رغم أن الانتخابات البرلمانية التركية قبل أيام قد أسفرت عن نتائج إيجابية لطرفي عملية السلام الداخلية في تركيا أي حزبي العدالة والتنمية والشعوب الديمقراطي، بتقدم الأول على جميع الأحزاب وتخطي الثاني للحاجز الانتخابي ودخوله البرلمان، إلا أنها فيما يبدو قد وضعت عملية السلام نفسها في ثلاجة حتى إشعار آخر.
مشكلة تركيا الكبرى
أسس مصطفى كمال أتاتورك الجهورية التاركية الوليدة عام 1923 وفق ستة مبادئ، أهمها القومية التركية والدولنة (statism)، وهو مبدأ يراه كثير من المؤرخين “عقدة التأسيس” للجمهورية التركية، وقد أدى إلى إنكار التنوع العرقي واعتبار كل مواطن “تركياً” حتى ولو كان من قومية أخرى. ومع حرمان معاهدة لوزان بعد الحرب العالمية الأولى الأكراد من تأسيس دولة قومية خاصة بهم أسوة بشعوب المنطقة وتوزعهم على أربع دول متجاورة، بدأت المشكلة الكردية تتشكل مع الوقت لتصبح أزمة تركيا الكبرى والمهدد الأبرز لنسيجها الاجتماعي ولحمتها الداخلية.
حرم الأكراد لعشرات السنين من الكثير من حقوقهم السياسية والاجتماعية والثقافية في تركيا رغم أنهم ليسوا أقلية بالمعنى العددي للمصطلح، فقد بلغوا 13.4 مليوناً من أصل 76.6 مليون تركي (%17) وفق أرقام هيئة الإحصاء التركية نهاية عام 2013. في عام 1984، بدأ حزب العمال الكردستاني صراعاً مسلحاً مع الدولة التركية كلفها خلال ثلاثين عاماً أكثر من 40 ألف ضحية و300 – 500 مليار دولار كخسائر مادية في ظل التفاف شعبي حوله، مستفيداً من الإنكار الرسمي على مدى عشرات السنوات لوجود مشكلة كردية من الأساس إضافة إلى إهمال منطقة جنوب شرق تركيا اقتصادياً وتنموياً، وهي حالة ساهمت في تثبيتها العمليات العسكرية التي قادها الحزب وضعف سلطة الدولة في مناطق الجنوب الشرقي ذات الأغلبية الكردية.
ومع تفاقم الأوضاع وزيادة الخسائر البشرية والمادية، حاول بعض القادة الأتراك ممن حظوا بشعبية معقولة ورؤية استراتيجية إثناء الحزب عن العمل المسلح عبر الدخول معه في مفاوضات سياسية لتحقيق مطالبه، لكن أوزال توفي قبل إتمام المشروع ولم يلبث أربكان في الحكم إلا بضعة شهور فقط، لتستمر دوامة المواجهة العسكرية، وتبقى رؤية الدولة الأمنية سيدة الموقف.
مع العدالة والتنمية
لم يستعجل العدالة والتنمية بعد تسلمه السلطة عام 2002 طرح أي مبادرة سياسية خاصة بالقضية الكردية، بل عمل في سنواته الأولى على كسب الدعم الشعبي من خلال تنمية الاقتصاد وتثبيت الاستقرار السياسي، قبل أن يعلن اردوغان عام 2005 من “ديار بكر” كبرى المدن الكردية أنه سيحل المشكلة الكردية دون التخلي عن مبادئ الديمقرطية. وقد ساعده على ذلك خفوت حدة العمليات العسكرية التي قام بها الكردستاني بعد اعتقال أوجلان، إضافة إلى المراجعات التي قام بها الأخير ابتداءً من عام 2005، بالتخلي عن فكرة الدولة القومية لصالح الحكم الذاتي الديمقراطي والكونفدرالية الديمقراطية.
تقوم مقاربة العدالة والتنمية في حل المشكلة الكردية على مبادئ رئيسة، أهمها الاعتراف بالمظلومية التاريخية التي تعرض لها الاكراد، والتي لا يمكن لتركيا النهوض والتقدم بدون حلها، إضافة لتناولها وفق استراتيجية متكاملة أعمق من الرؤية الأمنية – العسكرية البحتة، واعتبارها شأناً تركياً داخلياً لا قضية إقليمية أو حرباً بين أعداء ولذلك تفضل الحكومة التركية استعمال مصطلح “الحل” أو “التسوية” وليس “السلام” لوصف العملية السياسية الجارية، دون التخلي عن مبدأ ضرورة إلقاء السلاح أولاً.
