سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

انقلاب 15 تموز/ يوليو ومستقبل تركيا

0

مجلة سياسات عربية، آب/أغسطس 2016

 

ملخص

فشلت المحاولة الانقلابية التي جرت في تركيا ليلة الخامس عشر من تموز/يوليو 2016 في إسقاط الرئيس والحكومة واستلام مقاليد الحكم، ولكنها ستظل تمثل محطة استثنائية في التاريخ التركيالحديث ومسيرة حكم حزب العدالة والتنمية،مختلفة عن كل الأزمات التي واجهها سابقاً.

إعلان حالة الطوارئ في البلاد واعتقال الآلاف وإيقاف عشرات الآلاف من موظفي القطاع الحكومي عن عملهم مؤقتاً على ذمة التحقيق، إضافة إلى إغلاق عدد كبير من الجامعات والأوقاف والمؤسسات المختلفة وحظرها بدعوى مكافحة “الكيان الموازي”، فضلاً عن عدد من التصريحات التي صدرت عن بعض المسؤولين الأتراك بضرورة إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، كل ذلك يزيد من أهمية تحليل نتائج الانقلاب الفاشل وانعكاساته على الحياة السياسية التركية، وهو ما ستحاوله هذه الورقةمن خلال المفاصل الرئيسة الآتية: مكافحة الكيان الموازي، إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، صياغة دستور جديد للبلاد، السياسة الخارجية التركية.

 

مقدمة

قبيل الساعة العاشرة من مساء الخامس عشر من تموز/يوليو 2016، أغلقت قوات عسكرية المرور على جسري البوسفور والسلطان محمد الفاتح اللذين يربطان الطرفين الأوروبي والآسيوي في مدينة إسطنبول، ثم تطورت الأحداث بشكل متسارع كاشفة الغطاء عن محاولة انقلاب عسكري.

وعلى مدى الساعات القليلة التالية قصِف مقر هيئة أركان الجيش التركي ومجلس الشعب التركي الكبير (البرلمان) ومقر جهاز المخابرات العامة ومقر القوات الخاصة في الشرطة إضافة إلى محاصرة مطار أتاتورك ومديرية الأمن ومركز البلدية الكبرى في مدينة إسطنبول، كما تم التحفظ على رئيس أركان الجيش وعدد من قيادات القوات.وبعد منتصف الليل بقليل، أذاعت قناة التلفزة الرسمية (TRT) بياناً باسم “مجلس السلام في الوطن” الذي اتهم فيه الرئيس وأعضاء الحكومة بالخيانة وأعلن سيطرته على مقاليد الحكم في البلاد.

تحول مسار الأحداث لاحقاً مع ظهور الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان على قناة CNN TÜRKالخاصة، بعد وقت قصير جدا من إذاعة بيان الإنقلاب، داعياً الشعب التركي للنزول إلى الميادين حماية للديمقراطية، ثم وصوله إلى مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول بعدها بثلاث ساعات، وهي فترة زمنية تخللتها عدة تطورات صبت في سياق تراجع المجموعات الانقلابية على عدة محاور منها قناة التلفزة الرسمية التي عادت للعمل بشكل طبيعي، وتحرير رئيس أركان الجيش من مكان اعتقاله، وإلقاء القبض على معظم الجنود المشاركين في المحاولة الانقلابية، ومع صباح اليوم التالي كانت المحاولة قد باءت عملياً بالفشل والحكومة قد أخذت زمام المبادرة.

لا يمكن الحديث عن سبب واحد لفشل الانقلاب، إذ تضافرت عدة عوامل متوازية ومتزامنة لإفشاله، أهمها:

1- كانت المحاولة الانقلابية محدودة ومرتبكة، واتضح من تسريبات التحقيق أن الخطة الأولية كانت معدة للتنفيذ الساعة الثالثة فجراً، بيد أن وصول بعض المعلومات لجهاز الاستخبارات ثم لقيادة الجيش دفع المنفذين لتقريب الموعد خمس ساعات، وهو ما أفقدهم عنصر المفاجأة وقدَّمَمشهد انقلاب جزئي شمل مدينتي إسطنبول وأنقرة بشكل شبه حصري ونفذته بعض القطاعات العسكرية فقط، بينما أغفل المنفذون أهمية الإعلام وتغييب القيادة السياسية وغيرها من العوامل، فضلاً عن أن التبكير وضعهم وجهاً لوجه مع الجماهير المعترضة في الشارع.

2- عدم تبني الجيش كمؤسسة للانقلاب، ثم المواجهة العسكرية المباشرة للانقلابيين من قبل أجهزة الأمن والاستخبارات والقوات الخاصة في الشرطة وبعض فرق وقيادات المؤسسة العسكرية.

3- دور الرئيس التركي من حيث تحديه الانقلاب ودعوته الجماهير للنزول للشارع.

4- العامل الشعبي المتمايز عن الموقف السلبي التقليدي في الانقلابات السابقة، بحيث احتشد عشرات الآلاف في مختلف الميادين ومناطق المواجهة منذ ساعات الانقلاب الأولى وأعاقوا تقدم القوات العسكرية وساهموا في اعتقال بعض الجنود.

5- وسائل الإعلام التي تحولت إلى منبر للقيادات السياسية التركية لتوجيه الجماهير، وبعض القيادات العسكرية لإعلان رفضها للانقلاب.

6- توحد خصوم اردوغان والعدالة والتنمية على رفض الانقلاب، من داخل الحزب مثل الرئيس السابق عبدالله غل ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو ونائب رئيس الوزراء السابق بولندأرينتش، أو من خارجه مثل أحزاب المعارضة الرئيسة في البلاد، وهي أحزاب الشعب الجمهوري والحركة القومية والشعوب الديمقراطية.

 

الإجراءات الحكومية

تختلف المحاولة الانقلابية الأخيرة عن الانقلابات السابقة في تركيا من عدة وجوه، أهمها استهداف مؤسسات الدولة وإطلاق النار على المواطنين ومحاولة اغتيال رئيس الجمهورية ورئيس جهاز الاستخبارات إذا ما تعذر اعتقالهما، وهي فوارق ساهمت في ردة الفعل الشعبية والحزبية ربما بأكثر من مجرد الموقف المبدئي من الانقلاب على الحكومة المنتخبة.

