سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

حرية الإعلام في تركيا: قراءة في الواقع والأسباب

0

 

حرية الإعلام في تركيا: قراءة في الواقع والأسباب

 

إضاءات

يعتبر الإعلام من أهم الملفات الإشكالية في تركيا، سواء في سياستها الداخلية ومناكفاتها الحزبية أو في سياستها الخارجية والانتقادات الموجهة لها دولياً، لا سيما من قبل الاتحاد الأوروبي الذي يمارس نوعاً من الوصائية والرقابة عليها.

تواجه الساسة الأتراك في المحافل الدولية أسئلة حول الإعلام، وتقارير دولية تضع أنقرة في مراتب متأخرة جداً في قوائم الحريات وعدد الصحافيين المعتقلين وغيرها من المؤشرات، في حين تعتبر الحكومة أن معظم هذه الأرقام والإحصاءات غير دقيقة وتصدر عن مواقف مسبقة أكثر منها دراسات علمية موثقة.

 

الوصاية الإعلامية

ثمة قصة تستحق أن تروى عن كيفية مواجهة العدالة والتنمية للوصاية الإعلامية عليه وعلى حكوماته من ضمن منظومات وصاية أخرى واجهها وفككها. فقد وصل الحزب للحكم فائزاً بأغلبية البرلمان في أول انتخابات برلمانية يخوضها في تشرين الثاني/نوفمبر 2002، في واقع لا يختلف كثيراً عن واقع الأحزاب الأخرى التي سبقته إلى الاستهداف والحظر والإغلاق.

واجه العدالة والتنمية في بداياته ما واجهه سابقوه من نظم وصاية، منها العسكرية والقضائية والإعلامية، ومهما كرر أنه “خلع قميص” أو عباءة تيار “الميللي غوروش” أو الرأي الوطني الذي أسسه وقاده الراحل نجم الدين أربكان، إلا أنه عومل لمدة طويلة – وربما لا يزال – على أنه امتداد له كحزب “إسلامي” أو “محافظ” له أجندته السرية المخيفة.

في البدايات الأولى أدى حدث عادي مثل صلاة جماعة لنواب الحزب إلى ضغوط سياسية كبيرة عليه، وكذلك كون زوج رئيس البرلمان )بولند أرينتش حينها( محجبة وكيف يمكن أن تشارك في احتفال رسمي في القصر الرئاسي باعتبار ذلك تحدياً لعلمانية الدولة وخرقاً لقوانينها، فضلاً عن أزمة ترشيح عبدالله غل للرئاسة في 2007 لنفس السبب.

وفي كل أزمة من هذه الأزمات ومثيلاتها كان الإعلام بالتأكيد أحد أهم الأسلحة الموجهة للحزب واردوغان. اردوغان نفسه كان قد تعرض لحملة إعلامية قاسية حين حكم عليه بالسجن بسبب أبيات الشعر التي رددها، وكتبت إحدى أشهر الصحف “مانشيتاً” يقول: “لن يكون مختارَ حيٍّ حتى” مؤكدة من وجهة نظرها انتهاء حياته السياسية.

وفي بلد مثل تركيا كانت بعض “امبراطوريات” الإعلام فيها تفتخر أنها تسقط حكومات منتخبة بمانشيتاتها وسياساتها التحريرية، كان لا بد لمن يريد الاستمرار في الحكم أن يواجه ثم يفكك الوصاية الإعلامية، وهذا ما فعله العدالة والتنمية لاحقاً وبتدرج شديد. ما يمكن قراءته هنا هو أن الحزب أجَّل كل المواجهات الشائكة سنوات، حتى تحصَّلَ على إنجازات اقتصادية واستقرار سياسي أمّنا له حاضنة شعبية يرتكن إليها – جميعها – في أي مواجهة من هذا النوع.

ثمة خطوط عريضة وسياسات عامة انتهجها الحزب في هذه المواجهة أهمها:

أولاً، متابعة ملفات الفساد (الإداري والمالي) لعدد من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية، وتحريك دعاوى ضدهم.

