سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

الأزمة الخليجية وسيناريوهات المستقبل

0

 

الأزمة الخليجية وسيناريوهات المستقبل

 

المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

تبدأ معظم الأزمات حادة جداً وساخنة للغاية بل وتبدو في كثر من الأحيان صفرية – أو هكذا يراد لها أن تبدو – لكن مرور الزمن دون الانجرار لسيناريوهات كارثية يكون في العادة كفيلاً بطرح الحلول الوسطى التي تحقق شيئاً من مطالب طرفيها.

هكذا بدأت أزمة قطع العلاقات مع قطر، سقفٌ عال جداً وتطورات متسارعة وإجراءات غير مسبوقة على المستويات السياسية/الدبلماسية والاقتصادية والاجتماعية، أريد لها أن تحدث أثر الصدمة وتدفع الدوحة سريعاً للاستسلام والإذعان، حتى في غياب مطالب واضحة او شكاوى معلنة.

ويبدو لي – ولا أملك المعلومة – أن الدول الخليجية الثلاث مع مصر كانت تراهن على إحداث تغيير في رأس النظام القطري من الداخل في الساعات والأيام الأولى وكان سقف تصريحاتها يوحي بتفكيرها بترتيب انقلاب أو عمل عسكري مباشر ، بيد أن تصويت البرلمان التركي “المُسَرَّع” إضافة لبعض المواقف الدولية والإقليمية حالت دون استمراره، فعادت التصريحات إلى سقوفها الطبيعية.

مع صمود قطر في موقفها ورفضها التسليم الكامل وإبداء انفتاحها على سماع مطالب “جاراتها” من الدول “الشقيقة”، وكسر الحصار الاقتصادي عليها من قبل تركيا في المقام الأول، وعلى إثر المواقف الدولية سيما الأمريكية المطالِبة بإعلان الشكاوى والشروط، وبعد تأخر دام حوالي ثلاثة أسابيع، أعلنت الدول الأربعة 13 شرطاً قالت إنها مطالب لا تخضع للتفاوض وينبغي على قطر أن تستجيب لها بشكل كامل خلال 10 أيام.

اليوم، وقبل أيام قليلة أو ساعات من انتهاء المهلة المحددة، كيف يبدو الوضع وما مآلات الأزمة المستقبلية؟

لم يسمح لتركيا أن تلعب دوراً مؤثراً، وفشلت الوساطة الكويتية، وأمسكت واشنطن بمعظم أوراق الأزمة. كانت الوساطة الكويتية الأنسب منطقياً باعتبارها تراعي تقاليد دول مجلس التعاون التي تفضل الحلول الذاتية و”تقبيل الشوارب” فضلاً عن خبرة أمير الكويت ومكانته وحياد دولته في الأزمة، لكن كل ذلك فشل بسبب التعنت المسبق وعدم الرغبة في الحل. فكما كانت الإجراءات الأولى تنبئ برغبة في “كسر” قطر لا “التفاهم” معها، كذلك كانت الشروط التعجيزية مدخلاً لإقامة الحجة عليها وإيجاد ذريعة للتصعيد أكثر من كونها مطالب للحوار والتفاوض سعياً للخروج من الأزمة.

من جهة أخرى، تدرك الدوحة أن وجود القاعدة العسكرية الأمريكية على أراضيها هو الضامن الأكبر لها في الأزمة، في حين تراهن الرياض وأبو ظبي على موقف ترامب وشعاراته في مكافحة “الإرهاب”. قال الجبير إن بلاده ستسلم واشنطن (وليس الكويت الوسيط) مطالب دول الحصار، فيما أعلنت الدوحة أنها ستسلم واشنطن والكويت ردها قريباً.

وهكذا وضع الكل بيضه في سلة واشنطن، التي تملك قواعد عسكرية كثيرة ونفوذاً كبيراً في المنطقة، وتعمل على الاستفادة القصوى من الأزمة للضغط على الطرفين كما قالت سفيرتها لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي، ولعل في ذلك بعض التفسير لتضارب التصريحات الأمريكية التي يبدو جزءاً منها تخبطاً بينما الآخر تبادلاً للأدوار لإدارة الأزمة واستثمارها بالشكل الأمثل.