اعتبرت الحكومة التركية أن الفرصة باتت سانحة لاستثمار الحدث في إجراءات استثنائية قد تساعد في طي صفحة الانقلابات في تركيا للأبد، وهي إجراءات لم تكن في الإمكان مسبقاً بسبب السقوف الدستورية والقانونية واعتراض أحزاب المعارضة وغيرها من العوامل. وعليه، أعلناردوغان حالة الطوارئ في البلاد بعد توصية هيئة الأمن القومي بذلك، وقبول الحكومة بهذه التوصية ثم إقرارها من قبل البرلمان التركي،وفق المواد 119، 120 و121 من الدستور[1]. وتعطي حالة الطوارئ السلطة التنفيذية صلاحيات أوسع من المعتاد، بحيث يكون من حقها إصدار مراسيم تقوم مقام القوانين ومعفاة من الرقابة القضائية، وتحديد بعض حقوق المواطنين وحرياتهم كإعلان حظر تجول في مكان ووقت محددين، وتمديد فترة التوقيف القانونية على ذمة التحقيق دون توجيه تهمة للموقوفين.

ساعد إعلان حالة الطوارئ المجلسَ الوزاري في العمل على خطين متوازيين بإجراءات استثنائية:

الأول، تسريع عملية التحقيق من خلال توسيع دائرة الموقوفين بتهمة المشاركة في الانقلاب، بحيث شملت العملية توقيف أكثر من 18 ألف شخص، أكثر من نصفهم من منتسبي المؤسسة العسكرية من مختلف الرتب، بينما حبسنحو عشرة آلاف شخصغالبيتهم من عناصر الجيش[2]، في مقدمتهم 151 لواء وأميرالاً (لواء بحرياً) و1656 ضابطاً، ونحو 700 من المدعين العامين[3].

الثاني، تعميق مكافحة “الكيان الموازي” في عموم مؤسسات الدولة ومختلف الوزارات، بحيث وصل عدد المبعدين عن وظائفهم بشكل مؤقت على هامش التحقيق إلى أكثر من 45 ألف موظف حكومي في رئاسة الوزراء، ووزارات الأسرة والشؤون الاجتماعية والاقتصاد والعلوم والصناعة والتكنولوجيا، وهيئة الإحصاء وغيرها من المؤسسات[4].

وضمن حالة الطوارئ في البلاد، صدر المرسوم الأول الذي حدد مدة التوقيف بـ 30 يوماً كحد أقصى، وحل آلاف الهيئات والمؤسسات التابعة للكيان الموازي ومنها 15 جامعة خاصة و35 مركزاً صحياً و1299 جمعية و1034 مؤسسة تعليمية، إضافة إلى غلقه الباب أمام إعادة الموظفين الحكوميين المفصولين إلى أعمالهم بتهمة الانتماء للكيان الموازي[5]. كما شمل المرسوم الثاني إلحاق قوتي الدرك وخفر السواحل بوزارة الداخلية وعزل ما مجموعه 1700 قيادي من المؤسسة العسكرية من مختلف الرتب والقطاعات، إضافة إلى حظر ثلاث وكالات أنباء و16قناة تلفزيونية و23 إذاعة راديو و45 صحيفة و15 مجلة مرتبطة بالكيان الموازي وفق المرسوم[6].

 

هذه المحاولة الانقلابية بهذا الحجم، وردات الفعل الشعبية والحزبية والسياسية، ثم الإجراءات الحكومية المتبعة حتى الآن، ترجح أن يكون لهذا الانقلاب انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على عدة ملفات مهمة، أهمها:

 

مكافحة الكيان الموازي

جماعة فتح الله كولن – الكيان الموازي (FETÖ – PDY) هو التوصيف القانوني المستخدم إعلامياً وسياسياً في تركيا للإشارة إلى القيادة المتنفذة في جماعة “الخدمة” التي أسسها الداعية فتح الله كولن في سبعينات القرن الماضي كجماعة تربوية – دعوية – خدمية تهتم بتعليم الطلاب وتقديم الخدمات السكنية والتعليمية واللوجستية لهم. لكن الجماعة توسعت على مدى عشرات السنين اللاحقة لتصبح أشبه بشركة اقتصادية عملاقة عابرة للقارات ميزانيتها تعادل 150 مليار دولار أمريكي وفق عريضة الادعاء بحقها بعد الانقلاب[7]، حيث تضم أكثر منتسعة آلاف شركة اقتصادية منها خمس شركات قابضة وعدة مصارف،وعشرات المؤسسات الإعلامية و17 جامعة و96 وقفاً و900 جمعية،إضافة لمئات المدارس داخل وخارج تركيا، فضلاً عن تغلغلها في مختلف مؤسسات الدولة[8].

في سنوات حكمه الأولى، تحالف حزب العدالة والتنمية مع الجماعة طمعاً في دعمها الإعلامي وقوتها التصويتية إضافة إلى الكوادر التي افتقدها في بداياته، مقابل التسهيلات التي حظيت بها الأخيرة لتثبيت أنصارها في مفاصل الدولة المهمة. بيد أن الطرفين تواجها لاحقاً في عدة محطات، أهمها:

1- محاولة اعتقال رئيس جهاز الاستخبارات حاقان فيدان في شباط/فبراير 2012 إثر تسريب خبر لقاءاته مع قيادات في حزب العمال الكردستاني في أوسلو، وقد رأت الحكومة في ذلك محاولة لإزاحة الرجل – بتهمة التخابر مع تنظيم إرهابي – لإحكام سيطرة الجماعة على الجهاز.

2- أحداث حديقة “جزي” في ميدان تقسيم بإسطنبول في أيار/مايو 2013، والتي لم تخرج خلالها الجماعة أنصارها للشارع لكن وسائل إعلامها وقفت ضد الحكومة وشهرت باردوغان تحديداً[9].

3- قضايا الفساد التي طالت عدداً من المسؤولين الحكوميين في كانون الأول/ديسمبر 2013، التي أسمتها الحكومة التركية “الانقلاب القضائي” واتهمت الجماعة بالوقوف خلفها لإسقاط الحكومة[10].

4- المحاولة الانقلابية الأخيرة.

منذ 2013، عملت الحكومة على “تطهير” المؤسسات الأمنية من أعضاء الكيان الموازي، وقد نجحت في ذلك إلى حد بعيد في الأمن والشرطة والاستخبارات وبدرجة أقل في القضاء. ثم وضعت يدها على المؤسسات الإعلامية والمالية والأكاديمية للجماعة بعد تصنيف الحكومة لها كمنظمة إرهابية في أيار/مايو 2016 إثر توصية من هيئة الأمن القومي[11].

