بعد سنتين كاملتين من رسالته الأولى، تأتي رسالة عبدالله أوجلان في عيد النوروز هذا العام لتفتح مرحلة جديدة وجدية في عملية السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، حيث تختلف الثانية عن الأولى من حيث المضمون والسياق والانعكاسات على العملية السياسية وفرص نجاحها.
الرسالة الأولى ومآلها
ذلك أن زعيم حزب العمال الكردستاني كان قد وجه في الحادي والعشرين من آذار/مارس عام 2013 رسالة تليت أمام المحتفلين بعيد النوروز – يوم بدء فصل الربيع، الذي يرمز للخير والبركة والسلام – تدعو إلى حل القضية الكردية سلمياً، ونبذ العنف كوسيلة لتحقيق الحقوق الكردية في تركيا.
جاءت تلك الرسالة بعد أكثر من 30 عاماً من العمل العسكري الذي انتهجه الحزب منذ عام 1984 لتحقيق الانفصال عن تركيا وتأسيس وطن قومي للأكراد، كبدت البلاد ما يقرب من 40 ألف ضحية ومئات الملايين من الدولارات (500 مليارات دولار وفق بعض الإحصاءات). لكن كثيراً من التطورات المحلية والإقليمية والدولية دفعت بالرجل والحزب من خلفه إلى تغيير رؤيتهم السياسية وأهدافهم البعيدة، على رأسها القبض على أوجلان نفسه عام 1999، وعدم وصول حرب العصابات التي يقودها ضد الدولة التركية إلى نتائج ملموسة، واحتلال العراق، ووصول العدالة والتنمية للسلطة. وهكذا فقد نظـّر أوجلان منذ 2005 لاستراتيجية جديدة للحزب وأكراد تركيا من خلفه، تقر بعدم واقعية المطالبة بدولة قومية وتدعو إلى حكم ذاتي ديمقراطي وكونفدرالية ديمقراطية ضمن الدولة التركية.
وقد اعتبرت الرسالة – التي أتت بعد سنوات من اللقاءات السرية – في حينها خطوة تاريخية من الرجل وقوبلت بكثير من الحفاوة، وبدأت فعلاً نتائجها بالتبلور، فغادر المئات من المسلحين الأكراد الأراضي التركية نحو جبال قنديل في العراق، واستمرت الحكومة التركية في مسيرة الإصلاحات السياسية فيما يخص الأكراد تحديداً. فأعلن رئيس الوزراء في حينها أردوغان في الثلاثين من أيلول/سبتمبر 2013 عن “حزمة الإصلاحات الديمقراطية” التي أقرت العديد من الحقوق الثقافية والسياسية والاجتماعية للأكراد مثل التعليم والتقاضي والتأليف والنشر والدعاية السياسية باللغة الأم، وإمكانية إعادة الأسماء القديمة (ما قبل إعلان الجمهورية) للقرى والبلدات الكردية، وزيادة عقوبات جرائم العنصرية والتمييز على أساس الدين والعرق واللغة.
لكن تطورات كثيرة، على رأسها أحداث “جزي بارك” والأزمة السورية ومعركة عين العرب/كوباني، أدت إلى توقف اللقاءات وتراجع حالة التفاؤل، خصوصاً بتأثير معركة عين العرب والمظاهرات الكردية التي ضغطت على الحكومة لتدعم الأكراد في مواجهة تنظيم الدولة وسقط بنتيجتها 34 قتيلاً.
قناعة مشتركة بالعملية السياسية
لكن ثبات الحكومة التركية على سياسة الانتظار الحذر إزاء التطورات في سوريا والعراق وخصوصاً معركة عين العرب، وانتهاء الأخيرة لصالح وحدات الحماية الكردية، وتراجع الدعم الأمريكي لها والمتجاهل للاعتراضات التركية، وتغير الكثير من الظروف الإقليمية باتجاه تخفيف الضغط عن أنقرة، كل هذه التطورات أعادت حزب العمال إلى طاولة المفاوضات مجدداً بقناعة تامة أنها المسار الوحيد لحل القضية الكردية.
تلاقت هذه القناعة الكردية مع قناعة راسخة لدى العدالة والتنمية لا ترى نهضة لتركيا دون حل القضية الكردية سلمياً، لتمتين النسيج الاجتماعي وتفويت فرص التدخلات الخارجية، فبدأت سلسلة من اللقاءات الجديدة نتج عنها مؤتمر صحافي مشترك بين الحكومة وحزب الشعوب الديمقراطي (الذراع السياسية للعمال الكردستاني) تضمن طرح عشر نقاط يمكن اعتبارها إطاراً مرجعياً مبدئياً للعملية السياسية، تتمحور حول إعادة تعريف المواطنة والاعتراف بالحقوق الكردية والإقدام على تعديلات وإصلاحات دستورية تخص هذه الحقوق. ثم توجت كل هذه الجهود برسالة أوجلان الثانية التي اعتبرت أن نضال الحزب المسلح على مدى 40 عاماً قد وصل إلى طريق مسدود، وأن الحل هو ما تريده “شعوب تركيا”، أي الحل السياسي والسلام والأخوّة، داعياً إلى مؤتمر استثنائي لحزبه ينبذ العنف وينتهج النضال السياسي والاجتماعي والحقوقي داخل أطر الدولة التركية.