اليوم، تلوح في الأفق ثلاثة سيناريوهات رئيسة للأزمة، ربما لم تتغير منذ اليوم الأول لكن فرصها وظروفها تبدلت جزئياً مع التطورات والمستجدات، ولعله من الموضوعي ألا نسميها “حلولاً” لأن هذه السيناريوهات – أو على الأقل بعضها – ليست حلولاً بالمعنى الاصطلاحي المعروف.

السيناريو الأول هو التصعيد، ولعله الأوفر حظاً وفق المعطيات الحالية. فدول الحصار قدمت شروطاً تعجيزية بشكل مقصود لأنها تريد أن تضع قطر بين خياري الاستسلام الكامل وتحمل مسؤولية وتبعات التصعيد. ولما كانت الشروط الـ 13 تجرد الدوحة من حقوقها السيادية وأدوات سياستها الخارجية وتدمغها فعلاً بتهمة دعم الإرهاب، فلا يمكن لها التجاوب الإيجابي مع معظم ما قدم لها من شروط، وبالتالي يمكن لدول الحصار أن تصعّد الموقف وأن تحملها هي مسؤوليته في آنٍ معاً.

ولعل الدوحة تدرك ذلك بشكل واضح، ولذلك كانت تصريحات وزير خارجيتها عن “عدم قدرتها” على التجاوب مع المطالب لأنها “غير حقيقية” أصلاً في معظمها، فضلاً عن زيارة وزير دفاعها المرتقبة اليوم (الجمعة) إلى أنقرة، والدفعة الجديدة من القوات التركية التي وصلت الدوحة عشية زيارته.

وحين نتحدث عن التصعيد من قبل دول الحصار فنحن أمام أكثر من خيار في الحقيقة. فربما كان التصعيد على مستوى الإجراءات مثل إحكام الحصار الاقتصادي وإخراج قطر من مجلس التعاون وغيرها كما ورد في بعض التسريبات مؤخراً، أو عبر عمل عسكري على الحدود أو في الداخل القطري، أو بتفعيل خيار الانقلاب مرة أخرى، أو من خلال تدويل الأزمة بتقديم شكوى على قطر لمجلس الأمن بدعوى دعمها للإرهاب.

السيناريو الثاني هو استمرار الأزمة مدة زمنية طويلة ومراوحة المواقف في مكانها في انتظار فرصة سانحة أو أي متغيرات إقليمية – دولية قد ترجح كفة خيار على آخر. والسبب الرئيس في ذلك هو أن الخيارات المذكورة في السيناريو الأول والتي تبدو مرجحة مبدئياً من قبل دول الحصار دونها عقبات وصعوبات جمة (طرد قطر من مجلس التعاون مثلاً) ولها تبعات كارثية (الانقلاب أو التدخل العسكري) فضلاً عن صعوبة الحصول على موافقة دولية صريحة بها.

السيناريو الثالث هو الحل السياسي المبني على تنازلات من الطرفين والذي يمكن اعتبار تقديم المطالب لقطر خطوته الأولى، لكن الخطوة الثانية قد لا تكون قريبة جداً. فحقائق الجيوبوليتيك وطبيعة منطقة الخليج السياسية والاجتماعية وإمكانات دولها السياسية والاقتصادية والعسكرية تشي بأن قدرة قطر على تحمل قطيعة كاملة وطويلة الأمد ليست عالية جداً، مما يمكن أن يرجح لديها حلاً قريباً من حل أزمة 2014، أي تقديم بعض التنازلات والانحناء لتمرير العاصفة.

بيد أن الاختلاف الواضح والكبير بين الأزمتين يقول أيضاً إن حجم وسقف التنازلات المطلوبة من الدوحة اليوم، والتي ستحفظ ماء وجه دول الحصار وتساعدها على النزول عن الشجرة، مختلفان تماماً عن سقف وحجم تنازلات 2014.