وجدت الحكومة التركية في لحظة الانقلاب الفاشل فرصة ذهبية لتوجيه ضربة للتنظيم، فحرصت على حصر الاتهام به رغم أن حجم التوقيفات وعملية التحقيق يظهران أن الانقلاب أكبر من حجم الكيان الموازي وإمكاناته، للأسباب التالية:

أ- استثمار الفرصة لإقصائه من مختلف مؤسسات الدولة وحظر هيئاته ومؤسساته التي تعد بالآلاف.

ب- تحييد ما ومن أمكن من المؤسسة العسكرية خلال ساعات الانقلاب الأولى، من خلال التأكيد على مسؤولية “أقلية” داخل المؤسسة العسكرية التي “ستبقى نظيفة”[12].

ج- إعطاء أمل للمواطنين في إمكانية كسر الانقلاب بعكس صورة عن محاولة انقلابية هامشية لا تشارك فيها قيادات المؤسسة العسكرية.

ج- المحافظة على هيبة الجيش التركي وقوته وتماسكه.

وقد استثمرت السلطات التركية الغطاء الدستوري المتمثل بحالة الطوارئ والغطاء الشعبي من خلال الحشود في الميادين والغطاء السياسي المقدم من أحزاب المعارضة لتوجه ضربات قاصمة لأنصار التنظيم وأعضائه في مختلف الوزارات، في محاولة لإرباكه وإشغاله عن القيام بأي خطوات ارتدادية أو تفعيل خطط بديلة في مواجهة الحكومة، عبر حظر مئات المؤسسات التعليمية والاقتصادية والإعلامية وإبعاد عشرات الآلاف من الموظفين المحسوبين عليه عن وظائفهم في القطاع العام بشكل مؤقت.

بيد أن القضاء التام على الكيان الموازي لا يبدو سهلاً ولا ممكناً لعدة أسباب، أهمها:

1-الكفاءة التنظيمية العالية التي يتميز بها أتباعه من حيث السرية التامة والطاعة العمياء والتقية السياسية[13].

2- الحاضنة الشعبية التي يحظى بها التنظيم رغم سنوات المواجهة مع الحكومة، والتي تعتمد في الغالب على شباب متحمس ربي على مدى سنوات طويلة على مناهج محددة محورها كتب كولن نفسه.

3- عدم امتلاك الحكومة لإحصاءات دقيقة وموثوقة بخصوص عدد أتباع التنظيم في مختلف مؤسسات الدولة ومناصبهم فيها.

4- شبكة التنظيم الخارجية ووجود زعيمه في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تماطل إزاء مطالب أنقرة بتسليمه.

5- التواجد القوي للكيان الموازي في مؤسسات الدولة عموماً والمؤسسة العسكرية تحديداً إثر منظومة متكاملة من التغلغل والسيطرة اتبعها على مدى عشرات السنوات وتتضمن تسريب أسئلة امتحانات دخول الجامعة والتوظيف الحكومي والثانويات العسكرية لأنصاره، والنفاذ إلى مناصب مهمة في جهاز الاستخبارات العسكرية، والتغلغل والسيطرة على “القيادة المركزية لتأمين الموظفين” في المؤسسة العسكرية، وإخفاء الانتماء والأفكار، فضلاً عن دعم وتوظيف وترفيع بعضهم البعض في مختلف مؤسسات الدولة.

6- الضغوط الخارجية الممارسة على الحكومة التركية سيما من قبل الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالتوقيفات والتحقيق والإبعاد عن العمل.

7- حضور الكيان الموازي القوي في الجهاز القضائي الذي قد يصعّب من عملية التحقيق وكشف كافة ملابسات العملية الانقلابية والمتورطين فيها أو على الأقل يطيل أمدها أو يحدث اختراقات مهمة فيها، كما حدث حين أطلق سراح أحد مسؤولي التنظيم (“إمام” أو مسؤول القوات الجوية في التنظيم) الذي اعتقل في قاعدة “أكينجيلار” العسكرية التي أدارت العمليات ليلة الانقلاب ثم أطلق سراحه بعد 21 دقيقة تحقيق فقط قبل أن يختفي.

تعرف الحكومة التركية أنه من غير المتاح القضاء على كيان بهذا التنظيم يملك حاضنة شعبية، ولذلك ستسعى إلى تحجيمه في مختلف مؤسسات الدولة سيما العسكرية، إضافة إلى تجفيف منابعه فيها عبر إغلاق الثانويات العسكرية مؤقتاً، فضلاً عن وضع يدها على المئات من مؤسساته والتخطيط لإدارتها من قبل الدولة لاحقاً، والحرص على تسليم واشنطن لزعيمه كولن لما سيكون له من أثر سلبي على الأتباع. لكنها ستحتاج إلى رؤية استراتيجية خاصة بأنصار الجماعة غير المشتركين في الانقلاب أو أي جنح أخرى، بحيث يمكن احتواؤهم ودمجهم في المجتمع وإبعادهم عن قيادة التنظيم.

 

إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية

حظيت المؤسسة العسكرية التركية على مدى عشرات السنين بوضع نافذ في سياسة البلاد الداخلية والخارجية لأسباب عدة تتعلق بثقافة الشعب التركي وحبه للجندية، وتأسيس الجمهورية التركية بعد “حرب الاستقلال”، والهالة التي أحاطت بها المؤسسة العسكرية نفسها منذ مصطفى كمال أتاتورك، إضافة لقوة المؤسسة العسكرية وما أعطتها إياه الدساتير المتعاقبة من صلاحيات واسعة تجعلها وصية على الحياة السياسية وعلى مبادئ الجمهورية[14].(يُحال إلى مصدر عن مكانة الجيش التركي)

وقد قام الجيش التركي في تاريخه بأربعة انقلابات عسكرية، اثنان منها مباشران نزل فيهما الجيش للشارع في عامي 1960 و1980، واثنان منها بالضغط على الحكومة لتستقيل عامي 1971 و1997، إضافة لبعض التدخلات الأخرى في الحياة السياسية[15]، وصولاً للمحاولة الانقلابية الأخيرة. كما كانت المؤسسة العسكرية تلعب دور الوصي على الحكومات المتعاقبة من خلال هيئة الأمن القومي الذي كان بمثابة حكومة ظل[16].

