية، بل ضربت بعرض الحائط الاتهامات والأدلة التي قدمتها أنقرة على تورط الوحدات في تفجير أنقرة الأخير.

يريد المقاتلون الأكراد أن ييسطروا على المنطقة الواقعة بين “الكانتون” الشرقي الذي يحوي عين العرب والجزيرة ومثيله الغربي الذي يضم عفرين، ثم التمدد نحو ساحل المتوسط ليكون ذلك الشريط/الممر نواة لدولة كردية في المستقبل، ويرون أن تطورات الأزمة السورية وملامح التقسيم المستقبلي الماثلة تضمن لهم تحويل الإدارة الذاتية التي أعلنوها في كانون الثاني/ديسمبر 2014 إلى إقليم ذاتي واقعي على غرار تجربة نظرائهم العراقيين.

من ناحيتها، ترى تركيا في هذا المشروع خطاً أحمر وفق حسابات أمنها القومي، بسبب العلاقة العضوية بين هذه الفصائل وحزب العمال الكردستاني، على اعتبار أن الكيان السياسي القادم سيكون مساحة استراتيجية جديدة له للتدرب والتسلح وإطلاق العمليات ضد أنقرة، إضافة إلى مخاطر رفع سقف أكراد الداخل التركي وتصعيب الحل معهم، فضلاً عن كونه عازلاً لتركيا عن سوريا والعالم العربي بشكل عام.

الرهان الكردي على روسيا و/أو الولايات المتحدة رهان على الحاضر، وتغيب عنه فيما يبدو دروس الماضي وحسابات المستقبل التي تشي بأن “الورقة الكردية” لطالما استغلت من الطرفين مرات عديدة حين احتيج لها، وتمت التضحية بها حين انتفت أو انتهت تلك الحاجة.

فجمهورية مهاباد “الكردية”، التي تأسست عام 1946 في شمال غرب إيران بدعم من الاتحاد السوفياتي السابق إثر احتلاله جزءاً من الأراضي الإيرانية، لم تدم أكثر من أحد عشر شهراً فقط بعد ضغط أمريكي عليه للانسحاب من المناطق التي احتلها، حيث أسقطت طهران تلك الدولة وانتهى مصير مؤسسيْها قاضي محمد ومصطفى البارزاني إلى الإعدام والهرب على التوالي.

أما عبدالله أوجلان نفسه، زعيم حزب العمال الكردستاني، الذي استضافته سوريا طويلاً كعنصر ضغط على تركيا في تسعينات القرن الماضي، فقد انتهى به المطاف إلى الطرد منها إلى اليونان ثم كينيا بعد ضغوط أمريكية بطلب تركي (وتهديد بغزو سوريا)، قبل أن تقبض عليه الاستخبارات الأمريكية وتسلمه للسلطات التركية عام 1999 حيث ما زال يقبع في السجن منذئذ.

أما حرب الخليج الثانية واحتلال العراق وغيرها من محطات التاريخ الحديث فشاهدة أكثر من غيرها على تخلي الروس عن حلفائهم (صدام والقذافي) وعلى تبدل الخطوط الأمريكية الخضراء/الحمراء التي تعطى لطرفي الصراع تطبيقاً لسياسة الاحتواء المزدوج الأمريكية.

يبدو أكراد سوريا اليوم (من خلال فصيلهم الأقوى على الأقل) أداة حادة بيد صاحبتي القرار السياسي والعسكري فعلياً في سوريا، أي الولايات المتحدة وروسيا، لتنفيذ الخطة المتفق عليها، بكسر المعارضة ومعاقبة تركيا. بيد أن ذلك إن حدث، سيكون العالم كله – وفق ما تريد واشنطن وموسكو – أمام أحد خيارين: إما الأسد/النظام أو تنظيم الدولة. وساعتها سيقل الوزن الاستراتيجي لحزب الاتحاد وقوات الحماية، وستوعد لتركيا مرة أخرى أهميتها في الاستراتيجية الأمريكية (بل ربما تغير سياساتها وتحوز الدعم قبل ذلك)، وربما لن ترغب حينها واشنطن في الذهاب إلى آخر الشوط في إيذائها. هكذا يمكن أن تستمر المظلومية الكردية شوطاً آخر بانتظار فرصة تاريخية مستقبلية أخرى بعد أن فوتوا الفرصة الحالية في رهانات خاطئة.

شارك الموضوع :

اترك رداً