ثانياً، ملاحقة المخالفات الإدارية والإعلامية لبعض الشخصيات والمؤسسات الإعلامية، وإغلاق بعضها إن احتاج الأمر لذلك.

ثالثاً، رفع قضايا في المحاكم على بعض الشخصيات والمؤسسات الإعلامية التي تخطت حدود الأدب أو الموضوعية الإعلامية بحق رئيس الوزراء – لاحقاً رئيس الجمهورية – أو حزبه، والمطالبة بتعويضات مادية عن ذلك. وقد كسب اردوغان أغلب هذه القضايا إن لم يكن كلها، حتى بات البعض يتندر ويقول أنه يصرف على حزبه من هذه التعويضات.

رابعاً، اشترت أوساط مقربة من الحزب أسهماً في عدد من وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، ما ساعد على تغيير رسالتها التحريرية ولغتها التحريضية، لتنقلب من خصم إلى نصير.

خامساً، وضعت الدولة يدها على بعض وسائل الإعلام المملوكة لرجال أعمال لوحقوا بسبب الفساد )جيم أوزان نموذجاً(، فساهمت مع التلفزيون الرسمي التركي، في تقديم تغطية موضوعية لعمل الحكومة بل وسياسية تحريرية داعمة للحزب ومنحازة له في معظم الأحيان.

سادساً، فتحت الحكومة الباب واسعاً لتأسيس منابر إعلامية جديدة، مقروءة ومسموعة ومرئية، حيث ساهمت حالة الحرية هذه في إثراء الواقع الإعلامي التركي، وخففت من وزن وسيطرة وسائل الإعلام القديمة وتأثيرها على الرأي العام[i].

 

 

الانتقادات

ثمة انطباع سائد وعميق في الغرب عموماً والدول الأوروبية خصوصاً بأن الحريات الصحافية في تركيا في أسوأ حالاتها، وأنها في تدهور مستمر تحديداً منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016، والسبب الرئيس الذي ساهم في خلق هذا الانطباع هو تقارير مؤسسات ومنظمات دولية معنية بالحريات عموماً والحريات الصحافية على وجه التحديد.

منظمة “مراسلون بلا حدود”Reporters Without Borders ، المهتمة بأوضاع الصحافيين والانتهاكات بحقهم في العالم، وضعت تركيا في المرتبة الـ 156 من أصل 180 دولة في التصنيف العالمي لحرية الصحافة لعام 2018، وعلى بعد درجتين فقط من “المجموعة السوداء” التي تضم مجموعة الدول التي يعتبر العمل الصحافي بها الأسوأ على الإطلاق[ii]. وتشير آخر الإحصاءات على موقع “مراسلون بلا حدود” إلى وجود 31 صحافياً تركياً ضمن الموقوفين خلف القضبان[iii].

وفي تقييمها للحريات الصحافية لعام 2018، ترى المؤسسة أن هناك “تراجعاً تاريخياً” في الحريات الصحافية في تركيا (وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق)، وتصف تركيا بأنها “السجن الأكبر للصحافيين في العالم”، معتبرة بأن الرئيس اردوغان استثمر المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016 ليضيّق على معارضيه خصوصاً من الإعلاميين[iv].

“بيت الحرية” أو Freedom House، وهي منظمة غير حكومية معنية بدعم وإجراء الأبحاث حول الديمقراطية والحريات الإعلامية، صنفت تركيا كبلد “غير حر” في العموم وكذلك “غير حر” بالنسبة للحريات الصحافية، بتقييم 5.5 من أصل 7 (1 هي العلامة الأفضل و7 الأسوأ)، مشيرة إلى تراجعها من دولة “حرة جزئياً” Partly Free إلى “غير حرة” Not Free، وواضعة إياها بذلك مع %25 من بلدان العالم المصنفين ضمن هذه الفئة[v].