سيكون مطلوباً منها تغيير السياسة التحريرية لقناة الجزيرة (من الصعب توقع إغلاقها) بشكل ملحوظ سيما فيما يتعلق بالقضايا الخليجية، وربما إغلاق عدد من المواقع الإخبارية الأخرى التي تدور في فلكها وورد اسمها في قائمة المطالب. كما يفترض أن تخفف من حضور الشخصيات الإسلامية – الإخوانية والفلسطينية – الحمساوية على أراضيها سكناً أو عملاً علنياً على الأقل، ولعل في انتخابات حماس الأخيرة وبقاء الرئيس الجديد لمكتبها السياسي في قطاع غزة عاملاً مساعداً لها على ذلك.

وبطبيعة الحال فإن ما سيدفع الدوحة لخيار كهذا سيكون خياراً أسوأ، بمعنى أنها قد تضطر لهذه التنازلات في حال رأت أنه الحل الوحيد لمنع الصدام أو التصعيد العسكري مثلاً، أو مارست عليها واشنطن ضغوطاً شديدة لحل المسألة بهذه الطريقة، والحقيقة أن المتتبع بدقة لمجمل التصريحات والمواقف الأمريكية يلمح فيها معنى الدفع باتجاه تقديم قطر لتنازلات لحل الأمر سلمياً.

مرة أخرى، لا يمكن الجزم أي من السيناريوهات هو الذي سيحدث بل لا يمكن قصر الأمر على هذه السيناريوهات التي طرحناها من واقع التطورات الحالية، فسيولة المستجدات وارتجالية دول الحصار التي أبدوها حتى الآن وحرصهم على صفرية النزاع قد تؤدي بالأزمة إلى دخول مسارات جديدة غير متجسدة حالياً.

إن إصرار هذه الدول على الصراع الصفري وضغطها باتجاه تغيير النظام في قطر – في حال صح – أو سيرها قدماً في تشكيل “التحالف الشرق أوسطي” الذي بشر به ترامب ووضعها قطر في صفوف المستهدفين منه قد يُخرج الأزمة من إطارها الخليجي لتصبح أزمة إقليمية بأبعاد دولية. حينها، سيكون هناك حديث آخر عن الاصطفافات والتحالفات في المنطقة وفق الواقع الجديد الذي يبدو أن دول الحصار تريده فعلاً أن يحصل، وأقصد هنا التقارب بين قطر وتركيا وإيران، ليسهّل عليها الشيطنة وإجراءات العقاب وإسباغ الصفة الدولية عليها بمباركة واشنطن.

لا أقول إن قطر وتركيا راغبتان اليوم في تأسيس تحالف وثيق مع إيران (وروسيا من خلفها) بالضرورة، فما زال هناك الكثير من التناقض في المصالح والمواقف سيما فيما يتعلق بقضايا المنطقة، لكن تصرفات الطرف الآخر قد لا تترك لثلاثتهم خياراً غير التقارب المرحلي أو التكتيكي، وربما الاستراتيجي لاحقاً في حال تطورت الأزمة إلى مسارات لا تحمد عقباها.

إننا أمام أزمة أصدق ما يقال فيها أنها خارج كل أطر المنطق والسياسة والعلاقات الدولية وغارقة في العشوائية والارتجال وربما الشخصنة، وهو ما يعني أنها مفتوحة – فعلاً لا شعاراً – على سيناريوهات لا حدَّ لها، قد لا تبدو كلها واضحة اليوم لكنها قد تتشكل مع تطور الأحداث وتبدل مواقف الأطراف المختلفة. وبالتالي فليس من المنطقي توقع خروج قريب من الأزمة، بل لربما ستنتظر المنطقة طويلاً قبل اتضاح أفق ما للخروج منها، مع التأكيد أن فرص التصعيد في المرحلة الحالية أو المقبلة مرتفعة جداً.

 

شارك الموضوع :

اترك رداً