رسمت نتائج الانتخابات البرلمانية التركية مشهداً سياسياً وحزبياً جديداً في تركيا، شديد الاختلاف عما اعتادت عليه منذ 2002، ووضعتنا أمام ضرورة قراءة ما هو أعمق من النتائج والأرقام المجردة، في محاولة لاستشراف سيناريوهات المستقبل القريب الممكنة.
الأرقام والدلالات
رغم تقدمه على جميع الأحزاب المنافسة له في رابع انتخابات برلمانية على التوالي، إلا أن ما أفرزته صناديق الاقتراع وفق النتائج غير الرسمية حتى تاريخ كتابة هذه السطور حرم حزب العدالة والتنمية من إمكانية تشكيل الحكومة بمفرده، وألجأه إلى سيناريوهات بديلة لم يضطر للجوء لها من قبل.
ذلك أن الحزب لم يفشل فقط في الوصول إلى 367 نائباً لتغيير الدستور عبر البرلمان، وفقد حتى فرصة طرحه على الاستفتاء الشعبي (330 مقعداً)، بل بات غير قادر حتى على تشكيل الحكومة بمفرده بعد خسارته الأغلبية البرلمانية، إثر ثبات أصوات الشعب الجمهوري وتقدم كل من حزبي الحركة القومية والشعوب الديمقراطي، حيث وضع الأخير بتخطيه حاجز %10 الانتخابي حداً لطموح العدالة والتنمية.
أعمق من الأرقام والنتائج المجردة، نستطيع أن نستخلص النتائج الجوهرية المهمة التالية من العملية الانتخابية:
أولاً، رسوخ الديمقراطية في تركيا: إذ شارك أكثر من 47 مليوناً و400 ألف ناخب تركي في الانتخابات بنسبة مشاركة بلغت %87، دون أحداث كبيرة أو اعتراضات تذكر، وأكدت تصريحات كل الأحزاب السياسية على احترام النتائج ورأي الشعب التركي، وهو مؤشر صحي يشير إلى تقدم التجربة الديمقراطية التركية بكل الأحوال.
ثانياً، التصويت بناء على الهوية: حيث اتضح أن معظم الأكراد قد صوتوا لحزب الشعوب الديمقراطي، وتشير النتائج الخاصة بكل منطقة على حدة إلى انزياح حوالي %3 من أصوات العدالة والتنمية إليه، فسرت على أنها أصوات “الإسلاميين الأكراد” الذين قدموا الهوية الكردية على غيرها من معايير الاختيار. وفي مقابل ذلك، أذكى مشروع الشعوب الديمقراطي وعملية السلام مع الأكراد الحس القومي لدى أطياف كثيرة ساهمت في رفع نسبة الحركة القومية، وهو أمر مفهوم وفق منطق الاجتماع السياسي بطبيعة الحال. من ناحية أخرى، يبدو أن الشعب الجمهوري ذا الاتجاهات الكمالية العلمانية قد حافظ على كتلته الصلبة رغم غيابه عن الحكم لأكثر من 13 عاماً، فهو إذاً تصويت أيديولوجي قبل أي شيء آخر.
ثالثاً، الخريطة الحزبية التركية: أكدت نتائج الانتخابات أن المشهد السياسي التركي يتضمن أربعة تيارات رئيسة ممثلة في الأحزاب الأربعة التي نجحت في الوصول إلى البرلمان، وأنها خريطة مستقرة ومستدامة ومن الصعب تغييرها أو تجاوز أي من أطرافها في المستقبل القريب: العدالة والتنمية ممثلاً لمعظم الإسلاميين، والشعب الجمهوري ممثلاً لأغلب العلمانيين، والحركة القومية كتيار أساسي للقوميين والشعوب الديمقراطي كإطار لغالبية الأكراد.
رابعاً: رفض مشروع النظام الرئاسي: إذ كان هذا المشروع أحد أهم أسباب تصويت نسبة كبيرة من أنصار الشعب الجمهوري للشعوب الديمقراطي، وتخوف أطياف واسعة من الناخبين الأتراك من إمكانية تحول البلاد إلى نظام أكثر سلطوية. وتؤكد النتائج غير الرسمية أن كل السيناريوهات الحكومية الممكنة ستتطلب تخلي اردوغان والعدالة والتنمية عن هذا المشروع، ولو مؤقتاً.
