سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

بين وعد بلفور ووعد محمود عباس

0

 

 

بين وعد بلفور ووعد محمود عباس

 

المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

يلجأ بعض السياسيين لمخاطبة الرأي العام العالمي في محطات سياسية أو تاريخية مهمة عبر كتابة مقالات في صحف عالمية واسعة الانتشار، وهو ما فعله الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الذكرى المئوية لوعد بلفور (وعد بريطانيا العظمى) في صحيفة الغارديان البريطانية.

تأتي أهمية المقال – إضافة لاختيار الغارديان لنشره – على هامش الحملة المُطالِبة للحكومة البريطانية بالاعتذار من الشعب الفلسطيني عن هذا الوعد وتبعاته المستمرة حتى اليوم على مختلف الصعد، سيما مع إصرار رئيس الوزراء البريطانية تيريزا ماي على “الاحتفال” التقليدي بذكرى الوعد الذي وضع الأساس للكيان الصهيوني على أرض فلسطين.

لا أجدني محتاجاً لكثير إسهاب في الآثار الكارثية للوعد وما ترتب عليه، فهو مما يعرفه الفلسطينيون ويعيشونه منذ عشرات السنين، وهو مما سرد بعضه عباس في مقاله المذكور، في محاولة لوضع الحكومة البريطانية أمام مسؤولياتها، داعياً إياها للاعتذار و”تصحيح الخطأ التاريخي”.

وبعيداً عن جدل صوابية فكرة المطالبة بالاعتذار ومدى فائدتها رمزياً وشعبياً وإعلامياً وسياسياً، إلا أنني أجدها مفارقة كبيرة أن من يطالب الحكومة البريطانية بالاعتذار وتصويب الخطأ في مقاله هو أجدر وأجدى وأحوج أن يراجع ويقيّم ويعتذر ويصوّب الأخطاء التاريخية الكارثية التي كان جزءاً رئيساً من المنظومة التي تسببت بها وأدامتها حتى يومنا هذا وما زالت مُصرّة عليها.

نعم، إن وعد الحكومة البريطانية في الثاني من تشرين الثاني/نوفمر 1917 بوطن قومي لليهود على أرضنا على لسان وزير خارجيتها آرثر بلفور كان اللبنة الأولى في اغتصاب الحق الفلسطيني، لكن ما الذي فعلته اتفاقية أوسلو ومسارها السابق عليها والخطوات اللاحقة حتى يومنا هذا بالقضية الفلسطينية، سيما وأن السيد محمود عباس هو “مهندس الاتفاقية” كما هو معروف وأكبر المُصرّين عليها والمدافعين عنها حتى اليوم؟

فاتفاقية أوسلو، التي سوِّقت عام 1993 على أنها أولى خطوات تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني، اعترَفت – مجاناً وبلا ثمن أو عائد حتى – بالعدو الصهيوني وتنازلت عن %78 من أرض فلسطين التاريخية ووضعت الباقي على طاولة المفاوضات، وحسّنت صورة العدو وأظهرته وكأنه يريد السلام والحل، وفتحت له أبواباً كانت موصدة في آسيا وإفريقيا والعالم ورفعت بعض الحرج عن بعض الدول العربية بالتعامل مع، وقدّمت غطاءً للمشروع الإستيطاني الإحلالي عبر المستوطنات/المستعمرات وتهويد القدس، وقوّضت إمكانية بناء اقتصاد فلسطيني عبر ربطه مباشرة بالاحتلال، وأعاقت مقاومته ومشروع دحره من خلال التعاون والتنسيق الأمني معه، وكانت أقسى ضربة وجِّهت للمشروع الوطني الفلسطيني ووحدة الشعب وقواه وكانت محطة “الانقسام” الأبرز والأقسى بين الفلسطينيين والتي لا تزال تداعياتها مستمرة حتى اليوم.

ألا تكفي 24 من السنوات العجاف في ظلال أوسلو وما آلت إليه القضية الفلسطينية خلالها ووصولها لحائط مسدود وفق اعتراف المشاركين بها وبعد تنصل العدو الصهيوني حتى من حل الدولتين، ألا تكفي ليقف عباس والمنخرطون في مشروع أوسلو وفلسفته وقفة صدق للمراجعة والتقييم والتصويب؟

ألا يستشعر الجميع الخطط الرامية لتصفية القضية الفلسطينية، صهيونياً بالقوة المسلحة والتهويد والتهجير وأمريكياً بأفكار ترامب وكوشنر وعربياً عبر مشروع التطبيع؟ وإن كانوا يستشعرون ذلك وأزمةَ القضية الفلسطينية في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية المختلة تماماً لصالح العدو الصهيوني، أفلا من خطوة للالتقاء على الحد الأدنى المشترك الممكن فلسطينياً لمواجهة المشروع الصهيوني، وبما يمكّن من دعمه عربياً وإسلامياً ودولياً؟

حين نقارن بين وعد دولة استعمارية قبل قرن من الزمان، وبين مسار “فلسطيني” رهن القرار لمجموعة سياسية متنفذة وذات مصالح تعترف اليوم بالكيان الصهيوني المحتل وتتنازل عن %78 من الأرض باسم الشعب الفلسطيني، فإن الموضوعية تقتضي أن نقول إن الثاني أخطر من الأول بكثير. ولعل أبرز سقطات مقال عباس هو ادعاؤه أن “الشعب الفلسطيني” هو من تنازل أو أننا “كفلسطينيين” تنازلنا عنها، وذلك محض ادعاء كاذب، فالشعب الفلسطيني لم يُستفتَ على مسار أوسلو ولا على نص الاتفاق ولا يبدو أن أحداً في السلطة أو المنظمة في وضعها الحالي مهتم برأيه أو موقفه، الذي أجزم أنه لا يقبل في عمومه التنازل ولا حتى المساومة.

هذا الكلام ليس مناكفة ولا تحريضاً سياسياً، فالأجواء الفلسطينية كما نتابعها هذه الأيام تزخر بحالات الغزل غير المفهومة والتفاؤل غير المستند إلى أرضية صلبة. هذا الكلام دعوة صادقة جادة وحريصة للكل الفلسطيني، وخصوصاً كوادر وعناصر وقيادات حركة فتح، لاتخاذ موقف تاريخي وأخلاقي مسؤول اتجاه هذا المسار الذي كان أكثر ضرراً من وعد بلفور المشؤوم، ولعل الظروف الحالية بعد لقاءات القاهرة توفر مناخاً لحديث أقل توتراً وأكثر هدوءاً حول ما يمكن فعله فلسطينياً اليوم، ولو بالحد الأدنى الممكن وليس المفروض والواجب.

شارك الموضوع :

اترك رداً