وترى المنظمة أن الأسباب الرئيسة لهذا التراجع هي الاستفتاء الشعبي على النظام الرئاسي (نيسان/أبريل 2017)، وتعيين أوصياء على رئاسة بعض البلديات التي حوكم رؤساؤها، وما اعتبرته “محاكمات عشوائية” لنشطاء حقوق الإنسان ومن يعتبرون “أعداء للدولة”، و”تطهير” مؤسسات الدولة، ما يتسبب بتردد المواطنين – وفق التقرير – في إبداء آرائهم في مواضيع حساسة[vi].

أما “لجنة حماية الصحافيين” Committe to Protect Journalists المهتمة بنشر الحريات الإعلامية في العالم والدفاع عن حقوق الصحافيين، فتتناول الحريات الإعلامية في تركيا تحت عنوان “سجل القمع في تركيا” معتبرة أن العمل الصحافي في تركيا صعب في ظل ضغوطات على الإعلاميين المعارضين[vii].

وترى اللجنة أن الانقلاب الفاشل سرّع من عملية التضييق على الصحافيين في تركيا، مركزة على عدد وسائل الإعلام التي أغلقت والصحافيين الذين أوقفوا.

من المعايير الفرعية التي تعتمدها المنظمات المهتمة بالحريات الإعلامية “ملكية وسائل الإعلام” ومدى تنوع تبعيتها بين الأسماء والخلفيات والتيارات السياسية والمجتمعية، بما يضمن تعددية في تناول الخبر تشكل إسهاماً في وصول الأخبار وخلفياتها للمواطن كأحد أهم حقوقه وأحد أبرز معايير الديمقراطية على حد سواء.

في هذا الإطار، فقد رصد تقرير لمنظمة مراسلون بلا حدود عام 2016 أن 7 من أصل أكثر 10 صحف تركية مقروءة في حينه تعتبر مقربة من الحكومة، بينما 3 منها فقط تعتبر معارضة[viii]. فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار صفقة بيع مجموعة “دوغان الإعلامية التي كان يملكها أيدن دوغان لمجموعة “دميرأوران” التي يملكها رجل لأعمال المقرب من الحكومة اردوغان دميرأوران في صفقة هي الأكبر من نوعها في تركيا (مقابل 1.2 مليار دولار) العام الفائت[ix]، ستكون هذه النسبة أكبر بكثير، حيث تضم تلك القائمة صحيفتي “حريت” و”بوستا”، بما يجعل نسبة الصحف المقربة من الحكومة 9 من أصل 10 (%90) في حال افترضنا عدم تغير نسبة القراءة للصحف في السنتين الأخيرتين (ليس هناك تقييم مشابه مؤخراً).

 

أسباب وسياقات

المحاججة الرئيسة التي تقدمها تركيا في الرد على الانتقادات المتعلقة بحرية الصحافة واعتقال الصحافيين هي التحيز وازدواجية المعايير وعدم دقة المعلومات أو الإحصاءات، إضافة طبعاً لرفض ودحض فكرة الدكتاتورية التي يتهم بها اردوغان بعدة طرق.

هذه السردية لها رصيد في الواقع، حيث تتجاهل تقارير تلك المنظمات الحالة الاستثنائية التي مرت بها تركيا فيما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016 بكل دمويتها واستثنائيتها وسلبياتها وتصدر تقييمها بمعزل عن هذا السياق الرئيس. من جهة أخرى، يصعب فهم كيف تكون تركيا في المركز الـ 157 على بعد أربع محطات فقط من مصر (161) التي عرفت انقلاباً عسكرياً دامياً وإقصائياً لأي صوت معارض ولو من داخل بنية النظام بما في ذلك الصحافيون الذين غيب المئات منهم خلف القضبان ووجهوا تهماً بدعم الإرهاب وأحكاماً بالإعدامات والمؤبدات.