وقد مرت العملية بعدة مراحل انعكست حتى على تسميتها من “الانفتاح الديمقراطي” إلى “مشروع السلام والأخوّة” إلى “عملية التسوية” أو الحل، بما فيها الخطوات التمهيدية الأولى التي شملت المشاريع التنموية والاقتصادية لجنوب شرقي البلاد والسماح بتعليم اللغة الكردية وافتتاح أقسام لتعليمها في الجامعات التركية وإطلاق قناة تلفزيونية رسمية ناطقة بها، مروراً باعتمادها لغة للكتابة والتأليف ثم المرافعة والتقاضي، وصولاً لإعادة الأسماء الكردية لبعض القرى والبلدات وإقرار قانون “إنهاء الإرهاب وتمتين الوحدة المجتمعية”، الذي يفوض الحكومة باتخاذ الإجراءات الضرورية للعملية السياسية، ويسمح بعودة من يلقي السلاح لبيته ويضمن مشاركته في الحياة المجتمعية.
وقد توجت اللقاءات بين زعيم الحزب المعتقل عبدالله أوجلان والدولة التركية ممثلة بجهاز استخباراتها بنداء أوجلان الشهير عام 2013 والذي دعا فيه إلى إلقاء السلاح وحل القضية الكردية بالطرق السلمية. وبعد مغادرة المئات من مسلحي الحزب الأراضي التركية وعقد سلسلة لقاءات بين الطرفين بمشاركة حزب الشعوب الديمقراطي كشريك ووسيط، دخلت العملية السياسية في حالة جمود بسبب عدة تطورات محلية وإقليمية، على رأسها أحداث “جزي بارك” عام 2013، وإعلان منطقة حكم ذاتي كردية في الشمال السوري بداية 2014، إضافة إلى معركة عين العرب/كوباني وما رافقها من مظاهرات في المناطق التركية ذات الأغلبية الكردية سقط على إثرها 34 قتيلاً، قبل أن تستأنف بإعلان خريطة طريق بين الحكومة وحزب الشعوب الديمقراطي وتجديد أوجلان لخطابه في “عيد النوروز” في آذار/مارس الفائت بعد سنتين بالضبط من النداء الأول.
الشعوب الديمقراطي يقلب الطاولة
لكن هذا الجو الإيجابي سرعان ما تبدد دون مقدمات وبشكل غير متوقع، ليسود التوتر العلاقة بين الطرفين خاصة بين رئيس الجمهورية اردوغان ورئيس الحزب دميرطاش الذي اختصر كلمته أمام كتلة حزبه البرلمانية في آذار/مارس الفائت بجملة واحدة قائلاً: “ما دام حزبنا موجوداً فلن تكون رئيساً”، قاصداً الوقوف في وجه رغبة اردوغان بالتحول إلى النظام الرئاسي، وهي الجملة التي أصبحت شعاراً لحملة الحزب الانتخابية.
فقد وضعت الانتخابات البرلمانية الأخيرة الشريكين السابقين وجهاً لوجه، بسبب مادة “العتبة الانتخابية” التي تشترط الحصول على %10 من الأصوات لدخول البرلمان، والتي كانت تعني أن فشل الشعوب الديمقراطي سيصب في صالح العدالة والتنمية للحصول على أغلبية مريحة تسمح له بإقرار دستور جديد للبلاد وإقرار النظام الرئاسي. من ناحيته، استثمر دميرطاش الفرصة وقدم حزبه كحائط السد الوحيد أمام مشروع اردوغان، طالباً الدعم والأصوات لدخول البرلمان، وهو ما تم له بنتيجة غير مسبوقة ولا متوقعة (%13).
