سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

الاتفاق الإماراتي – “الإسرائيلي” من منظور تركي

0

 

الاتفاق الإماراتي – “الإسرائيلي” من منظور تركي

TRT عربي

في الثالث عشر من آب/أغسطس الجاري، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ما أسماه “اتفاق سلام” بين دولة الإمارات العربية المتحدة و”إسرائيل”، ما لبث أن علق الطرفان مؤكدين له، وواضعينه في إطار ترسيخ السلام في منطقة الشرق الأوسط. بل ذهب البعض للمبالغة بالإدعاء أنه يخدم القضية الفلسطينية زعماً بأن أحد بنود الاتفاق هو إلغاء أو تأجيل خطة نتنياهو لضم الضفة الغربية المحتلة وغور الأردن، وهو ما نفاه الأخير سريعاً وبشكل حاسم، قبل أن يتضح أن التجميد مؤقت وأتى بناء على طلب ترمب.

توقيت الإعلان وشكله يشيران بوضوح إلى رغبة حقيقية في منح ترمب إنجازاً يتعلق بالسياسة الخارجية وهو مقبل على الانتخابات الرئاسية، ولا يخلو الأمر كذلك من مد يد العون لنتنياهو الذي يواجه كذلك مصاعب في الداخل، على صعيد الحكومة كما على صعيد الاتهامات بالفساد التي تواجهه.

أما فيما يتعلق بالمضمون والدلالات، فيمكن قراءة الاتفاق من خلال ثلاثة أبعاد متداخلة: العلاقات الثنائية بين الطرفين والقضية الفلسطينية والمنطقة. فالاتفاق الأخير لم يشكل مفاجأة لمتابعي العلاقات المتنامية بين الجانبين على مدى سنوات طويلة، بدءاً بتعاون أمني ولقاءات وفق تقارير إخبارية لم ينفها أي منهما، مروراً بمناورات عسكرية مشتركة، وليس انتهاءً بالتعاون الأخير المعلن في مواجهة جائحة كورونا. ولذا، يمكن القول إن الاتفاق الأخير ليس محطة جديدة بين الجانبين، وإنما مجرد إشهار لمسار معروف ومتنامٍ باضطراد مؤخراً.

وأما على صعيد القضية الفلسطينية، فإن التفسير الرئيس والأهم للاتفاق يرتبط بكونه مرحلة من مراحل تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي وفق الخطة التي كان أعلنها ترمب تحت مسمى “صفقة القرن”، والتي للمفارقة شارك في “حفل” إعلانها سفير دولة الإمارات مع نظيريه البحريني والعماني. مرت هذه الخطة بخطوات عديدة منها الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لدولة “إسرائيل” ونقل السفارة الأمريكية لها، والاعتراف بضمها مرتفعات الجولان السورية، وكذلك خطة الضم المزمع تنفيذها في الضفة والغور.

هنا، لا يحمل توقيت الإعلان مجرد غض نظر عن خطة الضم، وإنما يتعدى ذلك للدعم والتأييد وربما المشاركة، خصوصاً مع نفي نتنياهو إلغاء الخطة أو ربطها بالاتفاق مع أبو ظبي. هذا المعنى ليس شيئاً بسيطاً يمكن المرور عليه بسهولة، إذ أن القضية الفلسطينية كانت وما زالت حتى وقت قريب أحد أهم محركات السياسة في العالم العربي والقاسم المشترك للعمل العربي الرسمي ومواقفه المعلنة حتى تلك التي حملت طابعاً من التراجع تجاه تل أبيب، مثل المبادرة العربية للسلام في قمة بيروت. هكذا، يُخرج الاتفاقُ أبو ظبي عن الإجماع العربي، الذي كان ثبت نسبياً في العلن بعد اتفاقيْ كامب ديفيد ووادي عربة، وكذلك يقلب معادلات المنطقة ويغيّر “البارادايم” الناظم لها.

