يخوض حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية منذ تموز/يوليو الماضي موجة جديدة من الصراع المسلح القديم المتجدد بينهما، لكل منهما أهدافه منها، لكن كلاً منهما أيضاً يرغب في إنهائها دون أن يبدو كمن تنازل أو تراجع من طرف واحد.
تدهور مفاجئ
بعد سنتين كاملتين من أول نداء له لإلقاء السلاح، أعاد زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان المعتقل منذ 1999 نداءه في “عيد النوروز” في 23 آذار/مارس 2015 لحل المشكلة الكردية في تركيا بالطرق السلمية، ودعا حزبه إلى تنظيم مؤتمر عام يعلن فيه تخليه نهائياً عن العمل العسكري، لكن ذلك المؤتمر لم ير النور من وقتها.
جاء ذلك النداء بعد إعلان مشترك بين الحكومة وحزب الشعوب الديمقراطي في 28 شباط/فبراير عن خطة طريق من 10 نقاط لحل المشكلة الكردية، تتويجاً لسنوات طويلة من المفاوضات السرية والعلنية بين الطرفين، وبعد سلسلة من الإصلاحات الديمقراطية من قبل الحكومة فيما خص الأكراد، ابتداءً بالانفتاح الديمقراطي مروراً بمشروع الوحدة والأخوّة ووصولاً إلى عملية التسوية أو السلام.
بدا حينها أن العملية السياسية قد وصلت فعلاً إلى لحظة الحقيقة والأسئلة الصعبة حول التنازلات المتبادلة، نبذ العنف وإلقاء السلاح من قبل الحزب ومصير المسلحين وقبلهم أوجلان من قبل الحكومة، لكنها دخلت في سبات عميق منذ ذلك الحين، حتى استيقظت تركيا بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وتحديداً في 20 تموز/يوليو على استئناف العمال الكردستاني لعمله العسكري عبر قتل رَجُليْ شرطة، ثم بدء الحكومة التركية عملية عسكرية واسعة ضده في 23 تموز/يوليو.
أظهرت العمليات المتبادلة بين الطرفين، تحديداً عمليات التفجير الكبيرة التي أودت بحياة العشرات من رجال الجيش والشرطة التركيين والقصف الجوي لمعاقل ومعسكرات ومخازن الحزب في شمال العراق، أظهرت استعداد الطرفين للحظة عودة المواجهة. فأطنان القنابل المزروعة تحت اسفلت الشوارع والخنادق والسواتر التي حفرها الحزب في عدد من المدن والبلدات من جهة، والإصابات الدقيقة والخسائر الكبيرة في صفوف المسلحين الأكراد من جهة أخرى تؤكد أن الطرفين كانا يتوقعان لحظة انفجار ما وانحراف إبرة الأحداث من السياسة إلى العمل العسكري.
حسابات الحكومة
بدء موجة التصعيد الحالية بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي شهدت تراجعاً للعدالة والتنمية عن أغلبيته البرلمانية وإمكانية تشكيل الحكومة بمفرده دفعت المعارضة لاتهامه بافتعال المواجهة بهدف التغطية على تراجعه وكسب أصوات إضافية تحت عنوان مكافحة الإرهاب. أما الحكومة فترد بأن المنظمة الانفصالية – المصنفة إرهابية – كانت هي البادئة بالهجمات بعد سلسلة من التصريحات الداعية إلى بدء “حرب التحرير الشعبية” تلتها عدة عمليات لم يعلن عنها في وقتها حرصاً على عملية السلام ولعدم مفاقمة الوضع.
بيد أن الحكومة – ومن خلفها العدالة والتنمية – تبدو غاضبة جداً وتشعر بأنها خدعت من قبل الحزب، الذي “استغل العملية السياسية وفترة الهدوء” للتسلح والاستعداد لاستئناف عمله العسكري. ولذلك فقد كان ردها سريعاً وحاسماً وشديداً، حيث استثمرت عضويتها ثم انخراطها الفاعل في التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة لقصف معاقل الحزب في جبال قنديل شمال العراق، وأعلنت على لسان أكثر من مسؤول فيها أنها لن توقف العمليات العسكرية حتى يلقي آخر عنصر من حزب العمال سلاحه.