وتختلف هذه الرسالة عن سابقتها، أولاً في المضمون الذي شمل دعوة واضحة لمؤتمر تاريخي ينهي فترة حمل السلاح، وثانياً في السياق إذ أتت بعد ماراثون من اللقاءات والمفاوضات خلف الأبواب المغلقة تضمنت الاتفاق على كثير من التفاصيل، بينما يأتي الاختلاف الأكبر – ثالثاً – في نطاق التأثير والانعكاسات. فقد سبق الرسالة وواكبها عدد من التطورات، أهمها نقل خمسة معتقلين أكراد ليجاوروا أوجلان في سجن جزيرة إيمرالي ويكونوا بمثابة “سكرتاريا” له في المفاوضات الجارية، وبدء تشكيل “لجنة متابعة” من شخصيات عامة في تركيا مهمتها متابعة ومراقبة العملية السياسية وتقييم أداء الطرفين.
التحديات الحقيقية
إن هذا الإعلان الواضح من أوجلان والترحيب الحكومي به، على أهميتهما، لا يتجاوزان التأكيد على القناعة الراسخة لدى الطرفين بأهمية ووحدانية العملية السياسية حلاً، لكن تحديات المرحلة المقبلة أكثر وأعقد من هذه النوايا الطيبة والقناعات العميقة. حيث تعترض مسيرة التفاوض القادمة جملة من التحديات والصعوبات المهمة التي يحتاج الطرفان للتعامل الجدي معها إن أرادوا للعملية السياسية التقدم والنجاح.
ففي المقام الأول ثمة أزمة ثقة متبادلة بين الطرفين ظهرت في سلسلة من التصريحات العدائية في كلا الاتجاهين، حيث يخشى كل منهما أن يكون الطرف الآخر يناور لكسب الوقت والنقاط، فيلقي الحزب السلاح دون الحصول على شيء، أو تقوم الحكومة بالتعديلات الدستورية المطلوبة قبل إلقاء الحزب سلاحه، وهو ما انعكس على إصرار كل طرف على أن يكون الطرف الآخر هو البادئ بالخطوة الأولى.
ولئن كان من المفهوم أن يحصل هذا التراشق الإعلامي بسبب اقتراب الانتخابات البرلمانية حرصاً على الأصوات، فإن ما يجب على الطرفين الانتباه له هو حاجتهما لبعضهما البعض لصياغة دستور جديد بعد الانتخابات القادمة يقر ويثبّت كل التعديلات المطلوبة، في ظل تمنع حزبي المعارضة الرئيسين، الشعب الجمهوري والحركة القومية.
إن المرحلة المقبلة هي مرحلة التفاوض المباشر التي ستحتاج إلى تحديد الإطار المرجعي وخريطة الطريق وجدولها الزمني، لكنها ستحتاج إلى ما هو أخطر وأكثر حساسية من كل هذا، أي إعادة توصيف الوضع القانوني لكل من أوجلان وحزب العمال الكردستاني ومقاتليه، حيث سيتحول كل هؤلاء من “إرهابيين” يحملون السلاح إلى “شركاء” في عملية سياسية، وهو أمر سيكون تمريره في تركيا من الصعوبة بمكان إذا ما وضعنا بعين الاعتبار نتائج وخسائر حرب العصابات التي يشنها الحزب منذ عشرات السنين إضافة إلى نسبة التأييد الشعبية لعملية السلام التي لا تتعدى وفق آخر استطلاعات الرأي %57.
كما سيعتمد نجاح العملية السياسية على مدى قدرة أوجلان على فرض رؤيته على الحزب وإقناع مراكز القوى فيه بها، وخصوصاً تيار قنديل في العراق الذي حاول أكثر من مرة تحدي قبضة أوجلان المركزية على صناعة القرار. ورغم أنه فشل في ذلك عدة مرات قبلاً، إلا أن فرصه في التشويش على قرار المؤتمر المرتقب لا تبدو منعدمة، خصوصاً أن تبني نبذ العنف خطوة جذرية وانعطافة تاريخية سيكون من الصعب التراجع عنها، كما يمكن المضي بعملية السلام دونها.
في الخلاصة، لن نكون مبالغين إذا اعتبرنا كل ما سبق هذه اللحظة التاريخية مجرد تهيئة للأجواء للعملية السياسية التي ستبدأ تواً، وأن درجة حساسية ومعارضة الخطوات السابقة لا يمكن مقارنتها بحال بالخطوات القادمة التي تتضمن “قضايا الحل النهائي” إن جاز التعبير. فنجاح العملية السياسية لن يعتمد بعد اليوم على القناعات والنوايا الحسنة فقط، بل سيعتمد على مدى قدرة كل من الطرفين على تقديم “تنازلات مؤلمة” لإنجاح عملية السلام، ومدى قدرته على إقناع أنصاره وحاضنته الشعبية (الشعب في حالة الحكومة) بقبول وتبني ودعم هذه التنازلات، خصوصاً أن أي اتفاق قد يتوصل إليه مع حزب العمال الكردستاني سيحتاج إلى إقراره عبر البرلمان أو عبر استفتاء شعبي ما زال وفق الظروف الحالية غير مضمون النتائج.