لكن الحقيقة أن الترصد والتقصد قد يفيدان في تفسير بعض التقارير لكن ليس كلها، كما أن ازدواجية المعايير – الموجودة فعلاً في الممارسة العملية – لا تكفي لوحدها لدحض الانتقادات وتفنيدها، فضلاً عن أن هذا الدفع يتضمن قبولاً ضمنياً بالاتهامات )الازدواجية تعني أن نفس الانتهاكات تفعلها أنظمة أخرى ولكن لا تستحث نفس الانتقادات، ولا تدعي بأن الانتهاكات غير موجودة(. الأهم أن هذه الازدواجية لها ما يبررها جزئياً، وهو الوصائية الأوروبية “القانونية” على تركيا، باعتبارها دولة متقدمة لعضوية الاتحاد الأوروبي وتجتاز مسار التفاوض للانضمام وبالتالي فهي تحت المراقبة الأوروبية للتقييم الدوري في عدة مجالات.

والحال كذلك، ينبغي أن يكون هناك أطر تفسيرية أخرى غير ما قيل لتفسير الأرقام والتقارير و/أو الرد عليها، بما يمكن أن يؤدي لنتيجة اكثر دقة في الحكم على مدى مصداقيتها. والحقيقة أنه توجد أربعة أسباب رئيسة إضافية تساهم في تفسير هذا العدد الكبير من الصحافيين الموقوفين، هي:

أولاً، ليس كل الموقوفين من الصحافيين وإن عرّفوا عن أنفسهم كذلك، وفق سردية الحكومة، والأهم أن توقيفهم لم يأت – تقول الحكومة – بسبب عملهم الصحافي وإنما لأسباب أخرى، وهو أمر لا نجد له اهتماماً أو بحثاً/تدقيقاً في التقارير المذكورة.

ثانياً، مواد الدستور التركي، وهو دستور 1982 الذي وضعته زمرة انقلاب 1980 مع بعض التعديلات منذ ذلك الحين، تبدو فضفاضة وعامة جداً حين يتعلق الأمر بقضايا الأمن القومي والإضرار بالدولة وتعريف الإرهاب.

فالمادة 22 من الدستور مثلاً، حول الحريات الإعلامية، تنص على أن كل مواطن يتمتع بحرية تبادل المعلومات، وأنه لا يمكن منع تداول المعلومات أو المس بسريتها إلا بقرار قضائي. لكن المادة نفسها تذكر مثل “الأمن الوطني” و”النظام العام” وغيرهما ضمن دوافع القاضي للتدخل ومنع تداول بعض المعلومات أو المس بسريتها[x].

المادة 26، المتعلقة بحرية التعبير عن الرأي، أيضاً تنص بوضوح على حق الفرد والمجموع بالتعبير عن آرائه وقناعاته بشتى الوسائل وبما يشمل عمل وسائل الإعلام. لكنها كذلك تنص على إمكانية تحديد هذا الحق بمسوغات مثل “الأمن الوطني”، “النظام العام”، “الأمن العام”، “حماية سمات الجمهورية الأساسية ووحدة الوطن والشعب” وغيرها[xi].

ولئن كانت هذه النصوص الدستورية متبعة في معظم البلدان وليست بدعة تركية، باعتبار أن الدساتير تميل للتكثيف والتعميم، إلا أن المعارضين والمؤسسات الدولية يحتجون بأن هذه النصوص الفضفاضة تؤدي إلى التوسع في تطبيق الإجراءات المضيّقة على وسائل الإعلام وحرية تبادل المعلومات والتعبير عن الرأي، في ظل الظروف الاستثنائية التي مرت وتمر بها تركيا في السنوات الأخيرة، لا سيما مكافحة “المنظمات الإرهابية” داخل وخارج تركيا وفي مقدمتها منظمة حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب وداعش والكيان الموازي.

