اردوغان والنظام الرئاسي .. القصة الكاملة

مع اقتراب الانتخابات البرلمانية في تركيا، لا تنشغل الأوساط السياسية والإعلامية بنتائجها المحتملة وأرقامها وإحصاءاتها، بقدر ما تشغلهم الملفات المترتبة على نتائجها، وعلى رأسها عملية “التسوية” مع الأكراد والدستور الجديد والنظام الرئاسي الذي يدعو له اردوغان، وهي ملفات متشابكة ومترابطة إلى حد بعيد.

والحقيقة أن اردوغان – المتهم بمحاولة تغيير النظام السياسي ليحكم سيطرته على الحياة السياسية التركية – لم يكن أول من دعا إلى تغيير النظام في البلاد، بل تعود نقاشات النظام الرئاسي في تركيا إلى عهد جمعية الاتحاد والترقي في نهايات الدولة العثمانية، كما سبق اردوغان إلى ذلك أكثرُ من قائد سياسي حين وجد في حزبه القدرة على تشكيل حكومة بمفرده، مثل تورغوت أوزال (1987) وسليمان دميريل (1997). لكن الفارق أن الأخير لا يدعو مثل سابقيه إلى تغيير النظام السياسي وحسب، بل إلى دستور جديد متكامل يصوغ الحياة السياسية التركية بمختلف جوانبها.

والحقيقة أن النظام السياسي التركي قد تغير عدة مرات سابقاً، وكان الهدف في كل مرة إحكام السيطرة على المشهد السياسي حتى لا يخرج عن تحكم نظام الوصاية الذي قام بعدة انقلابات عسكرية، وصاغ الدساتير في إثرها لضمان استمرار تحكمه. فقد أُقِر النظام البرلماني في دستور عام 1961 (بعد انقلاب 1960)، ثم وسعت صلاحيات الرئيس في دستور 1982 (بعد انقلاب 1980) ليصبح النظام فعلياً ما بين البرلماني وشبه الرئاسي.

وفي ظل العمل بدستور عام 1982 الانقلابي، كان جل ما يرغب به أوزال أو دميريل هو تخفيف قبضة نظام الوصاية، أما ما يريده اردوغان ومن خلفه العدالة والتنمية اليوم فيتجاوز ذلك بمراحل، وله من المسوغات والأسباب الكثير.

فعلى مدى 13 عاماً من الحكم، استطاع العدالة والتنمية فعلاً تفكيك الكثير من دوائر التحكم في الحياة السياسية والحزبية التركية، فتم تحييد المؤسسة العسكرية عن التدخل المباشر في تفاصيل القرار السياسي، وتهميش سطوة عدد من المؤسسات الاقتصادية والإعلامية، إضافة إلى إصلاحات طويلة ومعمقة في الجهاز القضائي، عبر سلسلة من الاستفتاءات الشعبية على تعديلات دستورية ومشاريع قوانين أقرها البرلمان وتعميمات في الوزارات والمؤسسات المختلفة. وكتتويج لكل ذلك، يخطط الحزب الحاكم فيما يبدو لتحويل كل هذه المكتسبات الدستورية والمدنية إلى حالة راسخة ومأسستها عبر صياغة دستور ونظام سياسي جديدين.

إن الصلاحيات التي أعطاها دستور عام 1982 للرئيس في مواجهة البرلمان والحكومة، ثم الاستفتاء الشعبي على انتخاب الرئيس من الشعب مباشرة عام 2007 جعلا من النظام السياسي في تركيا شبهَ رئاسي، من خلال تداخل صلاحيات كل من مؤسستي الرئاسة والحكومة. ومن البديهي أن فض هذا الاشتباك يحتاج إلى بلورة نظام سياسي واضح من خلال دستور جديد يتجاوز عراقيل ومطبات “دستور العسكر”.

