سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

العلاقات التركية – الأمريكية أقوى من القطيعة

0

 

العلاقات التركية الأمريكية أقوى من القطيعة

 

عربي بوست

ينظر الأتراك للأزمة الحالية مع واشنطن على أنها الأخطر بين الجانبين منذ عقود، أي منذ حظر الولايات المتحدة تصدير السلاح لتركيا عام 1975. بل يذهب بعضهم إلى أن الحالية أعقد وأخطر من السابقة، باعتبار أن الأولى كانت بسبب تدخل تركيا في قبرص عام 1974 وفرضت بناء على طلب وتصويت الكونغرس بينما الحالية بسبب خلافات تمس العلاقات الثنائية وتعارض المصالح وتقف خلفها إدارة ترمب مع الكونغرس.

ومهما يكن من أمر، فأسلوب تعامل الإدارة الأمريكية الحالية مع تركيا وحديث ترمب عن أن “تركيا ليست صديقة للولايات المتحدة”، بعد عقوبات على وزيرين في حكومتها، ورفع لرسوم الألومنيوم والصلب، وفي ظل التهديد بعقوبات إضافية قريباً، كلها عوامل تشير إلى أن العلاقات التركية – الأمريكية في أزمة حقيقية.

في هذه الأزمة، يبدو القس برونسون الذي تطالب واشنطن بإطلاق سراحه مجرد ذريعة وتراجع الليرة التركية عرضاً أو نتيجة، أما الأسباب فكثيرة ومعقدة. المعضلة الرئيسة أن البلدين العضوين في حلف الناتو والشريكين الاستراتيجيين منذ1995 لم يصلا لرؤية مشتركة حول إطار ومستوى علاقاتهما في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وخصوصاً في السنوات الأخيرة. فالولايات المتحدة تريد الاستمرار بعلاقة أقرب لمنطق الحرب الباردة كقائد للحلف أو كقطب أوحد للعالم، بينما تريد تركيا علاقة أكثر ندية وتوازناً بعد ما حققته لنفسها مؤخراً. بمعنى، أن ظروف وشروط الحرب الباردة وتسعينات القرن الماضي لم تعد قائمة، لكن الطرفين لم يؤسسا بعد لعلاقة مختلفة تناسب المتغيرات.

لا شك أن البعد الاقتصادي في الأزمة الحالية حاضر بقوة بعد التدهور الحاصل لليرة التركية بفعل التهديدات ثم العقوبات الأمريكية، لكنه ليس الأصل ولا السبب الرئيس في الأزمة. أولاً لأن مستوى الاستهداف الأمريكي لم يصل لدرجة تهديد الاقتصاد التركي بالانهيار وإنما كان أشبه بـ”قرصة أذن” لأنقرة أثرت على عملتها، وثانياً لأن ثمة أسباباً لهذا التدهور أكبر من مجرد التدخل الأمريكي وهي أسباب لها علاقة ببنية الاقتصاد التركي وطبيعته ومشاكله، وثالثاً لأن أسباب الخلاف أكبر بكثير من التصعيد الحالي وتعود جذورها لسنوات.

تحفظات أنقرة على الإدارة الأمريكية )السابقة والحالية(تشمل قضايا عدة أهمها المماطلة في تسليم كولن المقيم على أراضيها والمتهم بالمسؤولية عن الانقلاب الفاشل في 2016، والدعم الكبير المقدم للفصائل الكردية المسلحة في سوريا ذات العلاقة العضوية مع حزب العمال الكردستاني، فضلاً عن قضايا أخرى مثل التحقيق مع الحرس الشخصي لاردوغان وقضية بنك “خلق” والمماطلة في بيعها السلاح…الخ.

في المقابل، تبدو واشنطن منزعجة من التقارب الكبير بين إحدى دول الناتو )والقوة الثانية فيه بعدها( مع موسكو لدرجة وصلت إلى مشاريع اقتصادية عملاقة متعلقة بالطاقة مثل محطة أككويو للطاقة النووية ومشروع السيل التركي للغاز الطبيعي وشراء سلاح استراتيجي مثل منظومة S400 الدفاعية، ومن رفضهادعم العقوبات على إيران لأضرارهاالمباشرة عليها، فضلاً عن اختلاف وجهات النظر بخصوص عدد من ملفات المنطقة وفي مقدمتها القضية السورية.

ترى الولايات المتحدة في تقارب تركيا مع روسيا وبدرجة أقل إيران مشكلة كبيرة، وترى تركيا أن ذلك محض عرض أو نتيجة لتجاهل أصدقائها الغربيين مصالحها وأمنها القومي.يمكن القول إن هناك أرضية متوترة في علاقات الطرفين منذ سنوات، لا تلبث أن تنفجر بين الحين والآخر لسبب أو لآخر، مثل توقيف أنقرة أحد عاملي القنصلية الأمريكية في إسطنبول أو قضية القس برونسون مؤخراً.