الأكراد حصان الانتخابات الأسود
خرج حزب الشعوب الديمقراطي كأكبر الفائزين في هذه المعركة الانتخابية، فبعد أن كانت غاية طموحه أن يتخطى “العتبة الانتخابية” المتمثلة بنسبة %10 لدخول البرلمان، وجد نفسه أمام تمثيل تاريخي قياسي للأكراد في البرلمان (%13، بمجموع 80 مقعداً)، ومقدماً نفسه كممثل شبه حصري لهم، بفضل العوامل التالية:
1- التصويت على الهوية الذي كان الأكراد أكبر المستفيدين منه، كحزب قومي أيديولوجي يمثل أقلية.
2- تطوير الحزب لرؤيته وخطابه وتقديم نفسه على أنه ممثل الأكراد أولاً وهو ما ضمن له أصوات معظم الإسلاميين الأكراد المؤيدين للعدالة والتنمية ، ثم “حزب كل تركيا” ثانياً، باعتباره مدافعاً عن “كل الشعوب المسحوقة”.
3- بنى الحزب حملته الانتخابية على أساس العداء مع العدالة والتنمية واردوغان، وتعهد بدخول البرلمان لحرمان الحزب الحاكم من الأغلبية وتحويل النظام في البلاد إلى رئاسي، وهو ما أمن له نسبة غير قليلة من أنصار حزب الشعب الجمهوري خاصة.
3- اجتماع أحزاب المعارضة الثلاث على مهاجمة الحزب الحاكم وتجنب الانتقادات البينية، مما وضع إخفاقات وأخطاء العدالة والتنمية تحت مجهر الناخب التركي، خصوصاً في ظل دعم واضح من وسائل الإعلام المحسوبة على جماعة كولن ومجموعة “دوغان” المعارضة.
4- حدة الخطاب والتراشقات بينه وبين اردوغان تحديداً، ثم التفجيرات التي استهدفت بعض مقاره وأحد مهرجاناته الانتخابية في مدينة “ديار بكر” قبل الاستحقاق الانتخابي بيومين، حيث لعب ذلك على وتر “سيكولوجيا الأقليات” ومشاعر المظلومية، فحشد المترددين من أكراد الجنوب الشرقي للتصويت.
أسباب التراجع
من ناحيته يبدو العدالة والتنمية كمن فاز رغم الخسارة أو خسر رغم الفوز، حيث حافظ على تقدمه في الانتخابات وبفارق كبير عن أقرب منافسيه، بيد أنه بعيد عن إمكانية تشكيل الحكومة بمفرده، متراجعاً بنسبة 9% على الأقل عن نتيجته في انتخابات عام 2011.
ويبدو أن أهم عوامل هذا التقهقر كان التغيير في قيادة الحزب، حيث خسر أولاً مؤسسه وقائده اردوغان الذي انتقل للقصر الرئاسي، كما خسر جهود 70 من قيادات الصف الأول وأصحاب الخبرات والإنجازات فيه بسبب نظامه الأساسي الذي يمنع الترشح لأكثر من ثلاث فترات متتالية.
من ناحية أخرى يبدو أن الفوز بتسع مناسبات انتخابية متتالية منذ 2002 قد أدى إلى بعض الكسل والتراخي بين المسؤولين والأنصار من جهة، كما قلل من الحماسة للتصويت، بسبب تراجع الشعور بالمظلومية والتهديد في حال غياب الحزب عن المشهد السياسي من جهة أخرى. فضلاً عن أن تراجع وتيرة الإنجاز عما كانت عليه قبل 12 عاماً – وهو أمر متوقع وفق سياق التجربة ومراحلها – قلل من رضى المواطن، إضافة إلى نسبة لا بأس بها تبدو غير راضية عن أداء الحزب أو بعض مسؤوليه – مثل خلافات القياديين – فأرادت أن ترسل له رسالة عبر عزوفها عن التصويت أو التصويت لغيره.
أيضاً، يبدو أن العدالة والتنمية لم يقو على مواجهة الأحزاب المعارضة الثلاثة والمنظومة السياسية والإعلامية الداعمة لها لوحده، خاصة أن تهم الفساد التي لاحقت بعض وزرائه – وبرأتهم منها المحاكم – بقيت سيفاً مسلطاً في يد المعارضة أجادت استثماره.