إن الهدف الرئيس لدستور 1982 كان “فرملة” أي حكومة تحمل بذور الاستقلالية في القرار، ولذلك فقد تقصّد فرض حالة بيروقراطية ثقيلة تتداخل فيها السلطات وتمر عملية أخذ القرار فيها من مراحل ثلاث. فيتدخل القضاء مثلاً في قرارات إدارية إجرائية بحتة (مثل تعيين مدير عام هيئة الإذاعة والتلفزيون) بينما تحتاج القوانين إلى إقرار الرئيس الذي يمكنه ردها للبرلمان لإعادة النقاش أو رفعها للمحكمة الدستورية أو رفضها، وهي سياسات اتبعها مثلاً الرئيس الأسبق أحمد نجدت سيزار لعرقلة العدالة والتنمية خلال فترة رئاسته التي امتدت حتى عام 2007.

الجدير بالذكر أن عقم الدستور الحالي وحاجة البلاد لدستور جديد أمر مجمع عليه بين الأحزاب التركية المختلفة، لكن الخلاف يكمن في فكرة النظام الرئاسي التي ترى المعارضة أنها مصممة على مقاس اردوغان، السياسي القوي صاحب السيرة الذاتية الحافلة، وهي مخاوف ربما لها ما يبررها، في ظل النزعة السلطوية للرجل والكاريزما التي يتمتع بها وطموحه غير الخفي، وفي ظل ترهل المعارضة وفشلها المتكرر في كل الاستحقاقات الانتخابية منذ 2002.

لكن ما يطرحه العدالة والتنمية أبعد من مجرد السيطرة على الحياة السياسية (الأمر المتحقق حالياً) وأعمق من مجرد استتباب الأمر لاردوغان، بل يقدم مقاربة متعلقة بحجم ودور “تركيا الجديدة” ونظرتها للإقليم والعالم ودورها المرتقب في كل ذلك، ضمن رؤية 2023 التي تتطلب آلية اتخاذ قرار أكثر مرونة وعملية وسرعة من النظام الحالي المكبل بقيود البيروقراطية.

لقد أدى النظام السياسي في ظل دستور 1982 إلى إفشال تركيا وإدخالها في أزمات اقتصادية عميقة أوصلتها حد الإفلاس، في ظل انهيار الحكومات الائتلافية المتلاحقة وتحت سيف تداخل الصلاحيات بين المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولم ينقذ تركيا إلا استقرار الوضع السياسي نسبياً في ظل حكومات العدالة والتنمية التي شكلها بمفرده. وحتى في ظل انتخاب رئيس من قبل الشعب  – بما يمنحه من شرعية دستورية لم يحظ بها سابقوه – ثم استخدامه لصلاحياته الدستورية، فإن ذلك لم يؤد إلى أي عراقيل كبيرة حتى الآن، بسبب التناغم القائم بين الرئاسة والحكومة والبرلمان. لكن تغير المشهد السياسي الحزبي في أي انتخابات قادمة ولو بشكل جزئي قد ينذر بعودة تركيا مرة أخرى لدوامة التعارض والتنازع والفشل أو الإفشال.

إن ما تتم مناقشته الآن لا يعدو كونه مجرد أفكار متناثرة هنا وهناك في العناوين العريضة، لأن أي تغيير في النظام السياسي سيكون عبر دستور جديد، يمر إما عبر البرلمان أو من خلال استفتاء شعبي، وهي آليات ديمقراطية مشهود لها بالنزاهة في تركيا، ويفترض – وفق مقاربة الحزب الحاكم – أن تطمئن المعارضة جزئياً. إذ ليس هناك حتى الآن تصور واضح للنظام الرئاسي المنشود (البعض يتحدث عن نظام شبه رئاسي) وصلاحيات الرئيس وشكل النظام السياسي برمته، وضمانات عدم تحوله إلى دكتاتورية، وهي كلها نقاشات ستبدأ فقط بعد الانتخابات البرلمانية القادمة ووضوح تركيبة البرلمان القادم وتكتلاته وتحالفاته الحزبية.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

عودة غل .. الكل له حساباته

المقالة التالية

ماذا يحمل عيد النوروز لتركيا هذا العام؟

المنشورات ذات الصلة