سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

في المفاضلة بين “إسرائيل” وحزب الله

0

 

في المفاضلة بين “إسرائيل” وحزب الله

 

عربي 21

قد يبدو العنوان غريباً للبعض، وسيبدو التطرق لهذا الموضوع بالتأكيد دخولاً في “عش الدبابير” بالنسبة للكثيرين، وهم على حق، فالخوض في هذه المواضيع الحساسة في ظل حالة الاستقطاب حادة السقف مغامرة، لكن أرجو أن تكون محسوبة.

ثمة نقاش ساخن يدور منذ أيام حول الموقف المفروض اتخاذه في حال نشبت مواجهة عسكرية بين دولة الاحتلال الصهيوني وحزب الله في لبنان، وهو نقاش لم يكن موجوداً – إلا باستثناءات بسيطة لا يبنى عليها – في 2006، أي قبل تدخل الحزب لصالح النظام في سوريا.

اليوم، ثمة نبرة عالية ومنتشرة جداً تقول إن الحزب قد أجرم في سوريا بما لا يترك أي مجال للتعاطف معه أو الوقوف لجانبه حتى في حرب اعتداء صهيونية عليه في لبنان. وهي نبرة عابرة للدول والتوجهات السياسية، فليست مقتصرة على السوريين الذين اكتووا بنار الحزب ولا على تيار سياسي بعينه، وإنما نجدها منتشرة بين شباب ومواطني عدة دول عربية ومن مختلف التوجهات.

هذه هي الملحوظة الأهم برأيي، والتي يجب على حزب الله قبل غيره التفكر والتفكير بها ملياً. بمعنى أنه فقد رصيده الأخلاقي ومصداقيته عند الكثيرين في عموم العالم العربي كحركة مقاومة ضد الاحتلال وساعية للحرية، بعد موقفه المعاكس تماماً في سوريا. سيقول الحزب إنه كان مضطراً للتدخل في سوريا وأن هناك مبالغات في تصوير هذا التدخل (وأنا ممن يرون أن هناك مبالغات فعلاً في بعض التفاصيل)، لكن الأمر لا يقاس بما فعله الحزب كمياً على مستوى المعارك والقتلى والجرحى بقدر ما يوضع في سياق مناصرته لنظام كان السبب الأبرز والأكبر في مقتل مئات آلاف السوريين وتهجير نصف الشعب وتدمير سوريا واستجلاب التدخل الخارجي.

يحتاج الحزب أن يفكر في ذلك ملياً، والتفكير أكثر في طريق العودة عن هذا المسار، ليس على طريقة “خلصت في سوريا” وإعلان “الانسحاب بعد الانتصار”، وإنما على قاعدة المراجعة والتقييم والاعتذار والتصحيح ما أمكن. فهو في النهاية حزب لبناني وجزء من البلد والمنطقة، ولا يمكن له إلا أن يحسب حساب المصداقية والقاعدة الشعبية والحاضنة الاجتماعبة مهما كانت السياسة والعسكرة طاغيتين على حساباته.

إذن، فتدخل حزب الله في سوريا ليس مبرراً بل هو مُدان ومُجرَّم، ولكن هل يعني ذلك أن نشجع عدواناً صهيونياً (أو سعودياً كما يشاع) على الحزب أو على الأقل أن نقف على الحياد في معركة مفترضة مثل تلك من باب “اللهم اضرب الظالمين بالظالمين” كما يردد البعض؟

ينبغي أولاً الإشارة إلى أن حرباً وشيكة على الحزب في لبنان ليست أمراً مقطوعاً به بل لا أراها مرجحة في المستقبل القريب، وإن كانت هناك إشارات عديدة على ذلك، فقد يكون الأمر في نهايته مجرد ضغط للحصول على تسوية بشروط أفضل، كما جاء في حديث الحريري مع تلفزيون المستقبل. لكنني هنا أناقش المنطلقات التي يجب أن تصوغ الموقف من هذه الحرب المفترضة، سواء حصلت أم لم تحصل، فهذا احتمال سيبقى قائماً إن لم يكن اليوم فغداً، ولعل نقاش منطلقات الموقف ومسوغاته ومحدداته أهم – برأيي – من مجرد إعلان موقف قد لا يقدم ولا يؤخر في المشهد.

في البداية، ليس هناك لوم على من لم يعد يرى في حزب الله حركة مقاومة بل جزءاً من منظومة القوة الإيرانية في المنطقة التي تتواجد في عدة دول عربية (بغض النظر عن الموقف من القوة المواجهة لها: السعودية)، سيما من الإخوة السوريين. لكن تجب الإشارة إلى أن الأمر ليس بهذا التبسيط ولا حدّيّة الأبيض والأسود بل هو في غاية التعقيد، سيما وأن الطرف الآخر في المعادلة هو الكيان الصهيوني.

أضع هنا بعض النقاط – باختصار أرجو ألا يكون مخلاً – أراها مهمة في قراءة المشهد:

أولاً، لا دور الحزب في مواجهة دولة الاحتلال يبرئ ساحته في سوريا ولا تدخله فيها ينفي دوره في مواجهة “إسرائيل”. كثير من الكيانات السياسية لها أكثر من وجه ودور ودائرة انتماء، ولا ينفي بعضُها بعضَها الآخر، وأرى أن حزب الله له وجهان: الأول في مواجهة “إسرائيل” (وليس بالضرورة بالشكل الذي نتصوره أو نريده نحن) والثاني في إطار المشروع الإيراني الذي لا ينفي الحزب انتماءه له وائتماره بأمره.