لكن، هل يعني كل ذلك أن العلاقات بين البلدين متجهة للقطيعة الكاملة؟ لا أعتقد ولا أرى مؤشرات قوية على ذلك.

فتركيا تدرك الهوة  السحيقة في موازين القوى وتعلم أن رئيساً كترمب لا يؤمن جانبه، وقد أبدت مراراً استعدادها للحوار حول المشكلات القائمة مع واشنطن، بمعنى أن فكرة التوصل لتسوية حاضرة لدى أنقرة ولكن ليس على قاعدة الرضوخ للضغوط والإذعان للتهديدات. وقد تردد ذلك المعنى على ألسنة المسؤولين الأتراك بدءاً من اردوغان ومروراً بالناطق باسم الرئاسة ووزير الخارجية، كما شكلت أنقرة وفداً زار الولايات المتحدة لهذا الهدف وإن لم تتكلل زيارته بالنجاح، فضلاً عن القناة الدبلوماسية المباشرة من خلال وزير الخارجية اتصالاً ولقاءً وتصريحات.

أمريكياً، هناك بعض الوجاهة في إحالة جزء من المشكلة الحالية للضغوط التي يواجهها ترمب في الداخل، وفي مقدمتها التحقيق معه إضافة لقرب الانتخابات النصفية للكونغرس في تشرين الثاني/نوفمبر القادم. ما يعني أن الأزمة وإن كانت مرشحة للاستمرار حالياً، إلا أنها قد تتراجع نسبياً بعد الاستحقاق الانتخابي أو قبله لأي أسباب أخرى.

الأهم، أن العلاقات بين البلدين بنيت على مدى عشرات السنوات وتبدو اليوم أكبر وأقوى من أن تهدد بنسفها أزمة من هذا القبيل. ما زالت تركيا تشكل للكتلة الغربية )إن كان ما زال ممكناً استخدام المصطلح(وخصوصاً للولايات المتحدة دولة عازلاً لها عن الشرق الأوسط ومواجهاً للنفوذ الروسي. تستفيد واشنطن من الأدوار التي تلعبها أنقرة في الشرق الأوسط لكن أكثر في البلقان والقوقاز وهما منطقتان مهمتان لمواجهة موسكو بالنسبة لواشنطن.

الجهود التركية أيضاً في مجال “مكافحة الإرهاب” والتعاون الاستخباري والمشاركة في مهام الحلف من الأمور التي يصعب الزهد فيها أمريكياً، فضلاً عنقاعدة إنجيرليك العسكرية في جنوب تركيا ذات الأهمية الحساسة في عمليات واشنطن والحلف في سوريا والمنطقة وغيرها من القواعد العسكرية الأمريكية و/أو الأطلسية على الأراضي التركية التي تعتبر من أوراق أنقرة المهمة. العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، والدور التركي المهم في أي مسار سياسي لحل الأزمة السورية وإعادة اللاجئين وعملية الإعمار، وحاجة الولايات المتحدة لتعاون تركيا أو على الأقل تحييدها في مواجهة إيران إن كانت جادة في ذلك من أوراق القوة التركية والمصالح المشتركة أيضاً.

في المقابل، وإضافة لكونها القوة العظمى في العالم ومع خلفية العلاقات بين الطرفين على مدى عقود، فما زالت الولايات المتحدة بالنسبة لتركيا قائدة حلف الناتو، وشريكاً اقتصادياً مهماً، ومصدراً أهم للسلاح، وموازناً مهماً للدور الروسي الذي لا يمكن لأنقرة أن تطمئن له بالكامل رغم التفاهمات والتقارب، وطرفاً لا يمكن الاستغناء عن التواصل معه ضمن جهود منع تأسيس دولة “كردية” في الشمال السوري، فضلاً عن الدور الأمريكي في عدد من الملفات والقضايا المهمة بالنسبة لأنقرة وفي مقدمتها السورية.

في المحصلة، صحيح أن العلاقات التركية – الأمريكية تمر حالياً بفترة تصعيد وأزمة غير مسبوقة، وصحيح أن هذه العلاقات لن تعود يوماً لماضيها خلال الحرب الباردة أو بعدها مباشرة، وصحيح أنها مرشحة لبعض التصعيد والعقوبات الإضافية ربما، وصحيح أن منحاها سيستمر في الاتجاه السلبي التدريجي كما كان على مدى السنوات القليلة الأخيرة، لكنها ليست مرشحة أبداً للقطيعة الكاملة ولا المواجهة الكاملة ولا للانحياز والانزياح التركي الكامل نحو روسيا مثلاً، على الأقل في المستقبل القريب. فمصلحة تركيا وقدرها الحالي وفي المدى المنظور هو الإبقاء على التوازن قدر الإمكان في سياستها الخارجية وتحديداً بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية أو بين الشرق والغرب، فهو يمنحها مرونة وتوازناً يؤمنانمساحات من الاستقلالية والمناورة لقرارها وسياساتها.

شارك الموضوع :

اترك رداً