 

وقد مرت العلاقة بين المؤسسة العسكرية وحزب العدالة والتنمية عبر عدة أزمات وإصلاحات، أهمها:

– في أيار/مايو 2003، وبتعديل قانوني ضمن الحزمة السادسة منقوانين المواءمة مع معايير الاتحاد الأوروبي، تم استبعاد ممثل هيئة الأمن القوميعن رئاسة هيئة الإذاعة والتلفزيون الرسمية (TRT).

– في تموز/يوليو 2003 وضمن الحزمة السابعة من قوانين المواءمة مع معايير الاتحاد الأوروبي تم تعديل بنية هيئة الأمن القومي وتقليل وتيرة اجتماعاتها الدورية وإعطاء قراراتها صفة استشارية غير ملزمة للحكومة، ثم عين سكرتير مدني لها في كانون الثاني/يناير 2004 بناء على هذه الحزمة.

– في السابع والعشرين من نيسان/أبريل 2007، قبل اقتراع البرلمان لاختيار رئيس الجمهورية وإثر ترشح عبدالله غل من العدالة والتنمية، أصدرت القوات المسلحة بياناً يؤكد على علمانية الدولة اعتبرت في حينها “مذكرة” تهديد بانقلاب عسكري شبيهة بمذكرتي عامي 1971 و1997.

– قضيتا أرغنكون عام 2007 والمطرقة عام 2010 اللتان حوكم فيهما عدد كبير من ضباط الجيش في مقدمتهم رئيس أركان الجيش السابق إلكرباشبوغ (حكم بالسجن المؤبد)بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري، قبل أن تعاد محاكماتهم ويطلق سراحهم بعد سنوات بدعوى أن التنظيم الموازي قد فبرك القضية ولفق أدلتها.

– في تموز/يوليو 2011، طلب كل من رئيس أركان الجيش وقادة القوات الجوية والبحرية والبرية في الجيش التركي إحالتهم للتقاعد (استقالة ضمنية) احتجاجاً على محاكمات الضباط.

– في تموز/يوليو 2013، عدل البرلمان التركي المادة 35 من الدستور والتي تتضمن مهام القوات المسلحة وصلاحياتها، بحيثحددت حصراً في حماية البلاد من المهددات الخارجية[17].

 

حاولت الحكومات التركية المتعاقبة بقيادة اردوغان الموازنة بين كف يد المؤسسة العسكرية عن التدخل في الحياة السياسية وبين معاداتها، ولذلك فقد حرص الأخير على رد الاعتبار لرئيس الأركان باشبوغ وقيادات المؤسسة العسكرية الذين ثبتت براءتهم من تهم التخطيط للانقلاب في قضيتي أرغنكون والمطرقة، كما حرص بعد الاستقالة الجماعية عام 2011 على علاقات جيدة مع رئيسي أركان الجيش نجدت أوزالثم خلوصي أكار، واستثنى البرلمانُ التركي مؤسساتِ الجيش والشرطة والقضاء من حزمة الإصلاحات الديمقراطية التي سمحت بالحجاب في المؤسسات الحكوميةفي أيلول/سبتمبر 2013[18].

ولذا، فقد مثلت المحاولة الانقلابية الفاشلة فرصة للقيادة السياسية التركية لإخضاع المؤسسة العسكرية لأمر الرئاسة – الحكومة بشكل كامل[19]، وهو ما بدأ مع إعلان حالة الطوارئ في البلاد والتي زادت من صلاحيات المؤسسة الأمنية على حساب الجيش، ثم تبعته الخطوات التالية:

1- توقيفأكثر من عشرة آلاف جندي وضابط من المؤسسة العسكرية إضافة إلى 151 لواء وأميرالاً (لواء بحرياً) بما يعادل %42 من عدد الجنرالات والأميرالات في مجمل المؤسسة العسكرية[20]، في مقدمتهم قادة الجيوش الثاني والثالث والرابع والقائد السابق للقوات الجوية وقائد القوات التركية في قاعدة إنجيرليك العسكرية والمساعد العسكري (الياور) لرئيس الأركان.

2- تقديم موعد اجتماع “مجلس الشورى العسكري الأعلى” أسبوعاً وعقده في القصر الحكومي وليس في مقر رئاسة الأركان لأول مرة، إضافة إلى سحب صلاحية الفصل من الجيش منه، كإشارات على السيطرة السياسية – المدنية على الجيش[21].

3- إلحاق قوتي الدرك وخفر السواحل بوزارة الداخلية وفق المرسوم الثاني الذي صدر بعد إعلان حالة الطوارئ.

4- عزل ما يقرب من 1700 قيادي في المؤسسة العسكرية من مختلف الرتب والقطاعات، في مقدمتهم 149 جنرالاً وأميرالاً، ضمن نفس المرسوم[22].

5- إعلان رئيس الوزراء التركي عن نية الحكومة إخراج القواعد العسكرية إلى خارج المدن.

6- إعلان الرئيس اردوغان عن رغبته في إتباع رئاسة الأركان (ورئاسة جهاز المخابرات العامة) لرئاسة الجمهورية وقيادات القوات المسلحة المختلفة لوزارة الدفاع[23].

7- إشارةاردوغان إلى إمكانية تغيير شخص رئيس الأركان بعد مرور الفترة الانتقالية بعد الانقلاب[24].

 

بيد أن رغبات القيادة السياسية في إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية أمامها عقبات عدة في مقدمتها:

أولاً، صعوبة تغيير القناعات في المؤسسة العسكرية خلال فترة قصيرة نسبياً، والتي تربى منتسبوها على مدى عشرات السنين على أفكار من قبيل تأسيسهم للجمهورية ومسؤوليتهم الأخلاقية عن حماية مبادئها ووصايتهم على السياسيين.

ثانياً،التغيير على مستوى الأشخاص لا يضمن بالضرورة تبعية المؤسسة للقيادة السياسية.

ثالثاً، جزء كبير ممن رُفِّعوا في المؤسسة العسكرية مؤخراً قد يكونون من أنصار التنظيم الموازي إذا ما أخذنا بعين الاعتبار نسبتهم العالية من الترقيات على مدى السنوات الماضية إضافة للمستويات القيادية التي كانوا قد وصلوا لها.

