سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

هل ستسير حماس على خطى فتح؟

0

 

 

هل ستسير حماس على خطى فتح؟

 

المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

رغم كل ما كتب حول وثيقة حركة حماس السياسية خلال اليومين الماضيين، إلا أنها ما زالت تحتاج للكثير الكثير من الدراسة والتمحيص والنظر في الأسباب والسياقات من جهة والعواقب والمآلات من جهة أخرى. وليس غريباً أن تحظى الوثيقة بهذا الاهتمام  والجدل نظراً لما تمثله حماس في معادلة القضية الفلسطينية وما توحي به الوثيقة نفسها من متغيرات مهمة.

رغم موادها الـ 42، تبقى المادة 20 المتعلقة بفكرة قبول الحركة لدولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 كـ”صيغة توافقية وطنية مشتركة” وبالشروط التي اعتادت حماس أن تقدمها بين يدي هذه “المبادرة” سابقاً (وبما يجعلها مستحيلة عملياً)، تبقى هذه المادة أهم ما لفت الأنظار وشغل الأذهان واحتل مساحات التقييم، وهو أمر متفهم ومستحق بطبيعة الحال.

الهاجس الذي شغل الكثيرين، وحاول ترويجَه آخرون أكثر، هو أن حماس بهذه الوثيقة وبتلك المادة قد وضعت قدمها على أول الطريق ذاته الذي مشته حركة فتح قبلها على مدى عشرات السنين الفائتة، لتنتقل مع هذا الوقت الطويل من حركة تحرر وطني بالغة العنفوان والتأثير إلى سلطة أمنية تحرس كيان الاحتلال من باقي حركات التحرر، دون أن يرف لها جفن. فهل فعلت حماس ذلك فعلاً؟ وهل تنتهي إلى حيث بدأت فتح؟

بادئ ذي بدء، ينبغي التأكيد على أهمية عدم الضيق بالنقد المقدم لحركة حماس طالما انطلق من نوايا تريد لها (وللمقاومة التي تمثلها والقضية التي تحملها) الخير وما دامت التزمت بالموضوعية والمنهجية السليمة، بلا مغالاة أو تخوين ودون الجزم بمسارات ومآلات لا يقوم دليل عليها، حتى الآن على الأقل. إذ لا ينبغي التبرم بالهواجس المتحصلة من إعلان طرح الوثيقة، بل ينبغي أن تكون حماس قد أعدت نفسها لمثل هذا، ليس فقط لأن الناس مجبولة على التهيب من الجديد والمتغيرات، ولكن أيضاً لأن ذاكرة الشعب الفلسطيني محمّلة بتجارب مريرة تتعلق بتغيير وتعديل الوثائق والمواثيق، ولعل ذلك أحد أسباب عدم تعديل حماس لميثاقها وذهابها لكتابة وثيقة جديدة.

التحول الكبير الذي عاشته حركة فتح لم يأت دفعة واحدة بل عبر قفزات متتالية متباعدة كان بعضها يبني على بعض، ولأسباب كثيرة جداً تتنوع بين الذاتي والموضوعي والخارجي، من اغتيالات الصهاينة إلى ضغط الخصوم إلى نصائح الأصدقاء، ومن استغلال المال السياسي إلى غياب الديمقراطية الداخلية، ومن اللهاث خلف قرارات القيادة دون حس نقدي إلى التخدير بالخطاب الثوري (الموجود حتى اليوم بالمناسبة)، ومن المتغيرات الإقليمية والدولية إلى حضور الإرادة الذاتية والرغبة، وهو الأهم.

فهل تحمل وثيقة حماس هذه المعاني وتبرر تلك المخاوف؟ دعونا نقرأ ما بين السطور.

قال رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل إن الوثيقة مجرد تعبير عن تطور و”نضوج” الحركة وتثبيت لمواقفها السياسية المختلفة، ولم تأت بطلب من أحد أو كمبادرة باتجاه أحد، وقلتُ سابقاً إنه محقٌّ في ذلك لجهة ما حصل ولكن ليس كذلك بالضرورة من زاوية الانطباعات المتولدة عن طرح الوثيقة، وهي الأهم.

إن طرح وثيقة “جديدة” للحركة يحيل بالضرورة إلى “ما تغيَّرَ” فيها وليس إلى النصوص المؤكدة على الثوابت السابقة، كما أن وضع بند يتعلق بما يمكن أن تقبله الحركة على أنه “صيغة الحد الأدنى بهدف التوافق” في وثيقة سياسية تعبر عن “رؤية” الحركة لذاتها وللصراع وللآخر يعني أنها عملياً تقدم مبادرة، قصدت ذلك أم لم تقصد.