ذلك أن صفقة القرن تتكون من مسارين متوازيَيْن ومتلازمين، الأول هو تصفية القضية الفلسطينية التي تقف حاجزاً أمام التطبيع بل التحالف ربما بين تل أبيب وبعض الأنظمة العربية، والثاني هو تغيير صفة “إسرائيل” من عدو أو خصم إلى دولة طبيعية في المنطقة يمكن التعامل والتعاون وربما التحالف معها في مواجهة أعداء أو خصوم مشتركين، هما في المحصلة إيران وتركيا. ويمكن هنا العودة للتصريحات الأمريكية التي كانت تحدثت عن فكرة إنشاء “ناتو” عربي أو شرق أوسطي تشارك به تل أبيب.

بمعنى، أن إعادة تعريف “إسرائيل” وتحويلها من عدو إلى صديق يتطلب بالضرورة إعادة تعريف أطراف أخرى وتحويلها لخصم/عدو، وفي مقدمة هؤلاء أنقرة وطهران وفق التصريحات والمواقف المتواترة من بعض العواصم المرتبطة بمسار التطبيع خلال السنوات الأخيرة، وهو ما تدركه أنقرة بشكل دقيق. بل إن العلاقات التجارية المتنامية بين الإمارات وإيران وكذلك اللقاء الدبلوماسي الأخير الذي جمع افتراضياً بين وزيري خارجية البلدين تنبئان بأن أنقرة قد تكون مقدَّمَة في الخصومة على طهران بالنسبة لأبو ظبي.

هذا البُعد المهم في القراءة التركية للاتفاق يضاف له بُعد آخر لا يقل أهمية، وهو أنه يجمع بين طرفين مناوئين لها في المنطقة، بل على خلاف حاد ومباشر معها.

صحيح أن أنقرة أبرمت مع تل أبيب اتفاقاً لتطبيع العلاقات في 2016 بعد انقطاعها إثر الاعتداء على سفينة مافي مرمرة، وصحيح أن العلاقات التجارية بينهما لم تتأثر كثيراً في فترة القطيعة، إلا أن العلاقات بين البلدين لم تعد لطبيعتها بل يسودها البرود والتوجس والتوتر. في 2018، استدعت تركيا سفيرها في تل أبيب وأعلنت السفير “الإسرائيلي” شخصاً غير مرغوب به في تركيا، احتجاجاً على التعامل الأمني الفظ مع مسيرات العودة في غزة وكذلك نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. كما أن المواقف التركية إزاء سياسات الاحتلال وما يتعلق بالقضية الفلسطينية عموماً والقدس خصوصاً من بين الأعلى سقفاً على مستوى العالم الإسلامي.

أكثر من ذلك، هناك حالة خصومة شخصية مع الرئيس التركي لا تخفى في تصريحات الشماتة في بعض المحطات الانتخابية أو الاتهامات المتبادلة أو التراشقات بين الجانبين وكذلك التحريض عليه وعلى تركيا في الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية. كما أن تل أبيب تبدو ركناً رئيساً في المحور الإقليمي الذي يناكف أنقرة في شرق المتوسط، كما أنها أحد أعضاء منتدى غاز شرق المتوسط الذي تجاهل حقوق تركيا فيه.

إلا أن الأهم على هذا الصعيد هو انتقال تركيا في التصور “الإسرائيلي” إلى “تهديد” بعد أن كانت حليفاً استراتيجياً لها في تسعينات القرن الماضي. ففي كانون الثاني/يناير من السنة الجارية، أدرجت الاستخبارات العسكرية “الإسرائيلية” (أمان) تركيا لأول مرة على قائمة التهديدات للأمن القومي في تقريرها السنوي. كما نقلت صحيفة التايمز البريطانية قبل أيام تصريحاً لرئيس الموساد يوسي كوهين بأن “تركيا تشكل تهديداً أكبر لإسرائيل من إيران”.

في المقلب الآخر، تتقدم الإمارات توجهاً إقليمياً ضد تركيا في المنطقة هي رأس السهم فيه. حيث تتهمها الأخيرة بالعمل على الإضرار بها في عدد من الملفات الحيوية، من دعم الميليشيات الانفصالية في سوريا، إلى دعم انقلاب حفتر في ليبيا، وصولاً إلى تمويل ودعم المحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016، حسبما أظهرت تسريبات سفيرها في واشنطن يوسف العتيبة.