جدول يظهر عدد الضباط المرفعّين في المؤسسة العسكرية في السنوات الخمس الأخيرة بالمقارنة مع عدد الموقوفين اليوم منهم على ذمة التحقيق في المحاولة الانقلابية والانتماء للتنظيم الموازي[25]).

السنة الرتبة عدد المرفعين عدد الموقوفين
2011

 

 

فريق 5 1
لواء 11 2
عميد 22 3
2012

 

 

فريق 5 2
لواء 11 3
عميد 23 6
2013 فريق 5 1
لواء 6 2
عميد 25 18
2014 فريق أول 3 1
فريق 5 2
لواء 11 5
عميد 22 12
2015 فريق 6 2
لواء 9 2
عميد 26 18

 

رابعاً، لا يملك العدالة والتنمية كوادر موالية له بأعداد ومناصب يمكنها قيادة المؤسسة العسكرية، ولذا فإضعاف التنظيم الموازي قد يفيد التيار الكمالي- العلماني في الجيش صاحب التاريخ الطويل من الانقلابات والمعارض للحزب الحاكم أكثر مما قد يفيد الأخير، وبالتالي فالحكومة تستبدل فعلياً خصماً بآخر، وهذا لا يغلق الباب أمام الانقلابات العسكرية أو التدخل في السياسة نهائياً.

خامساً، تململ قيادة المؤسسة العسكرية من الإجراءات الحكومية المتتالية فيما يتعلق بالجيش ومحاولتها الانتقال من مربع المتهم إلى مربع المجني عليه، وقد ظهر ذلك في البيان الأول للقوات المسلحةالذي حاول ضمنياً تبرئة بعض القيادات العسكرية الموقوفة على ذمة التحقيق (قائد القوات الجوية السابق)، والبيان الثاني الذي استبق اجتماع مجلس الشورى العسكري الأعلى ونتائج التحقيق بالإعلان عن عدد محدود ونسبة متدنية (%1.5) من المشاركين في الانقلاب من الجيش وبما يقل كثيراً عن أرقام وزارة الداخلية[26]، إضافة لاستقالة (طلب تقاعد) بعض القيادات العسكرية الرفيعة احتجاجاً على الإجراءات الحكومية مثل رئيس أركان القوات البرية كامل باش أوغلو وقائد التدريب والتوجيه في المؤسسة العسكرية إحسان أويار[27].

سادساً، إن إمعان الحكومة في السيطرة على المؤسسة العسكرية – سيما بسرعة – قد يستفز ردة فعل منها على مستوى قيادتها هذه المرة.

سابعاً، لا تستطيع الحكومة أن تمعن في عملية تفريغ المؤسسة العسكرية من قياداتها وبشكل سريع جداً في ظل التحديات الكبيرة في الداخل والخارج، وفي مقدمتها مواجهة حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة- داعش والفصائل الكردية المسلحة في شمال سوريا وعمليات التفجير داخل المدن، فضلاً عن المحيط الإقليمي المشتعل.

 

ولذلك، فلا تبدو القيادة السياسية في عجلة من أمرها لإحداث كل ما تريده من تغييرات دفعة واحدة، ولذا فقد بقي رئيس أركان الجيش وقادة القوات الجوية والبحرية والبرية في مناصبهمبعد اجتماع مجلس الشورى العسكري الأعلى الأخير[28]، كما تحرص على التفريق الواضح بين الانقلابيين والمؤسسة العسكرية للحفاظ على الجيش وسمعته وتماسكه، وتحاول استدامة الغطاءين الشعبي والسياسي لخطواتها بحث المواطنين على البقاء في الميادين وإبقاء قنوات التواصل والتفاهم مع أحزاب المعارضة[29].

من جهة أخرى، تبدو القيادة السياسية التركية غير راضية عن أداء جهاز المخابرات العامة برئاسة حاقان فيدان المعروف بأنه رجل اردوغان القوي وكاتم أسراره، إثر فشل الأخير في كشف المحاولة الانقلابية قبل وقوعها، وهو ما ظهر في تصريحات الرئيس وبعض القيادات الأخرى، بما يوحي بقرب استبداله. وهو أمر لم ينفه اردوغان تماماً حين أعلن بقاء الرجل في منصبه “حالياً” مؤكداً أن الأخير وضع الاستقالة تحت تصرفه[30].

يمكن فهم هذا السياق كرغبة من اردوغان والحكومة بتمرير الفترة الانتقالية خلال تطبيق حالة الطوارئ بأقل قدر من التغييرات في المؤسسات الأمنية والعسكرية تجنباً لأي مفاجآت أو اهتزازات أمنية وانتظاراً لتقارير التحقيقات الداخلية التي تجريها كل مؤسسة على حدةبحثاً عن مكامن القصور و/أو التواطؤ فيها. أما على المدى المتوسط – البعيد، فيمكن توقع تغيير رئيس الجهاز وهو ما يمكن أن يكون له انعكاساته على ملفات عدة مرتبطة بشخصه وإنجازاته على مدى سنوات، مثل مكافحة التنظيم الموازي والعلاقة مع “إسرائيل” والملف السوري.

 

ملفات السياسة الداخلية

شكلت لحظة الانقلاب فرصة لتلاقي الأحزاب الأربعة الممثلة تحت قبة البرلمان (وغيرها من الأحزاب الصغيرة) على أرضية مشتركة، حيث سارعت أحزاب المعارضة الرئيسة الثلاث ليلة الانقلاب لإدانته ورفض تدخل الجيش في الحياة السياسية، كما شاركت الأحزاب الأربعة في صياغة بيان موحد باسم البرلمان بهذا الصدد، وهو مشهد نادر وقد يكون غير مسبوق على مدى سنوات حكم العدالة والتنمية[31].

وقد قابلت الحكومة وأردوغان هذه الخطوة من المعارضة بالترحاب والعرفان، فدعا أردوغان رؤساء الأحزاب الثلاثة الكبيرة في البلاد للقصر الجمهوري “لشكرهم على دورهم في حماية الديمقراطية”، وهي المرة الأولى التي يدخل فيها زعيما حزبي المعارضة الأكبر إلى القصر الرئاسي[32]، كما شارك حزب السلطة في المظاهرة التي دعا إليها حزب الشعب الجمهوري المعارض تحت اسم “الجمهورية والديمقراطية” في إسطنبول وهي سابقة تحدث لأول مرة.