في العشرين من أيلول/سبتمبر الفائت أعلنت رئاسة أركان الجيش التركي عن قتل 1288 من مسلحي الكردستاني خلال 76 يوماً من قصف معسكراته في العراق والمواجهات مع عناصره في بعض البلدات ذات الأغلبية الكردية جنوب شرقي البلاد. تريد الحكومة من خلال هذه العملية إيقاع أكبر الخسائر بحزب العمال، أولاً للحد من قدرته على تنفيذ عملياته، وثانياً لضبط الأمن في البلاد وعلى حدودها، وثالثاً لضمان إجراء انتخابات الأول من تشرين الثاني/نوفمبر في موعدها ودون ضغوط وتهديد الحزب للناخبين، ورابعاَ – وهو الأهم ربما – ضمان طريق العودة للعملية السياسية لاحقاً بعد إضعاف القوة العسكرية للأكراد بما يخفض من سقفهم ويزيد من فرص نجاح الحل من وجهة نظر الحكومة.
لماذا يسكت أوجلان
في الطرف الآخر، يُتهم حزب العمال الكردستاني باستغلال حالة عدم الاستقرار السياسي في البلاد والتنسيق الأمريكي مع أكراد سوريا في مواجهة تنظيم الدولة ليفرض وقائع على الأرض قد يصعب قلبها أو تغييرها، مثل إعلان الإدارة الذاتية في بعض البلديات ذات الأغلبية الكردية، ولي ذراع الحكومة في مفاوضات عملية التسوية لاحقاً من خلال إظهار قوته العسكرية في مواجهة الجيش والشرطة.
ينبغي في هذا الإطار ملاحظة أن القيادات العسكرية للحزب والمقيمة في شمال العراق كانت دائماً ضد تطور العملية السياسية لحل القضية الكردية في مختلف مراحلها، ولطالما صدرت عنها تصريحات توتيرية أو استفزازية ترفض ما تم التوصل إليه مع حزب الشعوب الديمقراطي أو تتحدى بعض نداءات أوجلان. ولذلك تحديداً، يرى بعض المراقبين أن موجة التصعيد الحالية لم تأت فقط لاستثمار تراجع العدالة والتنمية، بل أيضاً لقطع الطريق على صعود الشعوب الديمقراطي سياسياً في البلاد حتى لا يخرج تماماً عن سيطرة العسكريين، بل ولتحدي سلطة وكاريزما أوجلان صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في الحزب حتى الآن، حفاظاً على نفوذهم ووزنهم وتأثيرهم في آلية اتخاذ القرار داخل الحزب، وربما استجابة لبعض الضغوطات والتدخلات الخارجية.
وهنا يتبادر السؤال البديهي والوجيه: لماذا لم يصدر عن عبدالله أوجلان أي موقف علني أو نداء لوقف إطلاق النار حتى الآن، رغم أنه سبق وتدخل – وكان تدخله ناجحاً – في مظاهرات كوباني وأعمال الشغب التي رافقتها وتسببت بموت أكثر من 50 شخصاً؟ يبدو أن الأمر منوط بأحد الأسباب التالية:
أولاً، لا تريد الحكومة التركية أن تظهر بمظهر الضعيف الذي لم يستطع حسم الموقف عسكرياً وأمنياً فاضطر للاستعانة بأوجلان، بل تريد أن تحسم الموقف ميدانياً أولاً لكسر شوكة الحزب واضطراره هو لطلب وقف إطلاق النار.
ثانياً، ربما يكون رأي أوجلان متسقاً مع حزبه ولا يفيد موقف الحكومة، ولذلك فهي لا تريد إظهاره للعلن، بل رفضت عدة طلبات من حزب الشعوب الديمقراطي لزيارة الزعيم الكردي في سجنه في جزيرة إيمرالي.
ثالثاً، قد يكون أوجلان فضل الصمت لئلا يعرض كلمته وهيبته لامتحان امتثال القيادات العسكرية لها، إذ أن تحدي قيادات قنديل لأي دعوة منه لوقف إطلاق النار ستعني فقدانه القيادة الفعلية للحزب التي بقيت فوق مستوى النقاش أو التشكيك حتى الآن رغم كونه معتقلاً.