كما يبدو أن اردوغان وحزبه السابق فشلا في تسويق مشروع النظام الرئاسي للبلاد ولم ينجحا في طمأنة المتوجسين من إمكانية جنوح البلاد نحو الدكتاتورية، كما أن مشاركته الفاعلة في ميادين الانتخابات – رغم دستور يفترض حياديته – قد زاد من هذه المخاوف وأعطى شعوراً بعدم الثقة بداود أوغلو نفسه.
السيناريوهات المتوقعة
في ظل كل هذه المعطيات وعدد المقاعد التي حصل عليها كل حزب، تبدو البلاد أمام مشهد جديد تماماً، يحتاج لمقاربة مختلفة عما اعتادته البلاد منذ 2002، ويلوح في الأفق أحد ثلاثة سيناريوهات:
سيناريو يشمل العدالة والتنمية: حيث تقضي الأعراف الدستورية بتكليف رئيس الجمهورية لرئيس الحزب صاحب أعلى الأصوات (أحمد داود أوغلو) بتشكيل الحكومة، ليسعى الأخير إلى تشكيل حكومة ائتلافية مع أحد الأحزاب الأخرى، أو الحصول على دعمها لتشكيل حكومة أقلية. ورغم أن هذا الخيار متاح نظرياً مع الأحزاب الثلاثة، إلا أن الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي أغلقا باب التعاون بشكل قاطع، أما حزب الحركة القومية فقد أوحى بشرطين يتعلقان بموقع اردوغان في الحياة السياسية إضافة إلى عملية السلام مع الأكراد الأمر الذي يصعب فكرة التحالف.
سيناريو يستثني العدالة والتنمية: إذ لا يشترط الدستور على الرئيس تكليف المتقدم في الانتخابات فقط، وبذلك قد يتم تفعيل هذا الخيار في حال أصرت أحزاب المعارضة الثلاثة على رفض التعاون مع داود أوغلو واتفقت على التحالف فيما بينها، باعتبار أن مجموع أصواتها يعطيها الأغلبية ويؤهلها لإعطاء الحكومة الثقة. وبذلك تستطيع هذه الأحزاب من الناحية النظرية تشكيل حكومة ائتلافية ثلاثية، أو دعم حكومة أقلية من حزبين منها، لكنه في كل الأحوال خيار صعب التحقق، أولاً بسبب الخلافات الكبيرة بين أطراف هذا الائتلاف، خاصة الحركة القومية والشعوب الديمقراطي، وثانياً لأن الكرة في ملعب اردوغان الذي لا يلزمه الدستور بهذا الخيار الذي سيجلس العدالة والتنمية على مقاعد المعارضة.
سيناريو الانتخابات المبكرة: أما في حال مضى 45 يوماً دون تشكيل أي صيغة حكومية، فللرئيس الحق بالدعوة إلى انتخابات مبكرة بالتشاور مع رئيس البرلمان، للخروج من حالة الانسداد السياسي. فضلاً عن أي صيغة ائتلافية أو حكومة أقلية تحمل بين طياتها عوامل التنافر والفشل، إضافة لخبرة تركيا السيئة فيما خص الائتلافات الحكومية، مما يجعل سيناريو الانتخابات المبكرة – لاحقاً – مطروحاً بقوة حتى في حال تشكيل الحكومة.
وفي كل الأحوال، فقد دخلت تركيا مرحلة جديدة في تاريخها المعاصر وباتت على مفترق طرق، فإما حالة استقرار بمعادلات وديناميات جديدة وإما انتخابات مبكرة غير مضمونة السياق أو النتائج، وسيكون المحدد الأبرز للمشهد التركي هو مدى تحلي الأحزاب الأربعة بروح المسؤولية والحكمة في إدارة هذه المرحلة الجديدة، خصوصاً في ظل إشارات أولية بتأثر الاقتصاد التركي بالنتائج المفاجئة، وتخوف المواطن التركي من عودة شبح الانسداد السياسي والأزمات الاقتصادية التي عانت منها تركيا ما قبل العدالة والتنمية.