من جهة أخرى، تبدو شعبية الرئيس أردوغان وحكومة العدالة والتنمية بعد فشل/إفشال الانقلاب في أفضل حالاتها، حيث أظهر أول استطلاع للرأي بعد الانقلاب أجرته شركة (ORC) أن %79 من المستطلعة آراؤهم يثقون بالرئيس، وأن %72.3 منهم يثقون برئيس الحكومة، و %96 يؤيدون الإجراءات الحكومية في مواجهة الكيان الموازي، و %73.5 يؤيدون إعلان حالة الطوارئ في البلاد، و %95 مقتنعون بمسؤولية الكيان الموازي عن المحاولة الانقلابية[33].

ويبدو اردوغان راغباً في استمرار هذا الدعم الشعبي ولذلك يدعو المواطنين للقاء في الميادين، في المعلن لتأكيد تأييدهم للديمقراطية ورفض الانقلاب وتحسباً لأي خطط بديلة للمجموعة الانقلابية، ولكن ضمنياً فمن باب الحرص على بقاء الغطاء الشعبي للإجراءات الاستثانيةللحكومة والمتعلقة بعمق عملية التحقيق وأعداد الموقوفين والمراسيم الصادرة في ظل قانون الطوارئ.

لا شك أن المشهد الحالي قد يغري حزب العدالة والتنمية بتفعيل ملف صياغة دستور جديد للبلاد والتحول نحو النظام الرئاسي اعتماداً على شعبيته المتزايدة ورهاناً على الاستفتاء الشعبي، لكن الأمر ليس بهذه السهولة إذ تحول دونه عدة عقبات. فلا الحشود في الميادين مضمونة الاستمرار على المدى البعيد، ولا التوافق مع أحزاب المعارضة بلا سقف أو شروط. فوقوف أحزاب المعارضة ضد الانقلاب لا يعني انتفاء خلافاتها السياسية والبرامجية مع حزب السلطة، كما حصل حين رفض حزبان رئيسان من أحزاب المعارضة إعلان حالة الطوارئ.

ولذلك تركز الحكومة في الفترة الحالية على المتفق عليه مع المعارضة من الملفاتواستثمار حالة الحوار والتفاهم القائمة والبناء عليها بشكل متدرج والابتعاد عن الملفات الخلافية قدر الإمكان خاصة موضوع النظام الرئاسي. فاتفقت الأحزاب الثلاثة الكبرى في البلاد على تمرير 60 مادة دستورية كانت لجنة صياغة الدستور المشكلة في الفترة البرلمانية قبل الماضية من كافة أحزاب البرلمان قد اتفقت عليها كخطوة أولى، كما كان اردوغان حريصاً على طلب موافقة المعارضة على طلبه إتباع رئاستي أركان الجيش وجهاز الاستخبارات لرئاسة الجمهورية وقيادات القوات لوزارة الدفاع، فيما ستوضع ملفات إشكالية مثل الدستور الجديد والنظام الرئاسي جانباً في الوقت الراهن بانتظار استقرار المشهد الداخلي.

 

السياسة الخارجية

يرتبط الانقلاب العسكري بشكل مباشر بالسياسة الداخلية ويهدف إلى استلام السلطة، إلا أن تداعياته تتعدى المشهد السياسي الداخلي لتؤثر بشكل مباشر وغير مباشر في السياسة الخارجية لعدة أسباب منها:

1- تعتمد السياسة الخارجية في أدائها وفاعليتها على مدى متانة المشهد السياسي الداخلي.

2- أحد أهم أسباب الانقلاب هو السياسة الخارجية للحكومة، وقد كان ذلك واضحاً في البيان الانقلابي الذي حدد ” إعادة كسب المكانة الدولية التي خسرتها الدولة.” كأحد أهداف الانقلاب[34].

3- لا غنى لأي محاولة انقلابية عن الدعم أو على الأقل الضوء الأخضر من قوى خارجية باعتبار أنه معني بالقبول الإقليمي والدولي بعد وضع يده على السلطة في الداخل. وبالتالي، يحمل الانقلاببين طياته رسالة ضغط خارجية على أنقرة.

يمكن تصنيف انعكاسات المحاولة الانقلابية على سياسة تركيا الخارجية وفق المدى الزمني إلى:

أولاً، على المدى القصير ستحظى الملفات الداخلية المتمثلة في استكمال التحقيق وترسيخ الأمن وهيكلة المؤسسات الأمنية والعسكرية ومكافحة التنظيم الموازي بالحيز الأكبر من اهتمام الحكومة التركية وجهدها، مما سينعكس ركوداً في سياسة أنقرة الخارجية واقتصارها على الحد الأدنى من التواصل الدبلوماسي والذي سيدور في معظمه حول الانقلاب وشرح موقف أنقرة بخصوص إجراءات الطوارئ تحديداً.

ثانياً، على المدى المتوسط وبعد استكمال التحقيق ورفع حالة الطوارئ، يمكن توقع عودة بعض الفاعلية لسياسة أنقرة الخارجية، لكن ليس على قاعدة التوتر مع الأطراف الخارجية التي قد يتكشف تورطها في الانقلاب، بل في سياق استمرار المصالحات وتدوير زوايا الخلاف مع القوى الإقليمية والدولية باعتبار أن مسوغات المراجعات والتراجعات في السياسة الخارجية التركية ما زالت قائمة.

ويمكن أن تعاني العلاقة مع الولايات المتحدة من بعض التوتر على خلفية الادعاءات التي وردت على لسان أكثر من سياسي تركي بدعم واشنطن للانقلاب أو التقارير التي وردت في بعض الصحف المحسوبة على الحكومة متضمنة اسم جنرال أمريكي كمدبر للانقلاب[35]، وعلى خلفية مماطلة واشنطن تسليم زعيم حركة الخدمة والتنظيم الموازي فتح الله كولن المقيم على أراضيها منذ 1999. كما يمكن إضافة التلويح التركي بإعادة عقوبة الإعدام كأحد عوامل تأزيم العلاقة مع واشنطن، وبدرجة أكبر مع الاتحاد الأوروبي الذي كان إلغاء العقوبة أحد متطلبات البروتوكولات الخاصة بطلب انضمام تركيا له عام 2004.