أكثر من ذلك، فقد جمعت السنوات الأخيرة بين أبو ظبي وتل أبيب في مناورات عسكرية مشتركة، عام 2016 في نيفادا بمشاركة القوات الجوية الباكستانية والإسبانية، وفي 2017 مع القوات الجوية الأمريكية واليونانية والإيطالية، إضافة لمشاركة الطرفين في المناورات العسكرية السنوية Iniohos في اليونان في 2017 و2018 و 2019.

كما أن الإمارات، التي لا تطل على شرق المتوسط، شاركت في البيان الخماسي الذي أدان أنشطة تركيا في المنطقة في أيار/مايو الفائت، في موقف عُدَّ اصطفافاً إلى جانب أثينا التي تجمعها بأنقرة علاقة خصومة وتنافس حيث أن الرؤية اليونانية لترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط تشكل غبناً كبيراً لتركيا وتجاهلاً واضحاً لحقوقها. وهو موقف يتطابق إلى حد بعيد مع موقف “إسرائيل” التي ترى في أنشطة تركيا في شرق المتوسط منافسة كبيرة لها، حيث أن الاتفاق التركي مع حكومة الوفاق الوطني الليبية، على سبيل المثال، قللت  من فرص تحقيق مشروع East med  الذي تعوّل عليه كثيراً، حيث أنه سيحتاج للتفاهم مع أنقرة والحصول على موافقتها.

في المحصلة، فالاتفاق المعلن محطة من محطات صفقة القرن التي تجعل أنقرة مع طهران خصماً و/أو عدواً لبعض الأنظمة بديلاً عن تل أبيب، ويجمع بين خصمين لدودين لأنقرة في المنطقة، ويقفان إلى جانب اليونان في نزاع الحدود والغاز في شرق المتوسط، في مسار سعيها لتصفية القضية الفلسطينية.

ولعل ذلك مما يفسر الموقف التركي عالي السقف في رفض الاتفاق وتبيان ضرره على القضية الفلسطينية، وهو الموقف الذي تبعه تأكيد أنقرة استمرار الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني، واتصال اردوغان بالرئيس الفلسطيني محمود عباس واستقباله وفداً قيادياً من حركة حماس بقيادة رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية، إضافة لتكرار الطلب من الانتربول إصدار مذكرة توقيف بحق محمد دحلان الذي تعدُّه أنقرة يد أبو ظبي التي تحاول العبث بأمنها.

وعليه، تنظر أنقرة للاتفاق من منظور أنها أحد أهدافه، بما يضاعف من التهديدات القائمة لها في الداخل والخارج. وإذا كانت الملفات الداخلية مستقرة إلى حد كبير مؤخراً، فإن التوقعات التركية تتجه فيما يبدو إلى مواجهة في الملفات الإقليمية الأخرى، وفي مقدمتها سوريا وليبيا وشرق المتوسط، وهي ملفات باتت حيوية جداً من منظور الأمن القومي التركي، حيث ترتبط بقضايا من قبيل وحدة الأراضي وأمن الطاقة والتنافس الجيوسياسي في المنطقة.

ولعل ليبيا هي الساحة الأقرب لأن تشهد انعكاسات ذلك وارتداداته. فالدعم التركي لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً أدى لقلب المعادلات نسبياً، وأغضب الحلف المقابل وخصوصاً دولة الإمارات، التي يبدو أنها ردت عسكرياً باستهداف قاعدة الوطية بشكل مباشر، ما ينبئ باحتمال تكرر الاستهداف بأشكال مختلفة مباشرة وغير مباشرة.

كل ما سبق يؤكد أن التناقض التركي مع الطرفين في المنطقة عميق ومرشح للاستمرار، حيث لا تخفى على المراقبين حدة التصريحات التركية تجاه أبو ظبي (وتل أبيب) بدرجة تختلف عن القاهرة والرياض مثلاً، وهما عضوان رئيسان في المحور الإقليمي المواجه لها. كما أنه يفسر إلى حد كبير تصريح وزير الدفاع التركي خلوصي أكار بأن بلاده “سوف تحاسب الإمارات” على سعيها للإضرار بها في أكثر من مكان وجبهة. وهو تصريح يحمل إيماءات لا تخفى حين يأتي على خلفية التطورات الميدانية في ليبيا وعلى لسان أكبر شخصية عسكرية في البلاد.

شارك الموضوع :

اترك رداً