حماس تقول هنا، للغرب أو للمجتمع الدولي، إنها فاعل سياسي مرن ومنفتح وليس عدمياً وبالتالي يمكن التواصل معها وطرح مبادرات عليها. هذا المعنى يغذيه لقاء مشعل مع قناة سي إن إن الذي قال فيه إن على الغرب “التقاط الفرصة” وإن إدارة ترامب “جريئة” ويمكن أن تقدم شيئاً للقضية الفلسطينية. أكثر من ذلك، فإن قبول حماس لـ”دولة على أراضي 1967″ (بهذا النص والصياغة) يعني في المخيال السياسي الغربي وأدبيات السياسة وفهم المجتمع الدولي أنها تقبل “حل الدولتين”، رغم أنها وضعت لذلك – كما سبقت الإشارة – معايير وشروطاً تنقل هذا القبول تلقائياً إلى مربع المستحيل السياسي.

بين السطور أيضاً أن حماس لا تمانع التفاوض المباشر مع الكيان الصهيوني مستقبلاً، وأن ما يمنعها عن ذلك حالياً هو غياب “الظروف الملائمة” التي يمكن أن تجعل التفاوض في صالح الفلسطينيين. ليس هذا “خطاباً” جديداً لدى حماس، فقد أكد مشعل وقبل نائبه أبو مرزوق ذلك أكثر من مرة أن التفاوض ليس مرفوضاً لا شرعاً ولا سياسة ولا في تجارب التاريخ ولكنه يفتقد للفائدة المرجوة منه حالياً، وهو كلام سليم بطبيعة الحال. وثيقة حماس وكلام مشعل بعدها “يفتحان الباب” على هذه الإمكانية، وينقلان “الخطاب” إلى مستوى “الموقف” أو “المبادرة” أو الاستعداد لتقبل المبادرات، وليس يعني ذلك أن حماس ستفاوض غداً، لكنها تمهد الأمر لتذليل أكبر العوائق أمام أمر مماثل إن حصل: أي رأيها العام وقناعات كوادرها.

هكذا، تكون حماس قد فتحت الباب، وهو مصطلح دقيق يفرّق بين الواقع و/أو الحتمي وبين الممكن مستقبلاً، على مبادرات سياسية معها وعلى التفاوض المباشر مع دولة الاحتلال، بغض النظر هل سيحصل ذلك أم لا وهل هي “تريد” ذلك أم ترغب فقط في استثمار هذا “الإيحاء” لكسر الطوق والحصار عنها. فهل تسير في درب فتح إلى النهاية؟

الحقيقة أنني لا أعتقد ذلك أبداً، لسببين جوهريين على الأقل:

الأول أنها حركة أيديولوجية قبل أن تكون سياسية رغم كل الجهد المبذول في الوثيقة وفي التصريحات لتخفيف البعد الأول وتعميق الثاني في هويتها. لا يعني ذلك أنها محصنة تماماً ضد الانزلاق، لكنه يعني أنها أكثر منعة من غيرها، لأدبياتها وتاريخها وكوادرها وحاضنتها الشعبية قبل أي شيء آخر. ليس سهلاً ولا متوقعاً – لا اليوم ولا في أي وقت قادم – أن تمرر حماس أي خطاب يقترب من الاعتراف بالكيان الصهيوني أو يتنازل عن أي جزء من الأرض أو أيٍّ من الحقوق الفلسطينية الثابتة، حتى ولو افترضنا وجود من يؤمن بذلك في صفوفها القيادية.

والثاني، أن الظروف الدولية قد تغيرت تغيراً جذرياً عن تسعينات القرن الماضي الذي هؤولت فيها فتح إلى مدريد ثم أوسلو وأخواتها حين كانت فكرة “حل الدولتين” تعني شيئاً ممكناً لها وللمجتمع الدولي، حتى ولو خداعاً أو فقط على مستوى الخطاب.

أما اليوم، فلا حديث عن حل الدولتين إلا في خطاب أوروبا المتباكي عليها، بينما آذان نتنياهو وترامب في صمم عنها وعن غيرها، بما يعني أن أي حديث عن حل الدولة أو الدولتين (أو أي أعداد أخرى) مجرد ترف فكري الآن وعلى المدى المتوسط في ظل التركيبة السياسية والحزبية في الكيان الصهيوني. إن شئتم أن نضع الأمر في صياغة مختلفة، دعوني أقل إن “الطرف الآخر” ليس لديه ما يقدمه لحماس حتى يغريها بالتنازلات، هذا في حال افترضنا أنها يمكن أن تراود نفسها يوماً بذلك.