ثالثاً، على المدى البعيد، ستسعى تركيا على خلفية خيبة الأمل التي أصيبت بها جراء المواقف الغربية الرمادية من المحاولة الانقلابية إلى تحقيق نوع من التوازن في علاقاتها الخارجية وتنويع محاورها الرئيسة بالتقارب مع دول مثل روسيا والصين وربما إيران، وهو المسار الذي انتهجته قبل أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015[36]، وربما تكون زيارة اردوغان لروسيا في شهر آب/أغسطس 2016 مؤشراً على وجود هذه الرغبة التركية.

 

خاتمة

تبدو المحاولة الانقلابية في الخامس عشر من تموز/يوليو 2016 فرصة يمكن أن تحصن تركيا ضد أي انقلاب عسكريفي المستقبل على الأقل بشكلهالتقليدي. كما يفتح فشله والإجراءات الحكومية المتبعة والتي تحظى بدعم شعبي كبير إمكانية استثمار الحدث لحل ملفات شائكة في تركيا كانت الحكومة غير قادرة على إنجازها، وفي مقدمتها مكافحة التنظيم الموازي وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية.

بيد أن الطريق لا تبدو سهلة أو بدون تكاليف، حيث أبدت قيادة المؤسسة العسكرية بعض الامتعاض من الإجراءات المتعلقة بها، بينما لا تملك الحكومة كوادر قادرة على ملء الفراغ في المؤسسة العسكرية كما لا تضمن إمكانية القضاء على جيوب التنظيم الموازي فيها. كما أن هناك بعض المخاطر الناجمة عن المحاولة الانقلابية بالنسبة للحكومة، في مقدمتها الضعف الناتج عن الفراغ في مؤسساتها الأمنية والعسكرية، وتقوية التيار الكمالي التقليدي في الجيش بعد تصفية التنظيم الموازي، وعدم ضمان السيطرة التامة على المؤسسة العسكرية لافتقاد القيادات والكوادر، فضلاً عن الانكفاء الإجباري على المشهد الداخلي بما يؤثر على فاعلية وحيوية السياسة الخارجية.

وعليه، فرغم فشل المحاولة الانقلابية في إسقاط الحكومة، إلا أن تداعياتها ستبقى تشغل الحياة السياسية التركية وتوجهها لفترة طويلة، وهي حالة إشغال لا يمكن الاستهانة بنتائجها المباشرة وغير المباشرة على تركيا في ظل التحديات الكبيرة والكثيرة داخلياً وخارجياً.

[1]اردوغان يعلن حالة الطوارئ ثلاثة أشهر، الجزيرة نت، 20 تموز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول 29 تموز/يوليو 2016): http://goo.gl/Xesfuj

[2]وزير الداخلية التركي: عدد الموقوفين على خلفية المحاولة الانقلابية تجاوز 18 ألفاً، وكالة الأناضول، 29 تموز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول 29 تموز/يوليو 2016): http://goo.gl/4P0NwS

[3] Efkan Ala: 8 bin 113 kişi tutuklandı, Habertürk, 27 July 2016, (Entrance Date: 29 July 2016):http://goo.gl/JOLA6q

[4]استبعاد مؤقت لـ 45 ألف موظف بالقطاع العام في تركيا، وكالة الأناضول، 23 تموز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول: 29 تموز/يوليو 2016):http://goo.gl/nUVS9u

[5]تعرف على بنود البيان الأول لحالة الطوارئ في تركيا، TRT العربية، 23 تموز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول: 29 تموز/يوليو 2016): http://goo.gl/jY0Um2/

[6]Over 1000 Turkish Soldiers dismissed over FETO links, Anadolu Agency, 23 July 2016, (Entrance Date: 29 July 2016): httphttp://goo.gl/VmtJiR

[7] الادعاء العام التركي يتهم “كولن” بـ”العمل بإيعاز من أمريكا” وواشنطن تتسلم رسمياً طلب تسليمه، الخليج الجديد، 23 تموز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول: 29 تموز/يوليو 2016): http://thenewkhalij.org/ar/node/42462

[8]Cebindeki para 150 milyar dolar, Yenişafak, 15 July 2016, (Entrance Date: 29 July 2016): http://goo.gl/aHshT1

[9]هي حركة احتجاجية على خطة للحكومة التركية لإعادة هيكلة ميدان تقسيم وسط مدينة إسطنبول كانت ستتضمن قطع بعض الأشجار في نهاية أيار/مايو 2013، تحولت بسرعة إلى حركة احتجاجية واسعة وأعمال شغب، اتهمت الحكومة أطرافاً داخلية وخارجية بافتعالها.

[10] مجموعة اتهامات طالت أبناء وزراء في حكومة العدالة والتنمية ورئيس بلدية أحد أحياء إسطنبول وبعض رجال الأعمال المقربين من الحكومة التركية دمجت كلها في قضية واحدة وتم القبض عليهم في 17 كانون الأول/ديمسبر 2013، ثم أطلق سراحهم لاحقاً، واعتبر المحققون والقضاة الذين رتبوا لهذه القضايا جزءاً من “كيان مواز” للحكومة داخل مؤسساتها يسعى للسيطرة على الدولة وقلب نظام الحكم عبر القضاء.

 

[11]رسمياً .. تركيا تصنف حركة “كولن” منظمة إرهابية، العرب، 1 حزيران/يونيو 2016، (تاريخ الدخول: 29 تموز/يوليو 2016):http://goo.gl/GXPAot

[12]اردوغان: لقد لبسنا الأكفان، جنوبية، 16 تموز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول: 30 تموز/يوليو 2016):http://goo.gl/sl3ODW

[13]مما سرب للإعلام من اعترافات المساعد العسكري (الياور) لرئيس أركان الجيش المقدم لفنت تورك كان أن أعضاء التنظيم في الجيش لا يعرفون بعضهم البعض وأنهم كانوا يخفون أفكارهم وعباداتهم ويصلون إيماءً برموش العين.

[14]  أنظر مثلاً: عقيل محفوظ، السياسة الخارجية التركية الاستمرارية والتغيير، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2012)، ص 70 – 73.

[15]بيانات أو مواقف للمؤسسة العسكرية في بعض الملفات يفهم منها الضغط على الحكومة، وأشهرها البيان الذي أصدرته قبيل انتخابات الرئاسة عام 2007، والتي أسميت “المذكرة الالكترونية” كما سيأتي ذكرها.