ثالثاً، استثنائية الكيان الموازي (أو جماعة الخدمة) من جهة أنها منظمة سرية ممتدة في مختلف قطاعات ومؤسسات الدولة وفق نظام هرمي تراتبي داخلي غير معلن، بحيث يمكن أن يكون أحد الأكاديميين أو الصحافيين مسؤولاً عن جرائم وجنح عديدة. ولعل المثال الأبرز على ذلك أن المتهم رقم واحد من بين من شاركوا ميدانياً في المحاولة الانقلابية الفاشلة هو عادل أوكسوز، وهو أكاديمي يدرّس العلوم الشرعية (الإلهيات كما تسمى في تركيا) ولكن يُعتقد أنه مسؤول أو “إمام” القوات الجوية في الجماعة ومن أدار قاعدة “أكينجي” الجوية التي كانت تقود الانقلاب الفاشل في تلك الليلة[xii].

فيما يتعلق بالإعلاميين الموقوفين، هناك مثال مهم جداً لهذا المعنى، بما يعقّد من عمل السلطات التركية في عملها ويدعم وجهة نظرها في أن بعض الإعلاميين ارتكبوا فعلاً جنحاً بعيدة عن العمل الإعلامي البحت وأنهم أوقفوا لذلك لا لعملهم الصحافي.

نازلي إيليجاك (برلمانية سابقة) والأخَوان ألتان (محمد وأحمد ألتان) هم أشهر الإعلاميين الموقوفين في تركيا. في برنامج حواري شارك به الثلاثة على قناة “جان أرزنجان” المقربة من جماعة الخدمة قبل يومين فقط (!) من المحاولة الانقلابية الفاشلة تبشر إيليجاك الموقوفين من جماعة الخدمة بأنه “عليهم أن يثقوا بأنهم سيخرجون من ظلمات السجن”. في نفس اللقاء، يقول أحمد ألتان إن “اردوغان اليوم يتخذ نفس القرارات التي تفتح الباب للتطورات التي أدت سابقاً إلى الانقلابات العسكرية”. بينما يقول شقيقه محمد بوضوح إن هناك “كياناً داخل الدولة التركية يتابع ويوثق كل هذه التطورات.. وليس معروفاً متى وكيف سيسفر عن وجهه ويعلن عن نفسه”، وحين يقول شقيقه إن اردوغان قد يغادر السلطة في الانتخابات بعد عامين، يقاطعه قائلاً “لا أحد يعرف ماذا قد يحصل قبل ذلك التاريخ”[xiii].

هذه التصريحات، التي اعتبرها القضاء التركي ضمن القرائن على علاقة الصحافيين الثلاثة بالكيان الموازي ومعرفتهم المسبقة بقرب محاولة الانقلاب، تشير بوضوح إلى صعوبة التفريق عملياً بين الضباط الذين نفذوا الانقلاب وبين بعض الصحافيين وإلى أن بعض الحصافيين كانت لهم – فيما يبدو – أدوار أخرى غير العمل الصحافي بما يفتح الباب على توقيفهم ومقاضاتهم.

حتى قضية الصحفي جان دوندار وصحيفة جمهوريت التي نشرت صوراً لسيارات تابعة لجهاز الاستخبارات التركية متوجهة إلى سوريا، والتي تبدو كعمل صحافي رقابي على عمل الحكومة وأجهزتها، تقول الحكومة التركية إن لديها ما يثبت أنها عمل تجسسي أكثر منه صحفياً، حيث سربت المعلومة للصحيفة التي نشرت صوراً وفيديوهات وسردية متكاملة تخدم فكرة أن “تركيا ترسل سلاحاً لمنظمات إرهابية في سوريا” التي بدأت تروج في الغرب[xiv].

 

خاتمة

ختاماً، يتضح مما سبق صعوبة تناول ملف الحريات الإعلامية في تركيا ضمن قوالب جاهزة مسبقاً للتقييم، وأن الملف معقد حيث تتداخل فيه عدة عوامل. فلا يمكن من جهة إنكار عدد الصحافيين الموقوفين الكبير وتغير خريطة الإعلام التركي في السنوات القليلة الأخيرة، لكن لا يمكن عزو هذه الظاهرة من جهة أخرى فقط إلى سياسات حكومية تعمل على تضييق الحريات الإعلامية.