ثانياً، إن أي اعتداء صهيوني على الحزب هو في حقيقته على لبنان، وبالتالي فالموقف الذي نتحدث عنه هو من اعتداء صهيوني على دولة عربية، وهو موقف لا يحتاج كثير تفكير وحسابات برأيي. ولأن حزب الله لا يقيم في الجبال ولا الكهوف، بل هو جزء من الشعب اللبناني وله حاضنته الشعبية ومؤسساته القائمة، فأي عدوان عليه/على لبنان سيكون له تكلفة بشرية باهظة فضلاً عن الفاتورة العسكرية والسياسية والاقتصادية.

ثالثاً، إن إدانة تدخل الحزب في سوريا إلى جانب النظام وضد الشعب تفرض الوقوف إلى جانبه وجانب الشعب اللبناني بنفس المنطق والمبدأ، وليس العكس. فموقفنا هو رفض التدخل الأجنبي بكل أشكاله، ولعل نتائجه الكارثية في سوريا أكبر من أن تخفى، فكيف إن كان هذا الأجنبي هو الكيان الصهيوني؟.

رابعاً، الكيان الصهيوني مشروع غربي استعماري إحلالي وهو أكبر خطر على المنطقة برمتها فالصراع معه صفري وعلاجه لا يكون إلا بالبتر، بينما الحزب جزء من المنطقة وشعوبها ورغم الخصومة معه فإن الحل – في نهاية المطاف – لن يكون إلا بالتعايش وفرض الاحترام المتبادل، ولو أتى ذلك بعد حروب ومواجهات. فكثير من الحروب الأهلية والمواجهات العسكرية الدامية تنتهي إلى تسويات تاريخية يقدم الجميع فيها تنازلات ويبتعدون عن معادلة الصراع الصفري الذي ينهك الجميع ولا ينصر أحداً.

خامساً، لا يدخل الكيان الصهيوني أي مواجهة عسكرية إلا لحساباته الخاصة وخدمة لأهداف مشروعه، وبالتالي فلا عائد سيستفيد منه أي متضرر من الحزب وإيران، وبدائل الأول في لبنان ليست بالضرورة أفضل منه.

سادساً، إن الموقف الأخلاقي الذي تتلبسه العاطفة أحياناً كثيرة ينبغي ألا يغيّب الحسابات العملية والمنطقية لمآلات الأمور. فالموضوع ليس مجرد مواجهة الحزب (ليس عقابه على تدخله في سوريا بالتاكيد) وإنما مشروع إقليمي كبير يجري التحضير له منذ فترة على قدم وساق، من ضمنه القضاء على المقاومة الفلسطينية أيضاً وتصفية القضية، كما أن له تداعياته على كامل المنطقة وفي القلب منها القضية السورية. ولعله من المفيد التفكير بعمق عن أسباب “مواجهة إيران” في لبنان تحديداً وليس في سوريا أو العراق أو اليمن، وأسباب العقوبات الأمريكية على الحزب تحديداً ومحاولات تصنيفه على قوائم الإرهاب دون غيره من الفصائل المحسوبة على إيران، وأعتقد جازماً أن السبب الحقيقي هو مصلحة “إسرائيل” وليس مواجهة إيران.

سابعاً، يعلمنا القرآن أن نفرح لانتصار أهل الكتاب (الروم) على عبدة النار (الفرس) باعتبارهم أقرب لنا، فكيف يمكن أن يكون موقفنا محايداً تماماً بين عدو صهيوني وبين “قريب” باغٍ.

في الختام، لا أكتب هذا الكلام لأنني فلسطيني لا يهمني – حاشا – دم الأشقاء السوريين ولا ما حل ببلدهم وقضيتهم، ولا لأنني أنظر من عدسة ضيقة لا ترى إلا فلسطين ولا تهتم للقضايا العربية والإسلامية الأخرى، فمن يتابع مقالاتي يعرف ما هي مواقفي وآرائي. وإنه لشيء مؤسف أن يضطر المرء للتأكيد على مواقفه قبل قول رأيه ليحاول التخفيف قدر الإمكان من موجة التخوين والشتائم التي سيتعرض لها (لا يمكن منعها تماماً كما يبدو لي). لكنها في النهاية أمانة الكلمة والشعور بالمسؤولية والدعوة للتفكير ملياً وعميقاً فيما يُخطط لهذه المنطقة/الأمة.

ليس مطلوباً من أحد الوقوف إلى جانب حزب الله بالمعنى الحرفي المجرّد وكأننا في مباراة كرة قدم بين فرقين، بل الوقوف في مواجهة العدوان الصهيوني – إن حصل لا قدر الله – ورفض المشاريع المشبوهة من تطبيع وغيره، والوقوف أولاً وأخيراً ضد العدوان على دولة عربية من قبل الكيان الصهيوني أو أي من حلفائه الجدد، ولعل ذلك مما لا ينبغي أن تدخل فيه الكثير من الحسابات المعقدة.

شارك الموضوع :

اترك رداً