كثيرة هي أسباب الصعود الصاروخي للحزب الوليد (تأسس عام 2012) في مقدمتها قدرته على تطوير رؤيته لتخاطب كافة الأتراك فضلاً عن الأكراد، والكثير من أخطاء العدالة والتنمية واردوغان مثل إنكار الأخير وجود “مشكلة كردية” في تركيا والخطاب الحاد بين الطرفين، لكن أوساط العدالة والتنمية ترى أن الحزب مجرد مشروع خارجي لإضعاف العدالة والتنمية وإيقاف مشروعه، سيما في ظل تطورات الأزمة السورية وتبدل التوازنات الإقليمية، وبحث الإدارة الأمريكية عن حلفاء جدد في مقدمتهم إيران والأكراد.
حتى بدء الحملات الانتخابية كانت الكثير من الأوساط ترى أن البرلمان الجديد سيشهد تعاوناً وثيقاً بين العدالة والتنمية والشعوب الديمقراطي لدفع عملية التسوية وصياغة دستور جديد يعيد حقوق الأكراد الثقافية والسياسية، ولكن يبدو أن الخلاف ثم نتيجة الانتخابات – وخصوصاً نسبة الشعوب الديمقراطي – قد وضعا حداً لمشروع النظام الرئاسي على الأقل مؤقتاً، وهو ما يضعف حظوظ عملية التسوية باعتبار أن رئيساً قوياً ومؤمناً بها كاردوغان كان سيصبح إحدى ضماناتها الأساية في ظل النظام الرئاسي.
من ناحية أخرى، حسم حزب الشعوب الديمقراطي موقفه منذ اللحظات الأولى بعيد إعلان النتائج غير الرسمية بالتأكيد على أنه لن يدخل مع العدالة والتنمية في أي حكومة ائتلافية، واضعاً علامات استفهام كبيرة وكثيرة حول هذا الموقف، فمن المفهوم أن تطغى الحدة على الحملات الانتخابية لكن المتوقع أيضاً أن تحضر مشاورات ترتيب الوضع السياسي في البلاد بين مختلف الأطراف بعد إعلان النتائج وتبدأ المفاوضات والمساومات للوصول لشكل وتركيبة الحكومة الائتلافية.
الإشكالية الكبرى في موقف الحزب ذي الجذور الكردية تكمن في أنه قطع نهائياً بعدم تعاونه مع شريكه الوحيد في عملية التسوية التي يفترض أنها ستنهي مظلومية الأكراد في تركيا، متعللاً بأن نسبة مهمة من المصوتين له فعلوا ذلك فقط نكاية في العدالة والتنمية وأنه لا يريد أن يخذل هذه “الأصوات الأمانة” لدى حزبه كما يسميها. صيغة كهذا لا تعني فقط عدم تعاون الشريكين السابقين مجدداً لإحياء العملية السياسية بل قد تعني إيقافها تماماً، إما بتحالف العدالة والتنمية مع أحد الحزبين الآخرين أو بتشكيل أحزاب المعارضة الحكومة من دونه، فحزبا الشعب الجمهوري والحركة القومية معارضان لهذه العملية، الثاني من ناحية المبدأ (ينكر وجود مشكلة كردية) والأول بشكلها الحالي (يريدها عبر البرلمان وبسقف وأطراف مختلفين)، مما قد يعيدها إلى نقطة الصفر بعد كل ما بذل من وقت وجهد.
هكذا يبدو للمراقب من بعيد أن اردوغان ومن خلفه العدالة والتنمية قد بنوا جدران عملية التسوية مع الأكراد لبنة لبنة، مخاطرين بالكثير في ظل معارضة شعبية وحزبية، مما أدى إلى تقوية حزب الشعوب الديمقراطي وجعله لاعباً رئيساً عبر الدور الذي لعبه فيها، لكن الأخير بمجرد دخوله البرلمان كحزب سياسي لأول مرة في تاريخ الحركة السياسية الكردية قلب ظهر المجن لاردوغان وللعدالة والتنمية وللعملية السياسية برمتها، على الأقل بشكلها الحالي ومنجزاتها السابقة. وهو ما يطرح أسئلة وجيهة حول الطريق البديل الذي سيسلكه الحزب أو المشروع الرديف الذي قد يكون عُرض عليه ليخاطر كل هذه المخاطرة، طبعاً في حال سارت الأمور بذات المسار ولم ترجح كفة العدالة والتنمية مجدداً عبر بوابة الانتخابات المبكرة أو وفق أي سياق آخر.