[16]هيئة الأمن القومي (MGK) هي هيئة أنشئت بعد انقلاب عام 1960، وقد حددت المادة 118 من دستور عام 1982 مهمتها في “إبلاغ آرائها المتعلقة بتحديد سياسات الأمن القومي وتنفيذها وتأمين التنسيق بين الهيئات المعنية للمجلس الوزاري”، وقد كانت قراراتها شبه ملزمة للحكومة حتى عام 2003. أنظر مثلاً:عقيل محفوظ، مصدر سابق، ص 73 – 77.

[17]تركيا تعدل قانوناً لمنع تبرير “الانقلابات”، سكاي نيوز عربية، 13 تموز/يوليو 2013، (تاريخ الدخول: 30 تموز/يوليو 2016): http://goo.gl/ZV2iPu

[18]للمزيد حول حزمة الإصلاحات أنظر مثلاً: علي حسين بكير، حزمة الإصلاحات الديمقراطية في تركيا: التفاعلات الداخلية والتوقعات المستقبلية، مركز الجزيرة للدراسات، 21 تشرين الأول/أوكتوبر 2013، (تاريخ الدخول: 30 تموز/يوليو 2016):http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2013/10/20131020113131548991.html

[19]”Gift from God”: Erdogan sees coup as ”chance to clear military” while PM mulls death penalty, RT, 16 July 2016, (Entrance Date: 30 July 2016): https://www.rt.com/news/351630-erdogan-turkish-military-relationships/

[20] في بيان صادر عنها في 1 نيسان/أبريل 2016، أعلنت القوات المسلحة التركية عن وجود 358 لواء وأميرالاً في بنيتها: http://www.tsk.tr/3_basin_yayin_faaliyetleri/3_4_tskdan_haberler/2016/tsk_haberler_28.html

[21]مجلس الشورى العسكري الأعلى هو الهيئة العليا في القوات المسلحة التركية. يجتمع سنوياً لمرة واحدة على الأقل لمناقشة قضايا القوات المسلحة المهمة مثل الاستعداد للحرب وتقديم مسودات قوانين تتعلق بالقوات المسلحة للحكومة فضلاً عن ملفات الترقية والفصل من الجيش. يرأس المجلس رئيس الوزراء التركي ويشترك في عضويته رئيس أركان الجيش ووزير الدفاع وقيادات القوات الجوية والبحرية والبرية والقائد العام لقوات الدرك وكل من يحمل رتبة فريق أول في الجيش.

[22]Over 1000 Turkish Soldiers dismissed over FETO links, Anadolu Agency, 23 July 2016, (Entrance Date: 29 July 2016): http://aa.com.tr/en/turkey/over-1-000-turkish-soldiers-dismissed-over-feto-links/617000

[23]اردوغان يقترح إلحاق رئاسة الأركان العامة والمخابرات الوطنية برئاسة الجمهورية، TRT العربية، 29 توز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول: 30 تموز/يوليو 2016):http://goo.gl/dKCmU8

[24]لقاء خاص مع الرئيس التركي، فرانس 24، 23 تموز/يوليو 2016:https://www.youtube.com/watch?v=Qlf8cjpFGhg

[25]  الجدول مقتبس من صحيفة مليت، تاريخ 26 تموز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول 30 تموز/يوليو 2016): http://m.milliyet.com.tr/alti-yil-sonra-tsk-yi-ele-gundem-2284112/

[26]الجيش التركي: نحو تسعة آلاف عسكري شاركوا في محاولة الانقلاب، BBC عربي، 27 تموز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول: 30 تموز/يوليو 2016):http://goo.gl/HMHDfv

[27]جنرالان تركيان يطلبان إحالتهما على التقاعد، تركيا بوست، 28 تموز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول: 30 تموز/يوليو 2016):http://www.turkey-post.net/p-145445/

[28]تركيا: قادة الأركان والبرية والبحرية والجوية باوقن في مناصبهم، الخليج أون لاين، 29 تموز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول: 30 تموز/يوليو 2016):http://goo.gl/9Mq2yM

[29]زعيم تركي معارض: إبعاد الضالعين في محاولة الانقلاب عن صفوف الجيش أمر طبيعي، وكالة الأناضول، 28 تموز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول: 30 تموز/يوليو 2016):http://goo.gl/uJMro9

 

[30]اردوغان يجدد ثقته بقائد المخابرات وينتقد الأوروبيين، الجزيرة نت، 23 تموز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول: 30 تموز/يوليو 2016):http://goo.gl/6biv4Z

[31]برلمان تركيا: الانقلابيون سينالون جزاءهم عاجلاً أم آجلاً، العربية نت، 16 تموز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول: 30 تموز/يوليو 2016):http://goo.gl/MN5qrr

[32]لم يوجه اردوغان الدعوة لرئيس حزب الشعوب الديمقراطية (القومي الكردي) بسبب علاقته مع حزب العمال الكردستاني، ولاستعمال أحد قياداته لفظ “السيد” لوصف زعيم الأخير عبدالله أوجلان مؤخراً في البرلمان التركي حسب مصادر مقربة من الرئاسة.

[33]استطلاع رأي عبر الهاتف أجراه “مركز الأبحاث الموضوعية” (ORC) على 1565 شخصاً في 33 محافظة تركية بين 22 – 24 تموز/يوليو الفائت:

15 Temmuz Dabersine Bakış, ORC, 27 July 2016, (Entrance Date: 30 July 2016): http://goo.gl/pagjha

[34] نص بيان انقلاب تركيا الفاشل، الجزيرة نت، 17 تموز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول: 30 تموز/يوليو 2016): http://www.aljazeera.net/news/international/2016/7/17/%D9%86%D8%B5-%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%86%D9%82%D9%84%D8%A7%D8%A8-%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B4%D9%84

[35]صحيفة تركية: هكذا قاد الجنرال الأمريكي الانقلاب في تركيا، عربي 21، 26 تموز/يوليو 2016، (تاريخ الدخول: 30 تموز/يوليو 2016):http://goo.gl/QwiZaF

[36]أنظر مثلاً: سعيد الحاج، انعكاسات الأزمة مع روسيا على تركيا استراتيجياً، الجزيرة نت، 14 كانون الأول/ديسمبر 2015، (تاريخ الدخول: 30 تموز/يوليو 2016):http://goo.gl/f7pbSu

شارك الموضوع :

اترك رداً