رابعاً، ربما تكون هناك رسالة ما من أوجلان لعناصر وقيادات حزبه بضرورة التهدئة ووقف إطلاق النار والعودة للحل السياسي، لكنها متروكة لظروف أفضل تكون أدعى لقبولها وتنفيذها، بما يخدم الحكومة وأوجلان نفسه – أمام القيادات العسكرية شبه المتمردة عليه – على حد سواء.
النزول عن الشجرة
يدرك الطرفان أن آخر نفق هذا التصعيد هو ضوء ما على طاولة التفاوض السياسي مجدداً، فلا يمكن للحزب أن يهزم الدولة وينشئ كياناً سياسياً (دولة أو حكماً ذاتياً) رغماً عنها، ولا الدولة تستطيع أن تنهي حزباً مسلحاً يملك حاضنة شعبية، زادت أم قلت.
أكثر من ذلك، لا تريد الحكومة أن تلقي العمليات العسكرية بظلالها على الاستحقاق الانتخابي القادم، لا بوجود العمال الكردستاني ولا بوجود الجيش التركي في مناطق الأغلبية الكردية بما يفتح الباب على إمكانية التشكيك بنزاهتها ونتائجها، ولا يبدو الحزب مصمماً على المضي حتى النهاية في هجماته بعد صدور عدة إشارات وقرائن على خسائره الكبيرة وتراجع دعم الأكراد – أفراداً ومؤسسات مجتمع مدني – لعملياته سيما وأنها فاقدة لكثير من المبررات في نظرهم بعد كل ما تحقق للأكراد وما هم موعودون به على حد سواء. هنا، يمكن اعتبار البيان المشترك الذي وقعته مئات مؤسسات المجتمع المدني الكردية لنبذ العنف، ورفض المواطنين التجاوب مع دعواته للعصيان المدني ومقاطعة العام الدراسي، يمكن اعتبارهما أثقل وطئاً عليه من خسائره البشرية في جبال قنديل أو فشله في حماية المناطق التي أعلن فيها حكماً ذاتياً وخاض فيها مواجهات مع الجيش، سيما في بلدة جيزرة.
في هذه الحالة، التي لا تريد الدولة أن تبدو فيها كمن تنازل أمام “إرهابيين” ولا يفضل الحزب أن يطلب خلالها الهدنة صاغراً، تبرز الحاجة لمن يلعب دور الوسيط بين الطرفين ويؤمن لهما النزول عن الشجرة بأقل الخسائر المعنوية والمادية الممكنة. ولا يمكن أن يكون هناك أفضل من حزب الشعوب الديمقراطي ليلعب هذا الدور، فهو الذراع السياسية للعمال الكردستاني وفي نفس الوقت حزب سياسي مشروع يعمل تحت قبة البرلمان التركي، وقد بدأ فعلاً بمحاولة تحريك المياه الراكدة عبر عدة دعوات أطلقها لوقف إطلاق النار “من الطرفين” بلا قيد أو شرط.
بيد أن لعب حزب الشعوب لهذا الدور منوط – في رأينا – بشروط ثلاثة حتى يتم على الوجه المطلوب:
– وجود حكومة قوية قادرة على اتخاذ مواقف شجاعة بخصوص المسألة الكردية ونقلها لمرحلة سياسية جديدة.
– بقاء حزب الشعوب الديمقراطي كياناً سياسياً شرعياً وقوياً.
– انحسار حدة العمليات العسكرية وتراجع الخسائر ووتيرة العمليات المتبادلة، بما يمهد لطرح مبادرة يمكن أن يقبل بها الطرفان.
وبهذه الرؤية تصبح الانتخابات البرلمانية القادمة في تركيا فرصة سانحة ومنتظرة لإعادة إحياء فرص حل القضية الكردية سياسياً وسلمياً، وإن بعنوان جديد وصيغة مختلفة، بعد ثلاثين سنة من الصراع أودت بحياة أكثر من 40 ألف شخص وكلفت الدولة التركية ما يزيد على 500 مليار دولار، فضلاً عن تمزق النسيج المجتمعي وحالة الاستقطاب السياسي التي لطالما فتحت الباب واسعاً على التدخلات والاختراقات الخارجية.