فكما أن الحريات، بما فيها ما يتعلق بعمل الإعلام، ينبغي أن يكون مكفولاً نظرياً وعملياً، فإنه لا يمكن كذلك ادعاء الحصانة للصحافي أو الإعلامي مهما فعل. فالحصانة تتعلق فقط بعمله الصحافي دون صك براءة له من أي جرم قد يرتكبه كإنسان ومواطن عادي.

في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى ثلاثة نقاط قد تكون مهمة لاستكمال الصورة:

الأولى، ضرورة أن تكون القوانين واضحة وبيّنة فيما يتعلق بحدود العمل الصحافي وحريته وما يمكن أن يمس فعلاً بالأمن القومي والنظام العام، ولا يترك ذلك لاجتهادات القضاة، بما يضمن على المدى البعيد دوراً أكثر فاعلية للإعلام وحماية أكثر للحريات الإعلامية والحريات العامة.

الثانية، أن النظام الرئاسي بطبيعته يعطي سلطات وصلاحييات أوسع للسلطة التنفيذية، ما يزيد من أهمية آليات التوازن والرقابة، ليس فقط عبر البرلمان والجهاز القضائي، ولكن أيضاً من خلال الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، ما يزيد من أهمية ما سبق قوله لا سيما في النصوص الدستورية والممارسة العملية وتعددية وسائل الإعلام.

الثالثة، بعد أكثر من عامين من المحاولة الانقلابية الفاشلة وبعد أن تراجع خطر الكيان الموازي إلى حد كبير، تحتاج تركيا إلى مقاربة مختلفة في مواجهة  هذا الكيان تمايز بين مستويات عدة في علاقة الكثيرين به كقيادات أو أعضاء أو مناصرين، بحيث يحاكَم كل مذنب من جهة ويحتوى كل بريء ويعاد للمجتمع، وفقاً للمعادلة التي رسمها الرئيس التركي مرة واصفاً جماعة الخدمة أو الكيان الموازي بأنها ثلاث طبقات: أدناها الخدمة (المخدوعون)، وأوسطها التجارة (رجال الأعمال)، وأعلاها الخيانة (القيادات المتنفذة).

[i]  سعيد الحاج، تركيا ومصر والإعلام: https://bit.ly/2MlbXho

[ii] Reporters With Borders, 2018 World Press Freedom index: https://rsf.org/en/ranking

[iii] Reporters With Borders, Journalists imprisoned: https://bit.ly/2HkEuoK

[iv] Reporters With Borders, RSF Index 2018: Historic decline in press freedom in ex-Soviet states, Turkey:  https://bit.ly/2qWXnTO

[v] Freedom House, Freedom in the world 2018, Turkey: https://bit.ly/2HFNpxm

[vi]  المصدر السابق.

[vii] Committe to Protect Journalists, Turkey Crackdown Chronicle: Week of January 13, 2019:  https://bit.ly/2FC9w9E

[viii] Media Ownership Monitor, Türkiye: https://bit.ly/2MiRz0u

[ix]  الصفقة الأكبر من نوعها في تركيا.. بيع مجموعة دوغان الإعلامية بـ 1.2 مليار دولار، ديلي صباح، 28 آذار/مارس 2018:  https://bit.ly/2W1pqj4

[x]  موقع مجلس الأمة التركي الكبير (البرلمان)، الدستور: https://bit.ly/2AV93LV

[xi]  المصدر السابق.

[xii]  من هو عادل أوكسوز “الصندوق الأسود” لغولن المختفي منذ 45 يوماً، تركيا الآن، 1 أيلول/سبتمبر 2016: https://bit.ly/2RYJQtK

[xiii]  رابط الحلقة على يوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=GYe1GRGQMWY

[xiv]  “إفشاء سر الدولة” تقود جان دوندار لـ 5 سنوات سجن، TRT عربي، 6 أيار/مايو 2016: https://bit.ly/2sDGbTL

شارك الموضوع :

اترك رداً