إن حديث إدارة ترامب عن “الإرهاب الإسلامي المتشدد” وكلام البيت الأبيض عن مقاربة جديدة لمكافحة الإرهاب ستعلن قريباً، وكلام وزير الدفاع الأمريكي عن تحالف سيجمع واشنطن وتل أبيب مع بعض العواصم العربية(!)، إضافة إلى التصريحات المتكررة حول “صفقة القرن” التي لا يعرف أحد عنها شيئاً إلا أنها نذير شؤم على القضية الفلسطينية، كل ذلك يعني أن العالم لا يملك جزرة ليقدمها لحماس أو غيرها، ولا يحمل إلا العِصيَّ في يديه.

ويبدو أن استشراف حماس لهذه المتغيرات وخوفها مما هو قادم إقليمياً ودولياً فضلاً عن الضغوط والأزمات التي تعاني منها منذ مدة ليست بالقصيرة قد ساهمت في طرح الوثيقة، لمحاولة تجنيبها السيناريوهات القادمة قدر الإمكان.

أخيراً، طالما نتحدث في السياسة وعن السياسة وباعتبار أن الوثيقة قدمت “السياسي” في حماس أكثر من “الأيديولوجي”، فلا مجال هنا للحديث عن الثقة التامة وحسن الظن المطلق، إلا فيما مضى ربما، أما المستقبل فمفتوح دائماً على الاحتمالات باعتبار أننا نتناول تجارب بشرية. وبالتالي فالتدليل على انعدام “احتمالية” التغيير ولو الجزئي أو النسبي أو المتدرج بأمور مثل التاريخ أو الحصار أو الخطاب أو الإنجازات العسكرية أو المزايا الشخصية للقيادة الحالية ليس أمراً يُعتدُّ به ولا يمكن أخذه على سبيل الجزم. ليس فقط لأن فتح تقوم ببعض ذلك رغم كل تنازلاتها (خطابها ما زال يزايد على حماس مثلاً)، ولكن أيضاً لأن التغيير يأتي – إن أتى – بالتدريج وعلى مسافات زمنية بعيدة، ولأن بعض العوامل التي أدت لانحراف مسار فتح – وذكرت في الأعلى – ليست بعيدة عن حماس أو عن أي فصيل سياسي آخر.

هذا المقال، وغيره، لا يقول إن حماس باعت أو خانت أو انحرفت، لكنه يقول إن تغيراً ما طرأ على الخطاب والوثائق المكتوبة قد يسهّل حصول تغييرات أو تنازلات مستقبلية، وهي إشارة تستوجب التنبه والتنبيه لأن التغيرات الصغيرة والبسيطة والهامشية قد تتحول إلى انحرافات كبيرة وجذرية مع طول الزمن، سيما إذا ما تفاعلت مع عوامل أخرى مساندة.

ويكتسب هذا المعنى أهمية مضاعفة بسبب افتقاد الوثيقة لأي رؤية تشرح كيفية تحقيق الهدف المرحلي المتعلق بالدولة، وكيفية ضمان عدم الاعتراف – المباشر أو الضمني – بالكيان الصهيوني. كما أنه من المسلم به في عالم السياسة أن المواقف والسياسات أعلى صوتاً بكثير من النصوص المكتوبة، وتبقى هي الفيصل والأهم، بينما تتكيف الوثائق والمواثيق مع المواقف السياسية متى ما أريد لها ذلك.

وبالتالي، يصبح من الضروري تقبل النقد بصدر رحب وفتح قنوات النقاش الداخلي والخارجي، وتفعيل الحوار والشورى الداخليين، والبقاء على حالة من الوعي والحذر مما “يمكن أن” يحدث يوماً ما، على صعيد الآخر إن لم يكن على صعيد الحركة، بل ما الذي يمنع أن تجري حماس تعديلاً على وثيقتها يزيل منها المتشابه ويترك فيها المحكمات من الرؤى؟ (رغم صعوبة ذلك في السياسة).

أخيراً، من حقنا أن نخشى على حماس ومن واجبنا أن نحذّرها، بدلاً من يأتي يوم نخشاها ونحذَرَ منها، لا قدّر الله.

شارك الموضوع :

اترك رداً